شياطين التفاصيل وفخاخها - مدحت نافع - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 5:33 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

شياطين التفاصيل وفخاخها

نشر فى : الإثنين 31 ديسمبر 2018 - 11:25 م | آخر تحديث : الإثنين 31 ديسمبر 2018 - 11:25 م

يقول المعمارى الألمانى «لودويج ميز» المولود فى القرن التاسع عشر: «إن الله يكمن فى التفاصيل»، وقد سبقه إلى هذا المعنى الروائى الفرنسى «جوستاف فلوبرت» الذى ولد قبل «ميز» بنحو 65 عاما... تحولت العبارة فى استخدامات علوم إنسانية حديثة مثل الاقتصاد والعلوم السياسية والإدارة إلى مقولة: «إن الشيطان يكمن فى التفاصيل» وعلى أى حال فمقصود العبارتين واحد، وهو أن كثيرا من الأمور تبدو سهلة ومباشرة حتى تتبين التفاصيل.. فالله فى التفاصيل دلالة على الإلمام والإحاطة وحسن التقدير.. والشيطان بدوره فيها دلالة على التربص ووضع العقبات والعراقيل... وإنك لتقتحم التفاصيل كل يوم حتى تصيب بعلمك وعملك شيئا يسيرا من أحلامك وأمانيك. لكنك أبدا لا تسير على قضبان قطار، بل يصعد بك الطريق ويهوى فى مسالك وعرة، عادة ما يسكنها الشياطين.
بالقدر الذى أحضك فيه على دراسة التفاصيل والتعرف على شياطينها بغية التحوط منها والتغلب عليها، بالقدر الذى أحذرك من الغرق فيها والوقوع فى فخاخها إن أنت فقدت الصورة الكاملة، ولم ترق لتنظر موطئ خطاك بعين الطائر المحلق. حينها يأسرك التيه، وكأنك أحد بحارة البطل الأسطورى «أوديسيوس»، وقد التهمت لتوك زهرة اللوتس على جزيرة «لوتوفاجى» فى ملحمة الأوديسة، رائعة الشاعر الإغريقى «هوميروس».
مستوى التفاصيل المطلوب يختلف بحسب الأحوال، وبحسب طبيعة المهمة أو المشروع، وبحسب موقعك من الإدارة أو القيادة. من الأخطاء الشائعة لبعض القادة والمديرين غرقهم فى التفاصيل كعلاج وحيد بائس لفقدان الثقة فى المرءوسين. يتحولون فجأة من القيادة والتنسيق إلى التشغيل، ومن التخطيط والرقابة إلى التنفيذ، عندئذ يضيع أثمن الموارد المغبون فيها بنو آدم، وهو الوقت.
إذا أعمتك نجاحاتك الصغيرة فى تجاوز العقبات الروتينية عن إدراك موقعك الحقيقى من الإنجاز، فقد وقعت فى فخ التفاصيل، وإذا ظننت أن جميع الأزمات يمكن حلها برسم خط مستقيم بين نقطتين، فأنت واهم، ولا تعرف شيئا عن شيطان التفاصيل... خيط رفيع فقط يفصل بين هذا وذاك.
من الناس من يريد أن يفهم كل شىء فى الوجود! وأن يتقن بيده كل ما حسبه إدارته بعقله! هذا النوع سرعان ما يصطدم بأحد عائقين، إما أن ينفد وقته قبل أن يتم عمله، أو أن يتوهم نمطا للتعامل مع مختلف المشكلات، حلا واحدا سطحيا يصلح لكل شىء... حينها يخفق صاحبنا فى كل شىء! هناك حكمة إذن من التخصص وتقسيم العمل أوردها البريطانى «آدم سميث» مؤسس علم الاقتصاد فى كتابه الأشهر ثروة الأمم، باعتبارهما ركيزة مهمة لنمو الاقتصاد ونظام الاقتصاد الحر. ليس ممكنا أن تفهم وتمارس كل الأعمال، ولا بأس أن تبلغ مستوى عميقا نسبيا من التفاصيل لفترة ما على سبيل الاستثناء، فقط حتى تضع لها الضوابط والكفاءات المناسبة للاشتباك معها.
***
كثير من الوظائف التى تعنى بالصورة الكلية، يفضل أن تبدأ العمل بها من أسفل السلم، حينها يكون من الصعب خداعك. أذكر أنى درست عددا من لغات برمجة الحاسب الآلى، وكان على اجتياز اختباراتها، بل وممارسة عمل البرمجة لفترة ليست بالقليلة قبل أن أمارس عمل محلل النظم الذى حصلت على شهادات فيه. عمل محلل النظم له تفاصيله التى ترسم صورة كلية لطبيعة النظام الذى يرجى تطبيقه فى بيئة العمل المراد تطويرها. لكن تلك التفاصيل لا تطغى على عمل المصمم الذى يأتى تاليا للمحلل لتصميم التطبيقات والشاشات وقواعد البيانات... ثم يأتى بعدها دور المطور (المبرمج) الذى يحول ما تم تصميمه إلى برامج وتطبيقات يكتبها فى صورة أكواد بلغات متعددة. لو أن محلل النظم ترك نفسه لغواية تطوير البرامج، فبالتأكيد لن يكون بمقدوره رؤية الصورة الكلية للنظام، لن يتوافر له الوقت والوعى لفهم تدفقات البيانات، وعلاقات الوحدات والكيانات، ولن يتمكن بالتأكيد من تحليل نظام العمل، ناهيك عن تحسينه. محلل النظم المثالى هو شخص تقلب فى عدد من المناصب، وعمل فى العديد من المؤسسات، ودرس لغات البرمجة وقام بتطوير بعض التطبيقات... لكن هذا لا يعنى أبدا قيامه بتطوير تطبيقات النظام الذى يعكف على تحليله.
فى شهادة الرئيس الأسبق حسنى مبارك فى قضية اقتحام السجون وخرق الحدود الشرقية التى تابعناها أخيرا عبر الفضائيات، لفت انتباهى تكرار الشاهد نفيه علم التفاصيل، أو الاطلاع على دقائقها، ومن تلك التفاصيل ما يتعلق بجنسيات 800 رجل عبروا الحدود إلى داخل البلاد، فى فترة هى الأخطر على الأمن القومى للبلاد منذ عقود. ولست فى معرض النقد للشهادة أو لمستوى التفاصيل التى يرى الرئيس الأسبق مناسبتها للعرض عليه كرئيس للدولة وقائد أعلى للقوات المسلحة، وهى مسائل يصعب على العامة تقديرها بعيدا عن موقع المسئولية والقيادة. لكننى أتفهم المدلول العام لهذا النفى، وأدرك أن مزيدا من التفاصيل التى التمسها القاضى فى شهادة الرئيس الأسبق، حقيقة ألا يجدها إلا عند قادة الميدان وربما وزراء الحكومة. كثير من التفاصيل الملتمسة فى شهادة رئيس أسبق يمكن أن تكون غير معنوية insignificant بالنسبة لقائد أعلى، خاصة إذا زاحمت وعيه معلومات مهمة يتم جمعها على مدى الساعة عن حالة الوضع الأمنى بصفة عامة، وتداعى الأحداث، وحجم الأضرار البشرية والمادية فى مختلف المحافظات...
هناك نكتة شهيرة ترد فى موضع المبالغة فى تعجيز الطلاب دون النجاح فى اختبارات المعلومات العامة، إذ يسأل الأستاذ أحد تلامذته الذين يؤثرهم عن بلد المليون شهيد، فيجيب التلميذ أنها الجزائر، ثم يتجه الأستاذ بسؤاله التالى إلى تلميذ لا يحبه قائلا اذكر لى أسماءهم!
***
على صعيد آخر فإن إلمام المدير بإيرادات ومصروفات وأبرز المشروعات التى تتم فى الكيان أو المؤسسة التى يديرها هو أمر ضرورى لأغراض التخطيط والتنسيق والمتابعة والرقابة والتى هى من صميم عمل الإدارة. وإنى ليدهشنى ما أثاره نفر من المقربين من الرئيس الأمريكى دونالد ترامب من كراهته البالغة لقراءة التقارير، وإهماله للتفاصيل التى لا مناص من الاطلاع عليها، والتى لا تعدو أن تكون بضعة أسطر لتلخيص وضع سياسى أو اقتصادى يتعين عليه فهمه قبل أن يتوجه إلى الأمة بخطاب أو إصدار تغريدة على مواقع التواصل الاجتماعى!. على النقيض من هذا يعانى المهندس والمخترع الكندى الشهير «إلون ماسك» مؤسس «تسلا موتورز» و«سبيس إكس» من الإفراط فى التدخل فى التفاصيل، إلى الحد الذى جعله يتعامل بانفعال بالغ مع (ما يقدر أنه) أخطاء تقع من صغار مهندسيه، ويقوم بفصلهم تعسفيا، ومنهم من حصل لتوه على مكافأة تشجيعية من مديره المباشر! وقد بلغ به الغرق فى التفاصيل أن أطلق أخبارا غير مدققة عن شركة «تسلا» على الإنترنت فتأثرت أسعار أسهمها إيجابيا بتلك الأخبار، وهو ما عرضه لعقوبة العزل وغرامة مالية كبيرة من قبل الهيئة الرقابية على أسواق المال الأمريكية SEC ومع ذلك لم يتورع عن إعادة التغريد بخصوص تلك العقوبة وكم هى ظالمة، ونتيجة ذلك كله أن أعماله كلها تمر بفترة صعبة على الرغم من نجاحه فى منافسة ناسا فى غزو الفضاء ومنافسة صناع السيارات التقليدية بسياراته التى تعمل بالكهرباء. بعض كبار المديرين الذين يعملون معه يطالبونه بالمكوث فى مكتبه وقتا أطول، وألا يطارد الموظفين فى مواقع العمل، لأن أحدا لا يستطيع أن يبدع بينما يطارده نمر!

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات