عن الحياة الحديثة - جلال أمين - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 3:03 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عن الحياة الحديثة

نشر فى : الثلاثاء 2 سبتمبر 2014 - 7:45 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 2 سبتمبر 2014 - 10:38 ص

رأيت منذ أيام قليلة فيلما حديثا وجميلا جدا لمخرجين شقيقين بلجيكيين هما الأخوان داروين يعملان دائما معا، واسمه «يومان وليلة واحدة»، وشعرت بضرورة الكتابة عنه لتصل فكرته إلى أكبر عدد ممكن.

الفيلم ليس متميزا من ناحية الفن السينمائى، ولكنه متميز جدا بفكرته «فضلا عن أداء ممثليه» مما يعيد إلى الذهن ذكرى ذلك العصر «الذى اعتبره ذهبيا» فى تاريخ السينما، والمعروف باسم «الواقعية الاجتماعية»، الذى اشتهر به على الأخص المخرجون الإيطاليون فى الخمسينيات وأوائل الستينيات. وقد وصفت مجلة الإيكونوميست البريطانية هذا الفيلم «بأنه يصل فى وصف الآثار الساحقة لمآسى النظام الاقتصادى والمالى السائد فى الغرب الآن، إلى أعماق لم يصل إليها أى فيلم روائى من قبل».

امرأة فى الثلاثينات من عمرها، متزوجة من رجل يحبها وتحبه، ولهما طفلان. تسكن الأسرة فى بيت فيه كل وسائل الراحة، ولديهم سيارة يستقلها الزوج فى ذهابه إلى عمله المتواضع فى أحد المطاعم، ويوصّل الطفلين فى طريقه إلى مدرستهما.

الزوجة مع ذلك تعانى منذ بضعة شهور من اكتئاب شديد ليس له سبب واضح، واضطرت بسببه إلى طلب إجازة من عملها المتواضع أيضا بإحدى الشركات. لا يبدو أن للأسرة مشكلة إلا انخفاض الدخل، فالزوج والزوجة على الرغم من أنهما يحصلان معا على دخل يكفى لحاجات الأسرة الضرورية، لا يجدان الدخل كافيا لأكثر من ذلك.

يبدأ الفيلم.. فتظهر المرأة وهى فى حالة اكتئاب، ثم تتلقى خبرا فظيعا بالتليفون من موظفة بالشركة، وهو أن مدير الشركة طلب من العاملين فى نفس القسم الذى تعمل به أن يدلوا برأيهم، إذا أرادوا أن تستجيب الشركة لطلبهم بصرف مكافأة لكل منهم قدرها ألف يورو، فيما إذا كانوا يوافقون على إنهاء خدمة زميلتهم فى الشركة، وأن نتيجة التصويت كانت بالموافقة، ومعنى ذلك فصلها، واضطرار الأسرة إلى الاكتفاء براتب الزوج، وهو ما يهددهم بتغيير نمط حياتهم تغييرا شاملا بما فى ذلك ترك البيت الذى يسكنونه.

المرأة يزداد شعورها بالبؤس، فنراها وهى تتناول الحبوب المضادة للاكتئاب، على فترات متقاربة. الزوج يظهر لها درجة عالية من الحنان والمؤازرة، ويقول إنها لا يمكن أن تقبل هذا القرار دون مقاومة، وأن عليها أن تفعل كل شىء لإلغائه.

يأخذها زوجها لمقابلة المدير الذى يبدى تأففا واضحا، ثم يوافق بتكبر وضيق شديد على أن يجرى الاقتراع مرة أخرى بعد عطلة نهاية الأسبوع، وأنه لن يرجع عن القرار بفصلها إلا إذا حصلت على غالبية الأصوات من زملائها، بتنازلهم عن الألف يورو فى مقابل أن تحتفظ هى بعملها.

يصيب الزوجة اليأس ولكن زوجها يصر على استمرار المقاومة. عدد زملائها 16 رجلا وامرأة، فعليها إذن أن تفعل كل ما تستطيعه لإقناع تسعة من هؤلاء بتغيير موقفهم، وذلك بالذهاب إلى كل منهم فى منزله خلال العطلة، وتشرح لهم حالتها وحاجة أسرتها المستميتة إلى احتفاظها بالوظيفة. فتفعل الزوجة ذلك بمنتهى الصعوبة والمشقة، وبتدخل زوجها المستمر بحثها على الاستمرار، فيأخذها بسيارته إليهم، واحدا بعد الآخر، خلال يومى السبت والأحد تمهيدا لإعادة التصويت فى يوم الاثنين «ومن ثم اسم الفيلم: يومان وليلة واحدة».

يتبين خلال قيام الزوجة بهذه المهمة الصعبة أن السبب الذى دفع المدير إلى اتخاذ هذا الموقف القاسى أنه اكتشف خلال تغيب الزوجة عن العمل، خلال الأسابيع السابقة، أن زملاءها الستة عشر يستطيعون القيام بما كانت تقوم به من عمل، بإضافات ساعات قليلة لعملهم، يتلقون مقابلها مكافأة بسيطة، ومن ثم فمن مصلحة الشركة الاستغناء عنها، مما يسمح للشركة بمواجهة منافسة من شركة صينية تبيع نفس السلعة بثمن أقل.

المسألة كلها إذن مسألة توفير للنفقات فيما يتعلق بالشركة، والحصول على ألف يورو إضافية فيما يتعلق بكل من زملائها فى الشركة.

أحداث الفيلم لا تتكون إلا من مقابلة بعد أخرى بين الزوجة وبين زميل بعد آخر من زملائها الستة عشر، أو أحيانا محاولة فاشلة لمقابلة بعضهم إذ يرفض بعضهم مقابلتها عندما يعرفون ما تريد أن تطلبه منهم. ولكن أثناء هذه المقابلات تكتشف أشياء مذهلة. كل من هؤلاء الزملاء الستة عشر فى حالة يرثى لها. الجميع يبدو البؤس على وجوههم ومن حديثهم، ليس لحرمانهم من بعض ضروريات الحياة المألوفة «من مأكل وملبس ومسكن»، ولكن بسبب شعور بالعجز عن تلبية طلب أو آخر من المطالب التى أصبح المجتمع من حولهم يعتبرها من الضروريات، كدفع مصاريف دروس مسائية للبنت، أو دفع اشتراك الولد فى ناد رياضى، أو توسيع شرفة المنزل الخلفية.. الخ. كل منهم يواجه بإلحاح شديد ضرورة تلبية هذه المطالب، من جانبه هو نفسه ومن جانب أولاده أو من زوجته الواقفة خلفه فى قلق شديد من أن يستجيب لطلب زميلته، ويتنازل عن الألف يورو. تتبين أيضا أن كلا من هؤلاء الزملاء غير راض عن نفسه، ويريد أن يستخدم هذا المبلغ الموعود لاسترداد بعض ما فقده من احترامه لنفسه.

نلاحظ أيضا من ملابسات القصة، أن كلا منهم له عمل إضافى يحاول به أن يزيد دخله، كالاشتغال فى ورشة لإصلاح السيارات، أو تدريب بعض الأولاد على لعبة كرة القدم.. الخ. ولكن ليس هناك من وسيلة لتحقيق هذه المطالب الملحة غير الحصول على المكافأة الموعودة، التى تتوقف على فصل هذه الزميلة من وظيفتها.

تفاجأ المرأة ببعض المفاجآت السارة. فقد رقّت قلوب الكثيرين منهم لطلبها، فوعدها عدد لا بأس به منهم بأنهم سيعيدون التفكير فى الأمر، بل ووعدها اثنان أو ثلاثة بأنهم سيصوتون لصالحها.

الناس إذن طيبون فى قرارة أنفسهم، ولكن قسوة هذه الحياة الحديثة هى التى أدخلت القسوة فى قلوبهم. لم تعد قسوة الحياة تأتى من الحرمان من المأكل الضرورى، والملبس أو المسكن الملائمين، لهم ولأسرتهم، كما كان عليه الحال منذ مائة وخمسين عاما عندما شرح كارل ماركس ظاهرة الاستغلال، ولا هى تأتى من ميكانيكية الحياة ورتابتها، ومعاملة العامل كآلة من آلات المصنع، كما صوّر شارل شابلن الأمر منذ ثمانين عاما فى فيلمه المشهور «العصور الحديثة»، بل أصبحت القسوة تتمثل فى إيجاد حاجات ومطالب جديدة يلهث المرء من أجل إشباعها، وأصبحت تلبيتها، رغم أنها ليست ضرورية كالغذاء والملبس، شرطا من شروط الحصول على احترام الناس، واحترام المرء لنفسه.

•••

لا تهم كثيرا النتيجة التى انتهى إليها الاقتراع الجديد، بعد انتهاء عطلة نهاية الأسبوع، لقد حصلت المرأة على نصف الأصوات، وخسرت نصفها، مما يعنى فشلها فى الاحتفاظ بوظيفتها، إذ إن هذا كان يتطلب الحصول على صوت إضافى. بدأت المرأة فى جمع أشيائها استعدادا للرحيل عن الشركة إلى الأبد، ولكن المدير استدعاها وقال لها إن من الممكن أن يسمح لها بالاحتفاظ بالوظيفة إذ يمكنه أن يعالج الأمر بأن يمتنع عن تجديد عقد مؤقت لأحد زملائها. ولكن هذا الزميل، الأسود البشرة، كان قد أبدى عطفا شديدا على قضيتها وأعطاها صوته بلا تردد. رفضت المرأة العرض على أساس أنها غير مستعدة لخيانة شخص وقف إلى جانبها فى محنتها. وخرجت مرفوعة الرأس، وتشعر من تعبير وجهها أنها استردت ثقتها بنفسها، بل وربما خرجت أيضا من حالة الاكتئاب، إذ إن اتخاذها هذا القرار الجيد، بحرية واستقلال، قد أعاد إليها احترامها لنفسها. وينتهى الفيلم بمكالمة سعيدة ومليئة بالحب بينها وبين زوجها.

جلال أمين كاتب ومفكر مصري كبير ، وأستاذ مادة الاقتصاد في الجامعة الأمريكية ، من أشهر مؤلفاته : شخصيات لها تاريخ - ماذا حدث للمصريين؟ - عصر التشهير بالعرب والمسلمين - عولمة القهر : الولايات المتحدة والعرب والمسلمون قبل وبعد أحداث سبتمبر.
التعليقات