حيوان الخوف.. وحيوانات الجنينة! - في أحضان الكتب - المعصرة - بوابة الشروق
في أحضان الكتب
حيوان الخوف.. وحيوانات الجنينة! أخر تحديث: الأربعاء 13 مارس 2013 - 12:54 م
حيوان الخوف.. وحيوانات الجنينة!

عشاق الروايات يعرفون أن هناك قانونا متعارفا عليه في مسألة تحويل الروايات الأدبية إلى أفلام سينمائية يقول "قلما تصبح الرواية العظيمة فيلما عظيما، وغالبا تصبح الرواية المتوسطة فنيا الغنية دراميا فيلما عظيما". لولا تعدد الأذواق لبارت الأفلام والروايات، وأنا أتحدث عن ذوقي الخاص، ومع ذلك لا أعتقد أنني سأجد كثيرين يختلفون معي حول المصير السيئ الذي تعرضت له أغلب روايات نجيب محفوظ عندما تم تحويلها إلى أفلام سينمائية، في حين أن رواية (السقا مات) ليوسف السباعي التي لم تحظ بنفس التقدير الفني كرواية تحولت على يد السيناريست محسن زايد والمخرج صلاح أبو سيف إلى فيلم من أجمل وأعظم أفلام السينما، على المستوى العالمي انظر على سبيل المثال لا الحصر ما حلّ بواحدة من أعظم الروايات على الإطلاق، رواية (الحب في زمن الكوليرا) للكاتب الكولومبي جابرييل جارسيا ماركيز، والتي بعد أن تحولت إلى فيلم من إخراج مايك نويل جعلت الكثيرين يتفهمون لماذا ظل ماركيز لعقود يرفض تحويل رواياته إلى أفلام، حتى قال البعض: ليته استمر على موقفه ليظل لروايته سحرها العصي على التحويل إلى فيلم، راجع أيضا ما حدث لرواية (العطر) لباتريك زوسكند برغم عناصر الإبهار التي قدمها الفيلم السينمائي المأخوذ عنها من إخراج توم تاكوير، إلا أنه لم ينجح في أن يكون على قدر الرواية في نظر كثير من محبيها، على الجانب الآخر يتم إنتاج أفلام شديدة الجمال والأهمية تنجح في لفت الإنتباه بعد ذلك إلى الأعمال الأدبية التي أخذت منها، فيراها الناس أقل قدرا من الأفلام، انظر رواية (سلامدوج مليونير) للكاتب فيكاس سوارب التي برغم تميزها إلا أنك ستجد في الفيلم الذي أخرجه داني بويل شحنة إنسانية أكثر قوة وتأثيرا.

 

 

لذلك ولذلك كله، ظللت متلهفا لمعرفة كيف سيكون مصير واحدة من أجمل الروايات التي قرأتها في السنين الأخيرة، وهي رواية (حياة باي) للكاتب الكندي يان مارتل، والتي فازت بجائزة بوكر مان لعام 2002، خاصة بعد أن رفض العديد من المخرجين تحويلها إلى فيلم لأنهم أدركوا صعوبة ذلك، حتى تصدى لهذه المهمة الجسيمة المخرج التايواني الرائع أنج لي، فتفاءلت بذلك لأن أنج لي كان له تجربة رائعة في صنع فيلم جميل عن رواية جين أوستن "ذي سينس أند سينسبيليتي" بمساعدة الممثلة إيما تومبسون التي كتبت له السيناريو وحصلت عنه على جائزة أوسكار. قرر أنج لي في فيلم "حياة باي" أن يتعاون مع كاتب أمريكي إسمه ديفيد ماجي كتب قبل ذلك فيلم "فايندينج نيفرلاند" عن حياة كاتب الأطفال جي إم باري مبتكر شخصية بيتر بان الشهيرة معتمدا على مسرحية، وربما أهله سابق تعامله مع نص أدبي لحمل هذه المهمة الثقيلة التي لم يتكشف حتى الآن إلى أي حد تدخل فيها أنج لي.

 

 

كنت قد قرأت الرواية عندما صدرت لحسن الحظ عن منشورات الجمل قبل سنوات بترجمة رائعة للمترجم الفلسطيني سامر أبو هواش، ولذلك خاب أملي عندما رأيت الإعلان التشويقي الخاص بالفيلم لأنه بدا منه أن كل ما شغل بال صناع الفيلم هو فكرة وجود بطل الرواية على قارب نجاة مع نمر بعد أن نجيا سويا من غرق سفينة كانت تحملهما إلى جوار مئات البشر وبعض الحيوانات التي كان ينقلها أبو البطل من الهند حيث كانت تعيش في حديقة حيوانات يمتلكها الأب إلى كندا حيث كان سيبيعها ويشق طريقا في الحياة له ولأسرته، لكنني أدركت بعد مشاهدتي للفيلم أن أنج لي قام بتقديم إبداع موازٍ لإبداع يان مارتل للرواية، لينجح في أن يجعلك متلهفا لقراءتها إن لم تكن قد قرأتها، وأن تعيد قراءتها إذا كنت قد قرأتها دون أن تشعر أن الفيلم قد أساء إليها أو حط من قدرها، حتى لو كان هناك خلاف حول تفاصيل النهاية التي تبناها الفيلم.

 

لست من الحماقة بحيث أتصور أنني يمكن أن أقوم بحكاية الفيلم لك في هذه السطور، فضلا عن حكاية الرواية نفسها، ولا أدعي أن رواية عظيمة مثل هذه يمكن أن تغني عنها كتابة تكتفي بمدحها وتحبيب قراءتها لك، لذلك رأيت أن ما يمكن فعله إحتفاءا بهذه الرواية، أن أعرض لك مقتطفات منها لم يتطرق لها الفيلم، لعل ذلك يدفعك إلى إقتنائها وقراءتها قبل أن تشاهد الفيلم أو حتى بعد أن تشاهده، وأبدأ هذه المقتطفات بمقتطف بديع يتحدث فيه كاتب الرواية على لسان بطلها الشاب عن أكبر عدو نواجهه هذه الأيام، ألا وهو الخوف، الذي يقول عنه يان مارتل " أود قول شيئ عن الخوف، إنه خصم الحياة الوحيد، وحده الخوف يمكن أن يهزم الحياة، إنه عدو ذكي وغدار، لكم أعرف ذلك، إنه عدو يتمتع باللياقة، ولا يحترم قانونا أو ميثاقا، ولا يرحم، إنه ينقضُّ على نقاط ضعفك، التي لا يجد صعوبة في رصدها، يبدأ دائما من عقلك، في لحظة تكون شاعرا بالهدوء، والتحكم بالنفس والسعادة ثم يأتي الشك متنكرا في هيئة شكوك صغيرة، ويتسلل إلى عقلك كجاسوس، الشك يلتقي باللاتصديق واللا تصديق يحاول طرد الشك، لكن اللا تصديق هو جندي مشاة يفتقر إلى العتاد المناسب، الشك يقضي عليه بسهولة، يستحوذ عليك القلق، فيتقدم العقل ليحارب عنك، تستعيد ثقتك بنفسك، لأن العقل مسلح بأحدث الأسلحة، لكن لذهولك ورغم التكتيكات المتفوقة وبعض الإنتصارات التي حققتها، فسرعان مايهزم عقلك، يتسلل الوهن إليك، تتذبذب، يتضخم قلقك إلى حدود مروعة، ثم ينتقل الخوف إلى جسمك المدرك سلفا بأن هناك أمرا جللا يجري، تُحَلِّق رئتاك كطائر، وتتلوى أمعاءك كأفعى، الآن يموت لسانك كالأبوسوم، فيما يبدأ فكك بالإصطكاك، تصم أذناك وتروح عضلاتك ترتعش كمصاب بالملاريا، وترتعد ركبتاك كما لو أنهما ترقصان، ينخطف قلبك بقوة، بينما ترتخي عضلتك العاصرة كثيرا، وكذلك الأمر بالنسبة إلى سائر أعضاء جسمك، كل عضو فيك يتداعى على طريقته، فقط عيناك تظلان تعملان جيدا، إنهما دائمتا التنبه إلى الخوف، تتخذ قرارات متسرعة، تطرد آخر حليفين لك، الأمل والثقة، هكذا تكون هزمت نفسك بنفسك، يكون الخوف الذي ليس أكثر من تعبير قد انتصر عليك، يصعب الشرح بالكلمات، ذلك أن الخوف، الخوف الحقيقي ذاك الذي يهز أساس وجودك، ذلك الذي يعتريك وأنت تواجه فناءك يعيش في ذاكرتك، كالغرغرينا يفسد كل شيئ، بما في ذلك الكلمات التي تحاول وصفه، لذا عليك أن تكافح لتعبر عنه، عليك أن تكافح لتجعل ضوء الكلمات يشع عليه، لأنك مالم تفعل ذلك، ما لم تحول خوفك إلى عتمة لا تخشى فيها الكلمات، وتنجح ربما في نسيانها، فإنك تعرض نفسك إلى غارات أخرى من الخوف، لأنك منذ اللحظة الأولى لم تحارب حقا الخصم الذي هزمك سلفا".

 

 

في مقاطع كثيرة من الرواية يتحدث الكاتب عن عالم حدائق الحيوانات، وهو العالم الذي مر عليه الفيلم مرور الكرام، لأن إيقاعه لم يكن ليتحمله، مع أن ماقدمته الرواية عن ذلك العالم يصلح ليكون أساسا لتقديم عمل فني كامل عن عالم حدائق الحيوان الذي يتأمله الكاتب بعين ساخرة وعميقة، مناقشا الكثير من الأفكار التي يتداولها الناس عن ذلك العالم ومقارنته بعالم الحيوانات التي تحيا في البراري، فيقول في أحد مقاطع روايته "لا يوازي ماسمعته من هراء يردده بعضهم عن حدائق الحيوانات إلا ماسمعتهم يرددونه عن الله والدين، فالناس ذوو النوايا الحسنة ولكن الذين تنقصهم المعلومات، يحسبون أن الحيوانات تعيش سعيدة في البراري لأنها تكون حرة هناك، فتراهم يتخيلون حيوانا مفترسا ضخما وجميلا كالأسد أو الشيتا وهو يختال في الصحراء لكي يهضم بعد إلتهامه فريسة تقبلت قدرها برضا، أو يتخيلون هذا الحيوان ممارسا الركض لكي يحافظ على نحافته بعد أن أفرط في الإسترخاء، يتخيلونه مشرفا على ذريته بفخر وحنان، فيما تجتمع العائلة لتستمتع بمنظر الغروب من على جذوع الأشجار، متنهدة بغبطة، وبالنسبة إليهم تعيش حيوانات البراري حياة سهلة ونبيلة وذات مغزى، قبل أن يأتي رجال أشرار فيصيدونها ويرمونها في أقفاص صغيرة، وعندها تتحطم سعادتها، ويشتد توقها إلى الحرية، وتفعل كل مافي وسعها للفرار، بعد حرمانه من الحرية وقتا طويلا يصبح الحيوان ظل نفسه وتنكسر روحه هذا مايخاله بعض الناس، لكن الأمور ليست كذلك.... تعيش حيوانات البراري تحت وطأة الإكراه والضرورة ضمن تراتبية هرمية لا ترحم، في بيئة يكثر فيها الخوف ويندر الطعام، وحيث ينبغي الدفاع باستمرار عن الأرض ضد تطفل الحيوانات الأخرى، فما معنى الحرية هنا؟، حيوانات البراري عمليا غير حرة لا في المكان ولا في الزمان، ولا على صعيد العلاقات فيما بينها".  

 

ثم بعد شرح طويل يقول يان مارتل " دعني أستطرد في شرح ناحية واحدة: إذا ماذهبت إلى بيت أحدهم وركلت الباب برجلك ورميت بساكنيه إلى الشارع قائلا لهم اذهبوا وأنتم أحرار كالطيور اذهبوا اذهبوا، أو تظنهم سيهللون ابتهاجا ويرقصون فرحا، لا لن يفعلوا ذلك فالطيور ليست حرة، وأولئك الذين قمت بإخلائهم توا قد يصرخون في وجهك بأي حق ترمينا في الخارج هذا بيتنا ملكيتنا إننا نعيش هنا منذ سنوات. سوف نستدعي الشرطة أيها الوغد. ألا يردد البشر غالبا: ليس من مكان أفضل من البيت، هذا بالتأكيد ماتشعر به الحيوانات، إنها كائنات محلية  ومحليتها هي مفتاح فهم عالمها، وحده المكان الذي تألفه يستوفي بالنسبة إليها الشرطين الأساسيين للعيش في البراري، تجنب الأعداء والحصول على الطعام والشراب، حديقة الحيوان المناسبة إحيائيا، أكانت قفصا أم حفرة أم جزيرة أم زريبة أم مربى بريا أم مائيا أم مطيرا هي حيز مكاني بديل بالنسبة إلى الحيوان، وهذا الحيز يبدو مختلفا فقط في حجمه وفي قياسه النسبي إلى الحيز المكاني البشري أما كونه أًصغر بكثير مما هو عليه في الطبيعة فذلك له تفسير منطقي، فالحيز المكاني في البرية ليس كبيرا من باب الرغبة بذلك، بل من باب الضرورة، في الحديقة نقدم للحيوانات مانقدمه لأنفسنا في البيوت، نضع في حيز مكاني صغير ومحدد ماهو مشرع وفسيح في البرية. في الماضي بالنسبة إلينا كبشر كان الكهف هنا والنهر هناك وأمكنة الصيد على بعد ميل من هنا يليها المطل وثمرات العليق في مكان آخر وكلها ممتلئة بالأسود والأفاعي والنمل واللبلاب السام، أما اليوم فالنهر يتدفق من صنابير مياه على مرمى اليد، ونستطيع غسل ملابسنا قرب حجرات نومنا، ونستطيع أن نأكل حيث نطبخ، وأن نسور ذلك كله بجدار ونبقيه نظيفا دافئا، البيت إذا هو منطقة مضغوطة تلبى فيها حاجاتنا الأساسية بأمان وضمن مجال محدد، وحديقة الحيوانات المناسبة تعادل ذلك كله بالنسبة إلى الحيوان مع الغياب الجدير بالإنتباه للمدفئة وغيرها من كماليات نجدها في السكن البشري، فالحيوانات تجد في الحديقة كل الأمكنة التي تحتاج إليها، المرقب والمستراح ومكان لشر ب والأكل والإستحمام وللمزاوجة إلخ، وإذ يجد الحيوان أنه لا يحتاج إلى الصيد، حيث الطعام يحضر إليه طوال أيام الأسبوع، فإنه يستحوذ على حيزه المكاني في حديقة الحيوانات على النحو نفسه الذي يسيطر فيه على بقعة جديدة في البراري فيستكشفه ويعلمه بالبول بالطريقة نفسها التي يفعل بها جنسه ذلك، وما إن يتم طقس الإنتقال هذا ويستقر الحيوان فلن يعود نزيلا متوترا، ولن يتصرف كسجين، بل كصاحب ملكية، وسيتصرف تجاه مكانه بالطريقة نفسها التي يتصرف فيها ضمن بيئته البرية، بما يتضمنه ذلك من شراسة في الدفاع عنه إذا ماتعرض للغزو، ليست بيئة كهذه أفضل ولا أسوأ بالنسبة إلى حيوان من البراري، مادامت توفر له إحتياجاته، ليصبح المكان بكل بساطة، طبيعيا كان أم اصطناعيا، ومن دون إطلاق الأحكام أمرا مسلما به كالبقع على جلد فهد، بل يمكن أن يجادل المرء حتى أنه إذا ماقيض للحيوان الإختيار فسيفضل العيش في حديقة الحيوان، مادام الفرق الجوهري بينها وبين البرية هو غياب المتطفلين والأعداء ووفرة الغذاء في الأولى، ووفرته النسبية وندرته في الثانية، ضع نفسك في مكانه، أتفضل أن تقيم في فندق ريتز مع خدمة غرف مجانية وخدمة طبية متوافرة طوال الوقت، أو أن تكون متشردا من دون أحد يعتني بك، لكن الحيوانات لاتقوم بمثل هذه المفاضلة، فتتكيف ضمن حدود طبيعتها مع ماهو متوافر لها".

 

ويختم تأملاته الطويلة التي يختلط فيها الجد بالهزل في مقطع ثالث يقول فيه "حتى الحيوانات التي يتم إستيلادها في حدائق الحيوانات ولم تعرف البرية أبدا، والتي تتأقلم بسهولة مع محيطها ولا تشعر بالتوتر في حضور البشر، تمر بلحظات من الهيجان تدفعها إلى السعي إلى الفرار، يبدو أن ثمة قدر من الجنون في كل الكائنات الحية يحركها بطرق غريبة وغير مفهومة أحيانا، هذا الجنون يمكن أن يكون عامل إنقاذ أحيانا، إنه جزء من القدرة على التأقلم من دونه لا يمكن لأي جنس الإستمرار بالعيش. إذا ماوقعت في عرين أسد فلن يمزقك إربا لأنه جائع، كن واثقا من ذلك، حيوانات الحدائق تتغذى جيدا أو لأنه متعطش للدماء لكن لأنك تجاوزت حدود منطقته. لهذا السبب يحرص مدرب الأسود في السيرك على دخول الحلبة قبل الأسود وعلى مرأى منها، فبفعله هذا يرسخ في أذهانها أن الحلبة هي منطقته، لا منطقتها وهو مفهوم يعززه بالصراخ، والضرب بشدة بأخمص قدميه والضرب بسوطه....حياة حديقة الحيوانات كحياة ساكنيها في البراري متقلقلة ليست عملا ضخما كفاية ليكون فوق القانون، ولا صغيرا كفاية للإستمرار على هوامشه، ولكي تزدهر تحتاج الحديقة إلى حكومة برلمانية وإنتخابات حرة، إلى حرية الكلام وحرية الصحافة وحرية العلاقات وسيادة القانون وكل شيئ آخر منصوص عليه في دستور الهند، من المستحيل الإستمتاع بالحيوانات من دون هذه الشروط، السياسات السيئة والحكم الديكتاتوري تلحق الضرر بهذا العمل".

 

 

 

 

من أجمل الفقرات التي قرأتها في الرواية فقرة عن فن كتابة الرواية بشكل عام يتحدث فيها كاتبها على لسان بطلها الثاني الكاتب الذي يسمع قصة البطل الرئيسي ويفكر في كتابتها فيقول "إنها معادلة مأساوية بالنسبة إلى الطامحين أن يصيروا كتابا، موضوعك جيد، وكذلك قدرتك التعبيرية، شخصياتك مفعمة بالحياة إلى حد أنه يمكنك أن تستخرج لها شهادات ميلاد، الحبكة التي وضعتها لهم عظيمة، بسيطة ومشوقة، كما أنك قمت بأبحاثك، وجمعت الوقائع التاريخية والإجتماعية وتلك المتعلقة بالطقس وعادات الأكل التي ستمنح قصتك المصداقية والأصالة، الحوار يتدفق بالحيوية ويمور بالتوتر، الوصف يتفجر بالألوان، والتناقض والتفاصيل الدالة، حقا يستحيل ألا تكون قصتك عظيمة، لكن هذا كله لا يعني شيئا، على الرغم من الوعد الواضح المشع في قصتك، تأتي اللحظة التي تسمع فيها بوضوح ماكنت تسمعه يتردد همسا طوال الوقت في خلفية تفكيرك، والذي يقول لك الحقيقة البسيطة الفجة: لن تنجح الرواية، ثمة عنصر ناقص، تلك الشرارة التي تجعل قصة تنبض بالحياة حقا، بصرف النظر عن درجة دقة هذه المعلومة أو تلك، قصتك ميتة عاطفيا، هذا هو الأمر الأساسي، أقول لكم، إنه اكتشاف مدمر للروح، فهو يترك صاحبه يعاني من جوع مزمن مؤلم".

 

أما العبارات الأروع في الرواية والتي يمكن أن تعتبرها تلخيصا مفتاحيا ليس فقط لأحداث الرواية، بل للكثير مما شهدناه ونشهده في حياتنا من أحداث، فهي تلك التي يقول فيها كاتبها يان مارتل "الحياة رائعة إلى حد أن الموت واقع في غرامها، غرام استحواذي غيور يتشبث بكل مايمكنه الحصول عليه، لكن الحياة تتغلب على النسيان بكل خفة، خاسرة على الدرب تفصيلا أو اثنين تافهين، أما الكآبة فليست سوى ظل غمامة عابرة".

 

تبقى في النهاية نصيحة مخلصة بألا تحرم نفسك من قراءة رواية (حياة باي)، لعلها تعينك بعض الشيئ على مواجهة وحشية حيوان الخوف ومقاومة غباوة بعض البشر الذين خلقهم الله أحرارا، فاختاروا أن يكونوا أكثر عبودية من الحيوانات مع أنهم لا يحصلون حتى على رفاهية حيوانات الجنينة.