هل يتنحى ترامب فى العام الجديد؟ - داليا سعودي - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 12:08 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

هل يتنحى ترامب فى العام الجديد؟

نشر فى : الإثنين 31 ديسمبر 2018 - 11:25 م | آخر تحديث : الإثنين 31 ديسمبر 2018 - 11:25 م

فى الحَكايا الشعبية القديمة، تلعب العرافاتُ دورا منْبئِا بأحكام الأقدار، مستنزلا لما قد يصيبُ الأبطالَ من لعنات. وفى حكايا العالم المعاصر، تلعب الصحافةُ الواعيةُ هذا الدور الاستباقى، لا احتكاما إلى مهاراتٍ غَـيْـبية خارقة، بقدر ما هو استقراءٌ لمعطيات الواقع واستشرافٌ لمآل القرارات وتفاعلِ الأحداث. وفى باب التنبؤ باحتمالات عزل الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، تبدو كتابات ثلاثة أصوات صحفية رصينة أشبه بهذا الدور الذى لعبته العرافات فى حكايا الميثولوجيا ومسرحيات شكسبير. تلك هى أصوات الكتاب المخضرمين الثلاثة: بوب ودوارد، وكارل برنستين، وإليزابث درو، الذين فرض ارتباطُ أسمائهم بتفجير فضيحة «ووترجيت» والتوثيق لها نوعا من المقارنة بين ظروف استقالة الرئيس ريتشارد نيكسون والظروف التى تمر بها رئاسة دونالد ترامب بما يؤهلها لمصير مشابه لو صدقت نبوءات العرافات.
***
لنبدأ بالسيدة درو، استنادا إلى الترتيب الأحدث بين الثلاثة فى التعبير عن هذا الرأى. فقبل انقضاء العام بأيام ثلاثة، نشرت الصحفية القديرة افتتاحية نارية فى صحيفة «نيويورك تايمز» تحت عنوان «حتمية قرار العزل»، بدأتها بجملة قاطعة كعنوان المقال جاء فيها: «تبدو عمليةُ عزل الرئيس ترامب وكأنها لا مفر منها»، ولخصت إثرها كيف تحول الجمهوريون إلى اعتبارِ الرئيس ترامب بمثابة عبءٍ ثقيلٍ على الحزب وخطرٍ جسيمٍ على الوطن.
بحاستها الاستشرافية الحادة، التى اقتربت فى الماضى بمؤلفاتها الشهيرة من فضيحة «ووترجيت»، عَرفت درو أن قرار العزل لم يعد مرهونا بدلائلــ موجودة وماثلة للعيانــ تدين الرئيس فيما قد يتوصل إليه المحقق روبرت مولر من نتائج بشأن التدخل الروسى فى حملته الانتخابية. فحتى لو توقف التحقيق، أظهرت نتائج الانتخابات النصفية ما آل إليه حزبُ الرئيس من وهن ومن انقسام حول تأييده. وأثرت فضائح إدانة مساعديه المقربين بتهم جنائية، فى نشر رائحة فساد قوية طالت الرئيس نفسه، واستتبعت اتهامات حول نزاهة سياسته الخارجية. أما قرار الرئيس سحب القوات الأمريكية من سوريا، وما ترتب عليه من استقالة وزير دفاعه المدوية، ثم ما تلا ذلك من اضطراب سوق المال، وغلق فادح الكلفة للحكومة معاندة للديمقراطيين، وتعريض أكثر من ثمانى مائة ألف موظف حكومى لوقف رواتبهم، وتهديد بغلق الحدود الجنوبية مكابرة للحصول على تمويل الجدار العازل، والاستمرار فى تعريض مؤسسات البلاد الديمقراطية والقضائية للتخريب، فقد كان بمثابة إضافة المزيد من البلل إلى الوحل المشبع أصلا بماء الفضيحة والخطر ! وكلها عوامل أدخلت إلى نفوس الكثير من الجمهوريين إحساسا جديدا بالقلق، ونبهتهم أن الوقت قد حان للنأى بأنفسهم عن منطقة رمال متحركة ستبتلع قريبا كل من يقف عليها.
إن غريزة البقاء تلك التى علت نبرتها بين صفوف الجمهوريين هى ما ستجعل مجلس الشيوخ ذا الأغلبية الجمهورية غير ممانع فى جمع سبعةٍ وستين صوتا لازمة لعزل الرئيس ترامب فى حال لم يرضى هو الاستقالة حفظا لماء وجهه. ويكفى أن نصغى لتعالى انتقادات مواقف الرئيس فى صفوف الجمهوريين، حلفاء الأمس، لنعلم كم اقتربت الساعة وانشق الصف وطفت ذكرى استقالة نيكسون على وجه الأحداث.
***
صوتٌ آخر يتعالى فى الآونة الأخيرة. هو صوت أحد قطبى تفجير فضيحة «ووترجيت»، الصحفى المخضرم كارل برنستين، الذى أكد بدوره غير ذات مرة أن ثمة إجماع متزايد بين الجمهوريين على كون ترامب «غير مؤهلٍ للبقاء فى منصب الرئيس» وأن عاميْن آخريْن تحت رئاسته فيهما من الخطر ما يدمر مصالح الولايات المتحدة ومصالح الحزب الجمهورى. وهو يعزو ذلك إلى «خصال ترامب النفسية»،و إلى «احتقاره الصارخ للقانون»، وإلى « اختيارات سياسته الخارجية» التى لا يبدو معها معليا مصالح الوطن على مصالحه وعلاقاته الشخصية.
يتكئ برنستين فى ذلك على ما جاء فى خطاب استقالة جيمس ماتيس وزير الدفاع، من نقد صريح لسياسة الرئيس الذى يتخذ القرارات المصيرية لبلاده دون استشارة العاملين معه أو حتى اطلاعهم على مبرراته، مغامرا بعلاقات الولايات المتحدة مع حلفائها التقليديين، مفتقرا إلى الاحترام الواجب لروابط استراتيجية حافظت عليها بلاده منذ الحرب العالمية الثانية، غافلا المنافسين التاريخيين أو متغافلا عنهم لاسيما روسيا والصين. الأمر الذى حمل ماتيس فى خطاب استقالته على أن ينصح ترامب بأن يجد لنفسه «وزير دفاع آخر يكون أكثر توافقا مع هذه الرؤية» التى لا يرى نفسه متوافقا معها...
هذه الاستقالة المدوية، فى طابور الاستقالات والإقالات غير مسبوقة العدد فى أى إدارة سابقة، هى مما فتح أعين الجمهوريين على فداحة الثمن الذى سيؤدى إليه حتما بقاء إدارة هشة متهاوية متخبطة بدا معها البيتُ الأبيض أشد وهنا من بيت العنكبوت.
ومجددا، مع كل ظهور لكارل برنستين على شاشات البرامج السياسية، طفت صورة نيكسون وطغت على مقاربات الأحداث.
***
وقبل «إليزابث درو» و«كارل برنستين»، جاء رفيقهما فى ملحمة «ووترجيت» الصحفى الكبير «بوب ودوارد» وكتابه المعنون «خوف»، الذى فاقت مبيعاته كل المبيعات، حتى قيل إنه قد دخل كل بيت، وملأت مراجعاته كل الصحف، وشغلت أطروحته كل الشاشات وخاطبت كل العقول. إن «ودوارد» الذى ملأ الدنيا وشغل الناس بكتابه، هو «متنبى» الصحافة الاستقصائية الأمريكية، الذى عاصر تسعة رؤساء أمريكيين، وكتب عنهم، وأسقط بقلمه واحدا منهم. وهو الممثل لصحافة نادرة فى هذا الزمان تكاد تنقرض لفرط ذهابها إلى حيثما تختبئ المعلومة، يسير على قدميه إلى المصدر، يطرق بابه بنفسه، يسجل كل كلمة، ويوثق المعلومة من عدة مصادر ليتحرى أعلى مراتب الصدق. وهو لا يستسلم لنشوة الطواف بالبرامج التلفزيونية، ولا يهتم بإعطاء المواقع الإخبارية لُقمة معلوماتية عابرة، تَلوكها تغريداتٌ مقتضبة، يختفى معها الحد الفاصل بين الرأى والمعلومة، ويندثر معها التكنيك الصحفى المعقد الذى يجتهد فى إبقائه حيا. كلا، ليس ذلك أسلوبه. ففى كتابه، اعتمد «ودوارد» على الحوارات مع المصادر، وقد بلغ تفريغ أحدها 820 صفحة! بل إنه قد استجوب أحد مصادره تسع مرات! ليبلغ تحقيقه المطول مبلغا فائقا من الدقة فى وصف آليات اتخاذ القرار المرتبكة داخل إدارة الرئيس ترامب. وهو ارتباك وصفه المؤلفُ بأنه أشبه ما يكون بـ«انهيار عصبى» ألم بإدارة رئيسٍ كذوب ومزاجى وخارج عن السيطرة فى سياق يُذكر كلُ ما فيه بسياق الأحداث فى 1974 حين اختصم الرئيس نيكسون الصحافة ومضى سادرا فى إساءة استغلال سلطاته... وهو الأمر الذى بث الرعب فى نفسِ كل من قرأ الكتاب من متخذى القرار.
***
و أخيرا، «الخوف» كلمة استلهمها «بوب ودوارد» عنوانا لكتابه من إجابة ترامب على سؤال وجهه له خلال لقاء لهما عام 2016. فقد سأل الصحفيُ المرشحَ الرئاسى عن مفهومه للسلطة، ليجيب ترامب إجابة هاملتية، تصرح للمشاهد بما يجتهد البطلُ فى إخفائه: «السلطة هى الخوف»...
لكن يبدو أن السحر سينقلب قريبا على الساحر، وقريبا قد يضطر الجمهوريون التضحية بترامب، وستكون ذريعتهم «الخوف» على «السلطة» والحفاظ عليها، وسيرى الكثيرون أن عزل الرئيس هو السبيل الوحيدة لحفظ وحدة البلاد بعد عامين من الانقسام الحاد.
***
إنها أمارات تلوح فى قراءات العرافات فى العام الجديدو كل عام وأنتم بخير...

داليا سعودي كاتبة وأكاديمية مصرية حاصلة على جائزة الصحافة العربية
التعليقات