من أنتم.. هه?! طويلة لسه طويلة - مختارات - المعصرة - بوابة الشروق
مختارات
من أنتم.. هه?! طويلة لسه طويلة أخر تحديث: الأربعاء 5 يونيو 2013 - 12:52 م
من أنتم.. هه?! طويلة لسه طويلة

قدرة بعض أبناء شعبنا الأبيّ على «لضم» الأفكار المتخلفة الطائفية الحقيرة في أي أزمة جديدة تواجهنا، ستظل قدرة يقف المرء منّا أمامها مندهش العقل فاشخ الضب مرتبك الوجدان.

 

عصر الجمعة الماضية وعلى مدخل إحدى مولات التجمع الخامس، شاءت الأقدار أن أشهد رجلا يقف مستظلا بشجرة من صهد الحر وممسكا بموبايله ليقوم من خلاله بالتوعية السياسية لشخص آخر غائب عن الصورة، لكن بدا من خلال أداء المتحدث أنه مستمع جيد، على الأقل خلال الجزء الذي استمعت إليه والذي كنت أتمنى أن يطول لولا أن إبنتي الصغرى لكزتني قائلة «بابا إحنا كده هنسيح في الحر». قال الرجل لصاحبه وهو يوعيه «ياباشا زي ما باقولك كده.. البلد اللي إسمها أثيوبيا دي خمسة وتسعين في المية منها مسيحيين.. لا وإيه مسيحيين كفاتسة زي اللي عندنا.. بياخدوا تعليماتهم من البابا اللي هيناهوه»، عندما تستمع إلى هذا المقطع ستفترض إبتداءا أن الرجل يحمل فكرا دينيا متطرفا يسعى من خلاله لتبرير تقصير الإخوان في أزمة النيل، لكن الرجل لن يجعل إفتراضك هذا يعيش طويلا، بل سيعاجلك بمنطق يجعله عصيا على التصنيف ويجعل يومك عصيا على المرور، خصوصا حين تسمعه وقد طفق يقول لصاحبه «فلما الكفاتسة الإثيوبيين لقوا البلد خربت بسبب المخروبة اللي إسمها الثورة قالك بقى نستنهز الفرصة ونخلص على المسلمين ونموتهم من العطش.. بس بعون الله بكره الجيش هيخيطهم كلهم»، تقتضي الأمانة هنا أن أشير إلى أنه استخدم تعبيرا شعبيا أكثر بذاءة لا تسمح الصحف بنشره، عندما صمت الرجل قليلا توقعت أن الطرف الآخر يناقشه مثلا في عدم معقولية أن يتم «تمويت» المسلمين فقط من العطش لأن النيل لن يفرق بين مسلم ومسيحي، لكنه عندما عاد إلى الحديث اتضح أن الشخص الآخر سأله «يخيط مين بالضبط»، فأجابه بثقة كانت تطفح من ملامح وجهه ونبرات صوته «زي ما بقولك كده.. هيخيط الكل بتوع أثيوبيا وبتوع الثورة والإخوان والمسيحيين عشان البلد دي بقى تنضف».

 

عندما تحدث لي مواقف كهذه، وهي كثيرا ما تحدث لي لسوء حظي، أتذكر المرحوم عبد الحليم حافظ، ليس فقط لأنني أتذكر أغنيته الأحب إلى قلبي «موعود معايا بالعذاب موعود ياشعبي ولا بتهدا ولا بترتاح في يوم ياشعبي وعمرك ما شفت معايا فرح كل مرة كل مرة يرجع المشوار بجرح»، بل لأنني أتذكر على الفور عبارته المثقلة بالدلالات «طويلة لسه طويلة»». منذ ثلاثة أشهر فقط كنت في لحظة وجدانية مواتية سمحت لي أن ألتقط المعنى فائق الاهمية الذي كان عبد الحليم حافظ يوصله لنا جميعا منذ أكثر من أربعين عاما من خلال عبارته تلك: «طويلة لسه طويلة».

 

كان عبد الحليم يكرر عبارته تلك كثيرا في أغانيه الطويلة عندما يهيص الجمهور ويزيط ويطلب منه أن يعيد الكوبليه الذي انبسط به وكأن أفراد الجمهور يتصورون أن عبد الحليم لو استمر في الأغنية دون إعادة كل كوبليه ثلاث وأربع مرات، ستنتهي الحفلة سريعا، وسيكون عليهم أن يواجهوا بقية الليلة بمفردهم بدون صوت عبد الحليم وحضوره الآسر. قد يكون ذلك حقا ما كان يدور بذهنهم الجمعيّ فيدفعهم للزياط والهيصة والشوشرة على صفاء عبد الحليم ورغبته في أن يسوق الليلة «زي ما هو شايف»، وقد تكون هناك أسباب أخرى لا نعلمها نحن ولا عبد الحليم، لكن عبد الحليم لم يكن يجد ما يقوله في مواجهة ذلك الزياط سوى أن يردد «طويلة لسه طويلة»، لكنه كان يقولها في كل مرة بنبرة صوتية تعكس حالة  مزاجية مختلفة. أحيانا كانت نبرة الصوت متضايقة ولكن بشكل لا يخفي فرحته بإعجاب الناس فيبدو أن العبارة تحمل معنى «أنا مبسوط إنكو انبسطتوا سيبوني بقى أكمل لحد الآخر»، وأحيانا تكون النبرة أكثر عتابا وأشد ضيقا فيبدو لي أنها تحمل معنى «ياولاد الذين يستجري حد فيكو يزيط كده في حفلة لأم كلثوم كان إترمى بره الحفلة رمية الكلاب»، وأحيانا كانت نبرات الصوت لا تحمل سوى الضيق بذلك الزياط فيبدو أن العبارة تحمل معنى «الله يخرب بيت الحشيش اللي من يوم ما رخص والواحد مش عارف يغني»، وأحيانا تكون النبرات أشد غضبا فيبدو أنه يقول لنفسه «قلت لمجدي يغلي التذكرة ما سمعش كلامي مافيش فايدة لازم نشرب القرف ده لغاية ما الحفلة تعدي»، لكن العبارة مع الكوبليه الأخير ومع إشتداد آلام عبد الحليم البدنية كانت تحمل نبرات شديدة العداء والمرارة تشعر فيها كأن عبد الحليم يريد أن يصرخ في الجميع «بس يا ولاد المتسخة مش هاعيد أم الغنوة واولعوا بجاز».  

 

كل هذا التخيل لمعاني عبارة عبد الحليم حافظ لا ألزم به أحدا غيري، تماما كما لا ألزم أحدا بالمعنى الجليل الذي التقطته من تلك العبارة التي اصبحت شعارا أسير به في الحياة منذ ثلاثة اشهر وسأسير به إلى ما شاء الله لأشعر براحة نفسية رهيبة كلما اقترب مني شخص ليقول لي كلاما من نوعية «عاجبك اللي حصل في البلد.. بالذمة مش تسرعتوا.. خدنا إيه من الثورة مش كان زمان أحلى»، فلا أكرر خطئي القديم بأن أقول له كلاما عقليا منطقيا هو أصلا لا يريد أن يسمعه لأنه إما كاره للثورة أو غير مشغول بفهمها أو لأنه من معتنقي مذهب «وهي إيه اللي وداها هناك»، بل أكتفي بأن أبتسم له إبتسامة بلهاء وأقول له وقد تقمصت روح عبد الحليم «طويلة لسه طويلة»، ثم أتركه وأمشي ممتلئا بجمال المعنى الحليمي ومستعدا للكوبليه القادم من حياتي.

 

على نفس الصعيد، تمر بنا اليوم ذكرى هزيمة الخامس من يونيو، ستعبر علينا كما عبرت علينا من قبل هي وكل ذكرات هزائمنا الصريحة وهزائمنا التي دلعناها وسميناها نكسات وهزائمنا التي ضحكنا على أنفسنا واعتبرناها إنتصارات وهزائمنا التي اعتمدنا على أن أحدا في حارتنا لن يتذكرها لأن آفة حارتنا النسيان.

 

ربما كان الجديد هذه المرة، أننا أصبحنا نستخدم سيرة هزيمة يونيو وسيرة المسئول سياسيا عنها جمال عبد الناصر، كوسيلة للصوبعة السياسية، الإخوان مستمرون في إتباع عادتهم المفضلة «كلما تتزنق إشتم عبد الناصر»، كأن شتيمته ستقنع الناس أنهم أصحاب فكر ورؤية ومنهج، وأعداء الإخوان من محبي عبد الناصر يظنون أن مجرد البكاء على سيرته وتذكير الناس بها سيجعل الناس يكرهون الإخوان أكثر، وسيجعل الإخوان يموتون غيظا لأنه لم يخرج منهم قائد عظيم ملهم ساحر مثل عبد الناصر. للأسف كان بعض المتفائلين يظن أن الثورة في موجتها الأولى ستكون فرصة سانحة لنزح كل هذا الهراء من العقلية المصرية، وستدفع الكثيرين إلى أن ينظروا إلى تاريخ مصر الحديث والمعاصر بوصفه حلقات متصلة مترابطة، وهو أمر لو أدركناه لعلمنا أن كل ما نعانيه من أزمات خطيرة مثل ملف مياه النيل وملف سيناء وملف الطاقة وملف الأمن القومي، من أهم أسبابه هو إختيارنا القديم لنموذج الزعيم الملهم صاحب الرؤية الذي يفكر ويقرر «وإحنا كلنا حواليه أو تحت رجليه والشعب بيسعى إليه».

 

سيرة هزيمة خمسة يونيو تستدعي دائما لدى دراويش عبد الناصر سيرة المؤامرات التي لم تحدث الهزيمة إلا بسببها، فلم نسمع حتى الآن نقدا متكاملا صريحا يخرج من داخل التيار الناصري للأخطاء التي ارتكبها ناصر وأدت إلى الهزيمة التي لا زالت تؤثر في واقعنا حتى الآن، مما يجعلهم شديدي الشبه بالمشروع الإسلامي الذي يعادونه، لأن أنصار ذلك المشروع لا يكفون طيلة الوقت عن تبرير فشلهم بالحديث عن المؤامرات، حتى وهم يحظون بالدعم الامريكي العلني لا يتوقفون عن الحديث عن المؤامرات، وهو ما يجعلك تفكر كم هو عظيم ذلك القانون الفيزيائي الذي أخبرنا أن الأقطاب التي تتنافر هي دائما متشابهة جدا.

 

عندما تنتهز فرصة خمسة يونيو لتذكر البعض بأهمية تأمل درس الهزيمة الأهم «لن تحصل أبدا على تنمية شاملة ولا على كرامة وطنية ولا على إستقلال سياسي إذا قمت بسحق الحريات الفردية وإذا تعاملت مع المواطن على أنه رقم فرحان في الصورة»، ستجد من يقول لك «ما قبل عبد الناصر لم يكن جنة»، دون حتى أن تكون قد قلت يوما ما أنه جنة، وستجد من يصرخ فيك أن «ما بعد عبد الناصر لم يكن جنة»، كأنك قلت أصلا أنه جنة، وستجد من يقول لك أيضا «مش أحسن من المتأسلمين ولاد كذا»، كأنه مكتوب عليك أن تكون دائما ملتزما بالبقاء ضمن صفوف فريق تشجعه، وتشتم أمهات من في الفرق الثانية جميعا بلا إستثناء.

 

مع أن المسألة ليست أن تكون محبا لعبد الناصر أو كارها له، فقد رحل الرجل إلى ربه وأفضى إلى ما قدمه لوطنه، سيظل أعظم ما في عبد الناصر أنه اختار المقاومة بعد الهزيمة، ولم يستسلم وسعى لكي يصلح أخطاءه التي أفضت بنا إلى الهزيمة، لكن المسألة ليست أبدا متعلقة بشخص عبد الناصر وحياة أمي وأمك الغاليتين، المسألة أننا نفوت الفرصة تلو الفرصة للإستقرار على بديهية واحدة استقر عليها عقلاء العالم الذي تقدم، هي أنه لن يوجد شعار أيا كان نبله ولا شخص أيا كانت عظمته يقدر على إنقاذ أمة بأكملها، فما بالك لو كانت أمة غارقة في أم المشاكل والخيبات والهزائم. المؤسف أننا لمسنا هذه البديهية بأيدينا في الحادي عشر من فبراير عندما أطحنا بمبارك من على عرشه، ومنذ تلك اللحظة التي بادر فيها رماة الإخوان إلى جمع الغنائم السياسية وفارقوا الميدان الذي انضموا له متأخرين، ونحن نتنقل من هزيمة إلى أخرى، فهل نتعلم قبل أن تأتي ذكرى خمسة يونيو القادمة أن العودة إلى حدود حداشر فبراير هي وحدها المنقذ؟، يبدو ذلك الآن خيالا جامحا وخيارا مستحيلا، لكنني أوقن أننا ذاهبون إليه حتما ولا محالة، سواءا بالدم أو بالعطش أو بهما معا.

 

أو كما قال عبد الحليم حافظ «طويلة لسه طويلة».