الدكتور قاسم زكي يكتب: الاكتفاء من القمح.. صداع كل عام والتقاوي جذور المشكلة - منبر الشروق - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 12:42 م القاهرة القاهرة 24°

الدكتور قاسم زكي يكتب: الاكتفاء من القمح.. صداع كل عام والتقاوي جذور المشكلة

نشر فى : الأربعاء 9 نوفمبر 2011 - 5:45 م | آخر تحديث : الأربعاء 9 نوفمبر 2011 - 5:50 م
نرى أن هذه المشكلة يمكن حلها بالتخطيط الجيد وفى غضون سنوات قليلة، ولكن قبل هذا لابد من أن نضع أيدينا على جذور المشكلة
نرى أن هذه المشكلة يمكن حلها بالتخطيط الجيد وفى غضون سنوات قليلة، ولكن قبل هذا لابد من أن نضع أيدينا على جذور المشكلة

مع قدوم شتاء كل عام و قرب موسم زراعة القمح نعاود الحديث عن مشكلة عدم الاكتفاء الذاتي من القمح، وكأنه صداع يزورنا كل عام فى هذا الموعد، ونرى أن هذه المشكلة يمكن حلها بالتخطيط الجيد وفى غضون سنوات قليلة، ولكن قبل هذا لابد من أن نضع أيدينا على جذور المشكلة والتى تبدأ من قبل زراعة القمح مثلا المساحة المتاحة لزراعته وتنافسها مع المحاصيل الشتوية الهامة الأخرى كالفول والبرسيم، بل أيضا حين نشرع فى زراعة القمح فى المساحة المخصصة له نرى جملة من المشاكل وفى مقدمتها عدم توفر التقاوى المنتقاة و بضمان الدولة لجميع المساحات المخصصة.

 

وعلى الرغم من أن مصر المحروسة تحتل الرقم 30 بين دول العالم من حيث المساحة (حوالى واحد مليون كم2) والرقم 16 من حيث عدد السكان (85 مليون نسمة)، إلا إنها تحتل (وللأسف) المرتبة الأولى عالميا فى قائمة الدول المستوردة للقمح، وهذا يلقى عبأ ثقيلا على صانع القرار و مدى استقلاليته، وأيضا على كاهل الشعب كله والذي كان أجداده أول من زرع و حصد وصنع الخبز فى تاريخ البشرية.

 

ففى حين تنتج مصر قرابة ثمانية مليون طن قمح سنويا إلا أنها تستورد قرابة ستة ملايين طن لتكفى احتياجاتها المتزايدة سنويا مع الزيادة السنوية للسكان (قدرها 1.3%)، ومنذ سنين وتسعى الحكومات المتعاقبة لزيادة الإنتاج وتقليل الفجوة الغذائية (المتزايدة أصلا)، وبدون جدوى.

 

ولعل وزير الزراعة الحالي (د. صلاح يوسف) أعلن بأن وزارته تستهدف زيادة الإنتاج الكلى من القمح فى مصر بنسبة 20% خلال العامين القادمين من خلال التوسع الأفقي والرأسي، بالإضافة إلى التوسع فى إقامة الصوامع لزيادة الطاقة الاستيعابية للتخزين من 4 ملايين طن إلى 8 ملايين طن لتقليل الفاقد فى الحبوب نتيجة لسوء التخزين، ففى هذا العام (موسم 2011/2012م) تستهدف الدولة زراعة 3 ملايين فدان، بالإضافة لمائة آلف فدان فى توشكى وشرق العوينات، ليصل بالإنتاج إلى ما بين 8-9 مليون طن (ليغطى 55-60% من الاحتياج المحلى). ووعد سيادته بتوفير التقاوي والأسمدة والمبيدات وأيضا القروض للفلاحين للنهوض بتلك الزراعة الهامة.

 

ولكن لو تفحصنا حالة زراعة القمح، نجد أن الدولة ممثلة فى وزارة الزراعة، لا تستطيع توفير سوى 40% من التقاوي المحسنة المنتقاة العالية الإنتاجية المطلوبة هذا العام (بدلا من 25 % فى السنوات السابقة) لزراعة تلك المساحة المستهدفة (آي يمكنها تزويد الفلاحين لزراعة مليون وأربعون آلف فدان فقط) خاصة مع إقبال المزارعين على التوسع فى زراعة القمح بالتقاوي المعتمدة لتحقيق أعلى إنتاجية فالأصناف الجديدة (مثل مصر 1، ومصر2) تتجاوز متوسط إنتاجيتها 25 إردبا للفدان الواحد بدلاً من 18 أردبًا للأصناف الحالية، (بل سجلت رقما قياسيا حيث وصلت إنتاجية الفدان إلى 32.9 إردبا فى قنا).

 

كما تعمل وزارة الزراعة على عودة الدورة الزراعية إلى سابق عهدها، وذلك بالتنسيق مع مديريات الزراعة بالمحافظات، وتزويد الفلاح الملتزم بالأسمدة اللازمة وكذا برامج المكافحة للآفات بالمجان بالإضافة إلى حزم الإرشاد الزراعي.

 

كما ستُقصر توزيع التقاوي والأسمدة والمبيدات المدعمة على الجمعيات الزراعية بموجب الزراعات الفعلية بالأرض وليس الحيازة الزراعية كما كان متبعا من قبل، وكان يمثل فرصة لتسرب أغلب الأسمدة المدعمة ومستلزمات الإنتاج الأخرى للتجار الجشعين.

 

ولكن ماذا عن تقاوي القمح لباقي المساحة المستهدفة (أكثر من 2 مليون فدان)، حيث تتركهم الوزارة للشركات الخاصة أو ما يجنبه الفلاح من محصول العام الماضي، وهذا كثيرا ما يمثل خطورة على الفلاح وعلى الإنتاج القومي، فكثيرا ما تكون تلك التقاوي غير مطابقة للمواصفات القياسية للأصناف الجيدة للمنطقة التى ستزرع بها.

 

أو ذات إنتاجية منخفضة وأصناف قديمة عفى عليها الزمن أو تكون منخفضة فى نسبة الإنبات فتسبب خسائر من البداية أو تكون مصابة بالتسوس أو مختلطة ببذور الحشائش (كالذمير) أو جراثيم الأمراض، ناهينا عن المغالاة فى أسعار تلك التقاوي و التى قد تصل إلى الضعف أحيانا و تباع فى السوق السوداء، ولعل نظرة سريعة بلنتفحص أخبار زراعة القمح هذه الأيام لنكتشف هول الكارثة مع ضبط أطنان من حبوب التقاوي المغشوشة التى تتسرب للأسواق و بدون رقابة و يصعب على الفلاحين معرفة أين هى التقاوى المنتقاة.

 

فلأي زراعة تمثل التقاوي المنتقاة أهم أركان مثلث الزراعة والذى يكتمل ركناه الآخرين بالتربة الطيبة والمياه العذبة، فمهما كانت خصوبة الأرض ووفرة المياه ومها زودت بأسمدة وكوفحت الآفات والحشائش، فلن يجدي هذا أبدا مع تقاوي غير جيدة.

 

ومن المعروف أن فدان القمح يحتاج إلى 40-80 كجم تقاوي و الذى يتأثر بكثير من العوامل وأهمها الصنف وطريقة الزراعة وميعاد الزراعة ونسبة الإنبات و خصوبة الأرض، وأكدت وزارة الزراعة أن التقاوي المنتقاة متوافرة فى مقار الجمعيات الزراعية وجمعيات الإصلاح الزراعى وبنوك التنمية والائتمان الزراعى بالمحافظات، ويباع جوال التقاوى زنة 30 كيلو جراما بسعر 125 جنيه.

 

والدولة ستقدم العديد من التيسيرات للمزارعين لهذا العام منها الاتفاق مع البنك الرئيسي للتنمية والائتمان الزراعي على رفع الفئة التسليفية لزراع القمح إلى 3 آلاف و500 جنية للفدان، ورفع سعر استلام القمح من المزارعين لهذا لعام على أساس 380 جنيها للإردب، كل هذا يشجع الفلاحين على زراعة القمح و بالتالى زيادة الإنتاج.

 

ولكن الإخلال بهذه التعهدات يصيب ثقة الفلاحين فى حكومتهم فى مقتل (ولعلنا نذكر موسوم عام 2005، حين تم تشجيع الفلاحين على زراعة القمح وتجاوزت المساحة المنزرعة ثلاثة ملايين فدان لأول مرة فى مصر، ولكن وزارة التموين آنذاك رفضت تسلم غالبية المحصول وفضلت ما جلبة رجال الأعمال من الخارج، فهل نتعلم الدرس، أم أن الصداع سيستمر).

 

ولكن هذا ينبهنا لمشكلة خطيرة ليست فى زراعة القمح وحسب، بل تنسحب على غالبية المحاصيل الإستراتيجية الأخرى، و هى عدم توافر التقاوي المنتقاة بيسر وسهولة وأسعار مناسبة للفلاحين، والحقيقة المؤكدة إن التقاوي المحسنة هي أساس الإنتاج الجيد ولا يمكن أن نتوقع إنتاجا جيدا من أي محصول إذا تم البدء بتقاوي غير محسنة مهما كان الاهتمام بالعمليات الزراعية المختلفة وإجزال العطاء من المدخلات الزراعية الأخرى مثل الري والأسمدة والمبيدات واستخدام الميكنة في تجهيز الأرض الزراعية والحصاد وغيرها.

 

وقد أدركت وزارة الزراعة هذه الحقيقة مع بداية ثمانينات القرن الماضي وبدأت في تنفيذ عدد من البرامج القومية وأنشأت العديد من مراكز إعداد التقاوي بهدف توفير التقاوي المعتمدة للمزارعين بأسعار مدعمة حتي منتصف التسعينات حيث بدأت مرحلة تحرير الاقتصاد وإلغاء الدعم علي مستلزمات الإنتاج ومنها التقاوي وسمحت للقطاع الخاص بتوسيع نشاطه في مجال إنتاج وتسويق التقاوي جنبا إلي جنب مع القطاع الحكومي.

 

ونالت التقاوي جل اهتمام المزارعين، ولعبت التقاوي دوراً محورياً في زيادة إنتاجية الأرض الزراعية وزيادة العائد المحقق لهم من زراعة أراضيهم، وأصبحت لدينا صناعة فتية خاصة بالتقاوي. ولكن مع بداية الألفية الثالثة (مع سياسة الخصصة والتخبط) برزت العديد من المعوقات الفنية والإدارية بجانب الفساد الإداري والمالى والتي حالت دون تطوير تلك الصناعة في مصر، بينما استطاعت العديد من الدول النامية النهوض بهذه الصناعة من خلال تطوير أساليب الإنتاج والتسويق والاستفادة من تجارب الدول المتقدمة باعتبار أن التقاوي الجيدة هي نقطة البدء في تحقيق التنمية الزراعية المستدامة. ولعل موضوع إنتاج التقاوي المنتقاة (صناعة التقاوي) سيحتاج منا لوقفة أخرى، ربما نتاولة فى مقال آخر لو كان فى العمر بقية بإذن الله.

 

(أستاذ الوراثة ووكيل كلية الزراعة بجامعة المنيا لشئون خدمة المجتمع وتنمية البيئة والرئيس الأسبق للجمعية الأفريقية لعلوم الحاصلات الزراعية وعضو الرابطة العربية للإعلاميين العلميين)

شارك بتعليقك