مرحبا بكم في الإسكندرية.. عاصمة السلفيين الألمان! - مختارات - المعصرة - بوابة الشروق
مختارات
مرحبا بكم في الإسكندرية.. عاصمة السلفيين الألمان! أخر تحديث: الأربعاء 17 أبريل 2013 - 12:59 م
مرحبا بكم في الإسكندرية.. عاصمة السلفيين الألمان!

هذه المرة لم تمتعني مدونة (قراءات) التي يكتبها الشاعر والمترجم أحمد شافعي، بل نكأت بداخلي جراحا لا تندمل أبدا عن أحوال مدينتي الإسكندرية وكيف تحولت من عاصمة التسامح والتنوع إلى مهوى أفئدة المتشددين من كل بقاع الأرض.  هذه المرة لم يترجم أحمد شافعي في مدونته عملا أدبيا ممتعا أو موضوعا ثقافيا ملهما أو موضوعا علميا يدفعك للحسرة على ما نحن فيه من تخلف، بل ترجم موضوعا مهما نشرته مجلة (دير شبيجل) الألمانية الشهيرة عن رحلة السلفيين الألمان إلى مصر، اختار له محررها تاكيس فيوجر عنوان (الطريق إلى التطرف ـ رحلة سلفي ألماني في مصر)، ولا أدري إذا كان يحيل بإختيار هذا العنوان إلى الكتاب الذي كتبه المفكر النمساوي الذي أعلن إسلامه محمد أسد وكتب عن رحلته كتابا ذائع الصيت بعنوان (الطريق إلى مكة)، لكنه حتى لو لم يقصد فإن المفارقة بين عنواني الرحلتين ووقائع كل منهما، تسبب المزيد من الأسى وتدعو للمزيد من الحذر في مواجهة سرطان التطرف الذي يتغلغل منذ أكثر من أربعة عقود في جسد مصر، ولم تفلح الحلول القمعية إلا في دفعه للغطس نحو أعماق أبعد في بنية المجتمع المصري.

 

ما شجعني أكثر على نشر مقتطفات طويلة من الترجمة هو ما حدث قبل أيام في مدينة الرحاب من «بهدلة» لصحفية هولندية على أيدي مواطنين شرفاء شجعتهم فتنة الضبطية القضائية على ممارسة شهوة البطش ولعب دور حماة الديار، مع أن الصحفية الهولندية كانت تعد تحقيقا صحفيا عاديا عن البطالة في مصر، وهو نفس ما فعله «مواطنون شرفاء» آخرون في إسكندرية مع الصحفي الألماني في حين تعاملوا بطناش شديد مع السلفيين الألمان الذين لا يدري أحد طبيعة ما يقومون به في الإسكندرية في ظل الغياب الكامل الإختياري لأجهزة الأمن، وهو غياب إختياري يتم تغليفه في العادة بعبارات حقيرة من نوعية «مش دي الثورة بتاعتكو ـ مش دول اللي إنتو انتخبتوه ـ إشربوا بقى عشان تفرحوا بالثورة»، مع أن أكثر من استفاد من الثورة ماديا هم المنتسبون لأجهزة الأمن الذين لم نسمع أن مرتباتهم ومكافآتهم انقطعت يوما واحدا لكي يكون كثير منهم ساخطين على الثورة إلى هذا الحد ويسعى بعضهم إلى معاقبة كل مواطن اشترك فيها أو ساندها أو لم يتعاون على إخمادها، ولعل المساعدة على نشر هذه الترجمة في صحيفة مصرية، تكون بمثابة بلاغ رسمي لا يمكن أن تدعي أجهزة الدولة أنها لم تشاهده، لكي لا نفيق فجأة على كارثة إرهابية ثم نزعم أننا فوجئنا بها، ولم يكن لدينا عنها أدنى فكرة.

 

أترككم مع ما أتاحته لنا المساحة من تفاصيل بدأت بلقاء محرر دير شبيجل بأحد السلفيين في مدينة هانوفر، ثم تعددت بينهما اللقاءات في ألمانيا، فقط أؤكد على ما أشار إليه أحمد شافعي في ترجمته التي قام بها للموضوع بعد ترجمته من الألمانية إلى الإنجليزية على يد كريستوفر سلطان بأنه تم الإلتزام بحرفية الترجمة لإعطاء فكرة عن طبيعة المفاهيم التي تصل إلى القارئ الغربي عن الإسلام والحضارة الإسلامية.

 

« ليل الإسكندرية. بوسعي أن أسمع في العتمة صوت تنفس السلفي. يسير في الغرفة على أطراف أصابعه. هذا الرجل الذي يقترب من فراشي هو نفسه الذي أقلني أمس من المطار. اسمه «دينيس راثكامب»، عمره أربعة وعشرون عاما، وهو مهندس سيارات كان يعزف الجيتار في الكنيسة. انتقل إلى مصر قبل أسابيع قليلة ليتعلم فيها كيف يكون مسلما صالحا. في هذا الصباح يستلقي جسدي بين راثكامب ومكة. يجلس على ركبتيه ويضع جبهته على الأرض. الساعة السادسة والنصف صباحا، وهذا وقت صلوات أول اليوم. أسمع راثكامب يحرك شفتيه في صمت، وقد وعدني أن يلزم الهدوء في صلواته. أستلقي في سرير بشقة هذا الغريب لأنني أبحث عن إجابة لسؤال عن دوافع السلفيين، تلك الجماعة المرهوبة في ألمانيا. يقدر المكتب الفيدرالي لحماية الدستور BfV ـ وهو جهاز المخابرات الداخلي في ألمانيا ـ أن قرابة ستين سلفيا ألمانيا قد هاجروا إلى مصر خلال العام الماضي. وكثير منهم اختار أن يتخذ من الإسكندرية وطنا جديدا، وهم الآن يعيشون في حي المندرة في شمالي المدينة.

 

يقول راثكامب إنه انتقل إلى الإسكندرية لأنه يريد أن يتعلم لغة نبيه، ولأنه لم يعد يحتمل التمييز في ألمانيا. التقيت به في الربيع الماضي حينما كان يقوم بتوزيع نسخ من القرآن في مدينة هانوفر بشمالي ألمانيا. وسألته إن كان يمكن أن يصطحبني إلى المسجد الذي يتردد عليه لأنني أريد أن أعرف المزيد عن الإسلام. ورافقته في صلاة الجمعة مرات كثيرة بعد ذلك. شربنا الشاي معا ودارت بيننا حوارات كثيرة. بعد ذلك كان يقلني إلى محطة السكة الحديدية ويعطيني منشورات تتكلم عن دور المرأة في الإسلام لأعطيها لصديقتي في البيت.

 

يُنَقِّب راثكامب في الحقيبة الموضوعة قبالة سريره. لحيته تؤطِّر وجهه كأنها حلقة من نار حمراء باهتة، ويعتمر فوق رأسه طاقية مثقبة. يضع جسمه في جلباب أبيض ويلقي عليّ تحية الصباح مبتسما. يبدو في زيه هذا أشبه بإمام. كان في ألمانيا يعيش في هوهنهاملن ـ وهي بلدة يبلغ عدد سكانها 9630 نسمة في ولاية جنوب سكسونيا الشمالية في بيت ينفتح بابه الأمامي على حديقة. وفي درع المدينة برجا كنيسة. يقول راثكامب إن بعض جيرانه كانوا يحسبونه إرهابيا. راثكامب سلفي، وإن يكن يكره الكلمة ويؤثر أن يقول عن نفسه ببساطة إنه مسلم. يرى أنها فكرة جيدة للنساء أن يغطين أجسامهن في ثياب سوداء. ويعتقد أن الرب يهتم بأن لا تتجاوز ساقا بنطلونه كاحليه. يقول إن الشريعة هي القانون الأمثل. ويعتقد أن قطع أيدي اللصوص ـ في ظل ظروف معينة ـ هي الصواب بعينه. ويضيف راثكامب قوله «وأرفض العنف». ووسط التناقضات، يحاول أن يجد مكانا لحياته الجديدة.

 

حينما كان يعيش في ألمانيا، كان الناس يجتنبونه، إذ يدركون على الفور أنه لا يشاركهم قناعاتهم الدينية. كانوا يخشون أن يكون راثكامب مرتديا حزام ديناميت تحت جلبابه. كان يرى ذلك في أعينهم. صلى راثكامب، ثم استسلم للنوم وها هو شخيره الخافت يتردد من جديد في هذا الصباح السكندري. ينفتح الباب ويدخل مضيفنا، وهو رجل طويل اللحية حليق الرأس، قائلا «سلام عليكم، هل تعرف من أنا؟».. اسمه «سيفن لاو» لكنه يسمي نفسه أبا آدم. عمره اثنان وثلاثون عاما، وولد في مدينة مونشنجلادباخ في غرب ألمانيا، خدم في الجيش الألماني وتدرب ليكون كبير إطفائيين. اعتنق الإسلام منذ أربعة عشر عاما ووضعه المكتب الفدرالي لحماية الدستور تحت الملاحظة لفترة زمنية غير محددة.

 

يسمح لراثكامب ولي بالنوم في الغرفة التي يشغلها في الظروف الطبيعية أبناؤه الثلاثة إلى أن نعثر أنا وراثكامب على شقة خاصة بنا. كان لاو ـ الذي يعد من قيادات السلفيين الألمان ـ يدير مسجدا في مدينة مونشنجلادباخ وكان رئيسا لجمعية أصولية اسمها «الدعوة إلى الفردوس». وقد اتُّهِم مَرّةً بإضرامه النار في مسجده محاكاةً للإحراق العمدي للمباني، ثم تمت تبرئته. وهو موضع معارضة ناشطي حقوق الإنسان الذين يعتقدون أنه سوف يدخل الشريعة إلى المانيا. أما المكتب الفيدرالي لحماية الدستور فيراقبه اعتقادا منه بأن لاو يريد القضاء على الدولة الدستورية الديمقراطية لتأسيس دولة ثيوقراطية. كما تحقق النيابة الألمانية في اتهام موجه للاو بالاعتداء بالضرب على شخص سكران أثناء كرنفال في ألمانيا.

 

... كان راثكامب قد سأل ما إذا كان من الفطنة أن يسمح لصحفي بدخول حياتهم. وناقشوا الموضوع عقب إحدى الصلوات، وفي النهاية قال لاو لراثكامب إنهم ليس لديهم ما يخفونه لأنهم في نهاية المطاف ليسوا بإرهابيين. يقول لاو «ولكن ليس جميع من في هذا الحي على ما نحن عليه من تسامح، لذلك من فضلك لا تذهب إلى أي مكان بدوننا». يطيل النظر في عيني ثم يقول «فأنت لا تريد أن تكون الثقاب الذي يقع في علبة بنزين».

 

الجو بارد في الحواري الضيقة أسفل البيت. هناك ستائر مسدلة على الشرفات لكي تحجب النور. ثم محل يبيع الدجاج المشوي في البناية المجاورة. تتدافع القطط بين جبال من القمامة، وتمر بالقرب عربة يجرها حمار. هو مكان مناسب لأناس تقوم حياتهم على قيم القرن السابع. يهيكل السلفيون في الإسكندرية أيامهم بحسب إيقاع صلواتهم. فالغرض من الخلق ـ فيما يرى راثكامب ـ هو أن يعبد الناس الرب. الرجال في حي المندرة يرتدون النعال. فهم يصلون كثيرا بحيث لا يستدعي الأمر وجود أحذية تربط. أما راثكامب فيرتدي حذاء رياضيا لكي يدفئ رجليه.

 

يخطط أن يبدأ في نهاية الأسبوع دراسة اللغة العربية في مركز إيزي لانجويدج. ومدارس اللغات في الإسكندرية هي التي علمت السلفيين الألمان اللغة العربية في الماضي. هناك درس دانيال شنيدر وكان أحد إرهابيي خلية ساورلاند وحكم عليه بالسجن اثني عشر عاما للتخطيط لهجمات في ألمانيا. وهناك سلفيان من مدينة سولجين بغرب ألمانيا هما «روبرت ب» و»كرشتيان إ» درسا أيضا في الإسكندرية. وتم اعتقالهما العام الماضي في إنجلترا، وأدانتهما محكمة بعد ذلك على خلفية العثور في متاعهما على تعليمات لصنغ المتفجرات. مدرسة اللغة في الإسكندرية يمكن أن تكون مكانا يتعلم فيه الطلبة لغة. ولكنها قد تكون في الوقت نفسه مكانا يتعلمون فيه التطرف، مكانا يكون دليلا لهم في رحلتهم إلى «الحرب المقدسة». ومركز إيزي لانجودج الذي يريد راثكامب الدراسة فيه ينشر هذه المعلومات في صفحته على فيسبوك: «غامر بهذه الخطوة إلى بلد إسلامي، واعتبرها خطوة أولى إلى المملكة العربية السعودية إذا لم تعجبك مصر. يا إخوتنا: افعلوها من أجل أسركم، وأبنائكم، أو اصطحبوا آباءكم (المسلمين) معكم. لا تتركوا الشيطان يضلكم. اعتبروها التزامكم الشخصي بالهجرة». الشيطان أو الرب. الجحيم أو الفردوس. الحرام، أو الحلال. الممنوع أو المباح. لا توجد في السلفية درجات.

 

أجلس بالخارج في الشمس بينما لاو وراثكامب يحضران صلاة الظهر. يقف المؤمنون أمام المسجد بعد الصلاة، ويتكلم راثكامب مع  رجل أسود اللحية. يقترب الاثنان مني. الرجل الذي يقول راثكامب إنه من مركز إيزي لانجودج ـ يقول «لا شيء ضدك أنت بالذات، ولكننا لا نريد للصحفيين أن يدخلوا المدرسة». ألاحظ كيف ينظر المؤمنون الواقفون أمام المسجد ناحيتي. يلاحظون جميعا أنني لست من دينهم. ينظرون لي وكأنني عدو، رجل يرتدي بنطلون جينز يتجاوز كاحليه، كافر، غير مؤمن.

 

يميز القانون الإسلامي ـ بحسب مدى التزمت في تفسيره ـ بين ثلاث فئات من غير المسلمين: «الذميون» وهم المسموح لهم بالعيش في البلاد الإسلامية ولكن مع حقوق محدودة، «المستأمنين» وهم الذين يحصلون على ما للذميين من حقوق بموجب اتفاقية حماية مؤقتة، و»المحاربين» الذين يعيشون خارج الأراضي الإسلامية وليس لهم حقوق ولا حتى الحق في الحياة. ولا أعرف من أنا بالنسبة لمسلمي المندرة.

 

يقول راثكامب «ليس الجميع راضين عن زيارتك لي. ربما ينبغي أن أصلي في مسجد آخر أثناء وجودك هنا». ثم يقترح أن نخرج بسيارة إلى وسط البلد. يريد أن يشتري أدوات تنظيف لشقته الجديدة وهدية يشكر بها لاو على حسن استضافته. ولكن أية هدية يقدمها المرء لسلفي؟.  ثياب السلفيين لا يمكن العثور عليها في سوبر ماركت، باستثناء الجوارب والملابس الداخلية. النبيذ ليس مطروحا، لأن الكحول حرام، أو ممنوع. ولا الأسطوانة، إذ الموسيقى أيضا حرام. ولا دي في دي عليها فيلم من أفلام هوليوم، لأن هوليود حرام. أما القرآن، فعند لاو نسخة من القرآن. يشتري راثكامب ثلاث علب معدنية على شكل سبايدر مان لأبناء لاو الثلاثة. فهو لا يعتقد أنه يوجد أي اعتراض على سبايدرمان.

 

سوف يتسلم مفاتيح شقته الجديدة في الصباح التالي. وهو الآن يحاول بيع سيارته البي إم دبليو على الإنترنت ليتمكن من دفع الإيجار. فهو في الوقت الراهن يعيش على مدخراته. تتكون الشقة من أربع غرف، وحمامين، وشرفة وغرفة معيشة هائلة. يقول راثكامب إنه بحاجة إلى غرفة للأسرة التي يعتزم تكوينها. يقول إن إمامه قد رتّب له بالفعل مسألة الزواج. ستتخرج الفتاة قريبا في المدرسة الثانوية في براونشفيج بألمانيا، وسوف تأتي إلى الإسكندرية في الصيف.

 

... للرياح الباردة صفير في عبورها الشبابيك في الإسكندرية. يقول راثكامب «سأذهب اليوم وحدي للصلاة، ربما يكون خيرا لك أن لا تبقى جالسا بالخارج». كان قد حان وقت صلاة المساء التي تستمر في العادة قرابة عشرين دقيقة. لكن ساعة مضت وراثكامب لم يرجع. وحينما تمضي ساعتان، أقرر النزول إلى الشارع. السماء ملبدة بالغيوم وثمة عاصفة تتكون. يجلس الرجال متحلقين حول النار في الحواري، يدفئون أيديهم. أخطو إلى الخارج، فأدرك بمجرد أن أرى وجوههم أن خروجي كان خطأ. أخطو راجعا إلى مدخل العمارة. لا يمكنني الرجوع إلى الشقة، فليس لدي مفتاح. أتذكر ما قاله لي راثكامب «أنت لا تريد أن تكون الثقاب الذي يقع في علبة بنزين». وأدرك أنني، حينما خرجت من الشقة، فتحت بيدي علبة البنزين. يدخل رجلان إلى مدخل العمارة ويقفان أمامي. لهما لحيتان سوداوان. أحدهما يلف حول رأسه وشاحا أحمر كأنه ثعبان نائم، وللآخر تحت عينيه هالات سوداء، كأن ثمة ما يتقيح تحت جلده. يقولون: من أنت؟ ومن أين أنت؟ أنت ألماني! ما الذي تفعله هنا؟ ما دينك؟ نحن لا نريدك هنا. أين جواز سفرك؟ لماذا تراقبنا؟ لماذا تنظر إلى الناس في الشارع. لقد رأيناك ورأينا كيف كنت كامنا في مدخل العمارة. سنرفع تقريرا بشأنك. مجيئك إلى هنا كان خطأ. ومع كل رد مني، كان صوت الرجلين يرتفع أكثر. يقولان بالعربية جملا قليلة، ثم يمضيان عني. أنتظر نور المدخل أن ينطفئ وأبقى مختفيا في الظلام. يدخل راثكامب ولاو إلى مدخل العمارة بعد دقائق قليلة. يقول راثكامب ؟ أظن من الأفضل ألا تبيت هنا الليلة». فيما ألملم أغراضي، يوضح لي لاو أن إخوته المسلمين قالوا له إنهم يخشون من احتمال أن أمنعهم من القتال في مالي أو سوريا. يقول لي إن الألمان ليسوا هم الخطرين. فهؤلاء يكرهونني لا أكثر، لكن هناك إخوة آخرين يصلون في المساجد، رجال يسيرون متخفين، بوسنيون وألبانيون، وجهاديون. يرونني حربيا، كافرا لا حق لي في الحياة. يأخذ لاو حقيبتي المعلقة إلى كتفي ويحملها عني. نسمع طرقا عنيفا على الباب. يجفل لاو، ينظر من العين السحرية وتند عنه تنهيدة ارتياح. إنه مالك العمارة وقد جاء ليتأكد أن الماء وصل إلى الشقة الجديدة.

 

عندما يغادر ثلاثتنا العمارة، أبدأ السير في الحارة التي أعرفها. ولكن لاو يقودني من ذراعي قائلا «من هنا. هنا أكثر أمانا». عندما نصل إلى حافة الحي، حيث يبدأ الطريق الأسفلتي، نسمع المؤذن يرفع النداء لصلاة الليل. يقول لاو «سأذهب لأصلي بسرعة». يذهب راثكامب فيشتري لنا كوبي عصير برتقال. نقف تحت المطر قليلا. يتحسس راثكامب لحيته قليلا ثم ينظر لي في النهاية ويقول «أنا فعلا غير مرتاح لهذا». يُقِلُّنا تاكسي إلى المدينة فأستأجر غرفة في فندق يقف على بابه أربعة من الحراس وعند مدخله جهاز للكشف عن المعادن. يحمل لاو حقيبتي حتى نصعد إلى الغرفة، ويسألني وهو يضع يده على كتفي «أنت أحسن حالا الآن، أليس كذلك؟»

 

... في الصباح التالي، حين أقابل راثكامب في غرفتي بالفندق، يحكي لي عن أول مرة دخل فيها مسجدا، عن مدى جمال موسيقى القرآن عند قراءته بالعربية ولماذا لم يعد يطلق على نفسه اسم دينيس بل عبد  الملك. حوالي الظهر، يقول إنه يريد أن يذهب للصلاة، فنمشي معا خمس دقائق إلى مسجد داخل السوبر ماركت. أفتح تليفوني وأقرأ رسالة  من رئيسي: «اتصل بي فورا. الأمر عاجل».أتصل. يسألني: «أين أنت؟».. أقول «أنا واقف أنتظر أمام مسجد. السلفي يصلي».. «ضع نفسك حالا في تاكسي وانطلق إلى المطار»..»لم أنته بعد من الموضوع. والأمور جيدة».. يقول «اسمعني. لا أستطيع الآن أن أقول لك أي شيء. ابتعد فورا. أنت لم تعد في أمان». أسارع إلى الفندق وأطلب تاكسي. يدخل راثكامب البهو فيرى حقيبتي. يسأل «ما المشكلة؟»، أقول «أنا مسافر. جاءني اتصال، والأمر عاجل». يسأل «هل لهذا أية علاقة بي؟». يتوقف التاكسي أمام باب الفندق. يعانقني راثكامب. يقول «سلام عليكم». يقلني التاكسي إلى مطار القاهرة وأترك مصر في أول رحلة. في ألمانيا، أعرف أن دير شبيجل تلقت اتصالا من مجهول من مصر، أن المتصل قال إن حياتي في خطر في الإسكندرية، وأن هناك احتمالا أن يقتلني السلفيون أو يختطفونني.

 

كنت أريد أن أقيم في مصر أسبوعين، ولكن إقامتي اقتصرت على أيام ثلاثة فقط. ذهبت أبحث عن إجابة لسؤال عن دوافع السلفيين الألمان. إن دينيس راثكامب يريد أن يعبد ربه في سلام. وسيفن لاو يريد أن يساهم في «الحرب المقدسة» بمساعدات طبية. لكن ربما يكون لدى أولئك الرجال أهداف حرصوا على إخفاءها عني. فقليل من السلفيين يريدون القتال في مالي. وقليل منهم ربما يريدون قتلي أيضا.

 

كانت في الصفحة الأخيرة من دفتري أسئلة لم يتسن لي قط أن أطرحها: لماذا الاعتراض  بالضبط على ألا يتجاوز البنطلون الكاحلين؟ والسؤال الأخير في دفتري كان موجها إلى دينيس الذي ربما كان سيجيبه باعتباره عبد الملك: هل أنت سعيد؟. جلست في الطائرة راجعا إلى الوطن وأنا أفكر في أنني قبل أقل من أربع وعشرين ساعة فقط كنت مع راثكامب ولاو في مطعم للوجبات السرعية في الإسكندرية. كيف أننا كنا نسخر من طريقة تخلص المصريين من القمامة (والحقيقة أنهم لا يتخلصون منها)، وأن حوافر شاة مقطوعة كانت ملقاة في الشارع عند دخولي حي المندرة. ضحكنا من خوفي أن نموت حينما قام السائق الذي أقلني أنا وراثكامب من المطار بتغيير وضع السيارة «اللادا» السوفييتية إلى وضع السير الخلفي ونحن على الطريق السريع.

 

سلفيان ومسيحي كانوا جالسين على منضدة يتناولون معا الخبز والملح وكأنما يمكن لهذا العالم أن يكون مكانا جميلا».