فى حضرة العادى الاستثنائى - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 1:49 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فى حضرة العادى الاستثنائى

نشر فى : الخميس 31 مارس 2016 - 8:10 ص | آخر تحديث : الخميس 31 مارس 2016 - 8:10 ص

فى زيارة إلى مخيم للاجئين السوريين قمت بها أخيرا فى بلد استقبل عددا كبيرا منهم، دعتنى سيدات قابلتهن هناك لشرب القهوة فى بيوتهن. البيوت عبارة عن عربات مسبقة الصنع تضم كل عربة منها عائلة، تحاول الأم داخل العربة جاهدة إعادة نسج حياة عائلية عادية، تعتمد فيها على بطاقات المساعدات الغذائية للحصول على مكونات بسيطة تطبخ منها وجبة لأطفالها. الحياة صعبة والموارد شحيحة، حتى مع وجود بعض الفرص لأعمال بسيطة يقوم بها الرجال ومعظم الشباب، مقابل حفنة إضافية من النقود تساعدهم على حفظ كرامتهم أمام نسائهم.

تغلى أم عمر القهوة على سخان صغير أمام العربة التى أصبحت الآن مملكتها. ترفع قدر العدس من على السخان حتى تستطيع أن تحضر القهوة، فعين النار الوحيدة هى عين أم عمر على مطبخها: تطبخ، تسخن الماء، تحضر القهوة للضيوف وتغلى عليها ثياب أطفالها المبقعة. أمام العربة ــ البيت زرعت أم عمر النعنع والريحان فى علب من الصفيح كانت فى حياة سابقة علبا للسمنة.

«بالله بالله خليكى عالغدا عنا» تشد السيدة على يدى وهى تدعونى للبقاء، «طابخين مجدرة ومكترين البصل على وجهها» تقول لى بحرارة. المجدرة طبق سورى لطالما وصف بأنه طبق للفقراء، رغم مكانته العالية فى قلب وبطن الكثيرين. فالمجدرة طبق خالٍ من اللحمة، صيامى كما يقال فى أحياء سوريا المسيحية، يعتمد على خليط العدس مع الأرز (أو العدس مع البرغل، حسب البيوت) وتكسى وجهه طبقة كثيفة مقرمشة من أجنحة البصل المقلية بالزيت. كثيرا ما كانت جدتى تطبخ المجدرة وترسل لى طبقا إلى بيتنا إن لم يتوفر لدى وقت لزيارتها يومها.

لا أعرف كيف أجيب السيدة، بوجهها المحمر من حرارة دعوتها لى ومن أشعة الشمس حيث كنا نجلس. هى تشبه جدتى ونساء عائلتى، بعينيها الخضراوين وبعض من شعرها الهارب من تحت منديل ربطت به رأسها ريثما تقوم بأعمالها المنزلية. فى عربتها مسبقة الصنع، وضعت مفرشا صغيرا صنعته بنفسها على صينية من البلاستيك قدمت لى عليها فنجان القهوة.

•••

أنظر إلى الأطباق تجف ريثما تقلى أم عمر البصل كما وعدتنى، وأفكر بعدد الأمور والمواقف التى تصادفنا يوميا دون أن نلتفت إليها بتاتا لأنها عادية. نستيقظ فى يوم عادى ونقوم بمهامنا الصباحية العادية، نحضر الطعام، نلبس، نوصل الأطفال إلى المدرسة، نبدأ بالعمل مثل أى يوم عادى، نستقبل مكالمات، نشرد أحيانا، ننظر إلى صفحات الأصدقاء على فيسبوك، نشرب فنجان قهوة، ثم نواصل عملنا، نعود إلى البيت، نتحدث مع الجارة، نكلم والدتنا بالهاتف. «توفيت حماة سارة» تقول لنا والدتنا، نسأل عن العزاء حتى نقوم بالواجب إزاء عائلة المتوفية. ندخل المطبخ لتحضير الطعام، نناقش أمرا مع أخينا أو زوجنا أو ابننا، يتصل بنا أحدهم ليخبرنا عن تطور ما، وهكذا يمضى اليوم، عاديا فى رتابته، لا شىء استثنائيا، لا شىء فيه يذكر، نقول لأنفسنا فى آخر اليوم.

فى الحقيقة، كل شىء فى يوم كهذا استثنائى. أن تمضى يوما تذكره لاحقا بأنه عادى إلى درجة أنك لا تسترجع منه أى تفصيل بحد ذاته، أن تمضى يومك بساعاته دون منغص حقيقى، أن يكون لك بيت، أن يكون لأطفالك مكان فى مدرسة، أن تقرر ما ستأكله العائلة يومها، كل ذلك يصبح شديد الأهمية والخصوصية وشديد الجمال وأنا أجلس مع أم عمر، تحكى لى عن بيتها فى سوريا، عن أحلام أولادها الذين وصلوا الآن إلى ألمانيا، لكنهم نادمون لأنهم ابتعدوا عنها، تخبرنى عن يوم زفافها من «أحلى شاب بالضيعة» الذى تحول هنا، فى هذا البيت مسبق الصنع، إلى كهل عجوز بسبب هموم الترحال واللجوء.

•••

أعيد ترتيب الأوليات فى رأسى، أفهم أن مشهدا عائليا يوميا قد يتحول فى ذهننا لاحقا إلى ذكرى نتوق إليها، يكبر فينا التفصيل الذى لا نكون قد أعطيناه أهمية يومها: الطبق الأبيض الذى وضعنا فيه الرز، ووضعناه على الطاولة فمد ابننا الأصغر يده ليلتقط منه حبات قليلة يأكلها بسرعة قبل أن نراه، ونحن طبعا رأيناه. أوراق النعنع الخضراء مغسولة تنتظر أن نضعها داخل أبريق الشاى، وقد ملأت المطبخ برائحتها المميزة، طفلتنا الصغيرة وهى تحبو على الأرض، تنظر إلينا لترينا أنها أخيرا أصبحت قادرة على التنقل بإرادتها. تفاصيل يومية أحاول الآن فعلا أن أسجلها فى ذاكرتى.

أين مكان أكواب الماء؟ أين نضع الصحف التى انتهينا من قراءتها؟ ما هو ترتيب الكتب فى المكتبة؟ تفاصيل لا نراها من كثرة ما أصبحت هى محيطنا، هى نفسها التفاصيل التى تحكى لى عنها أم عمر ونحن نشرب القهوة، فتصفها كما يصف أحدنا قصة مهمة، وليس تفصيلا يوميا عابرا. أم عمر، وكثيرون وكثيرات مثلها، تعيش اليوم فى حضرة العادى الذى باتت تراه استثنائيا. أندم، وأنا أقبل دعوة أم عمر على الغداء، على كل يوم لم أذهب فيه لزيارة جدتى التى ربما كانت تتذرع بطبق المجدرة حتى تستدرجنى لزيارتها. لو عدت بالزمن إلى تلك الأيام لجلست مع جدتى، وسمعت حكاياتها وسجلت بعينى تفاصيل بيتها، حتى أعود إليها فى أيام شوقى ليوم عادى استثنائى فى دمشق.

تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات