مسيرة الانتقام - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 9:11 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مسيرة الانتقام

نشر فى : السبت 23 مايو 2015 - 8:25 ص | آخر تحديث : السبت 23 مايو 2015 - 8:25 ص

نزعات الانتقام لا تخلو منها قصصُ الحب والغرام، والحوادث التى تنتقم فيها امرأة لنفسها مِن خيانة رجلٍ لا تُعَدُّ ولا تُحصى، أذكرُ حادثة فريدة استأجرت فيها سيدةُ عددا مِن الأشخاص ليعتدوا على زوجةِ صديقها بعد رفضه الزواج منها، وأذكر وقائع متشابهة وكثيرة عَمَدَ فيها أزواجٌ إلى قتل زوجاتهم وعشاقهن ثأرا لكبرياء مكسور، ومنهم مَن دفعه الغضب إلى قتل أبناءه كذلك متصورا إنه يُمعِن فى الانتقام. يتعامل المجتمعُ مع الأشخاصِ الذين يثأرون لكرامتهم فى هذا الإطار بدرجةٍ مِن درجات التقبّل والاستيعاب، وهو لا يُبدى انزعاجا منهم إلا فيما ندر، حين يبلغ الانتقام مداه ويصبح مِن البشاعة بمكان.

•••

تختلف أشكالُ الانتقام كما تتعدّد الأسبابُ؛ وغالبا ما ينتقم المقهور بما تطوله يداه وبما يُمليه عليه خيالُه فى لحظة المواجهة. ربما كان انتقامُ الشاب مُنتظر الزيدى مِن الرئيس الأمريكى بوش، بخلعِ حذاءه وإلقاءه فى وجه الرئيس خلال المؤتمر الصحفيّ الذى انعقد منذ سنوات ببغداد، أطرف ما صادفت مِن أشكال الانتقام، كان انتقاما معنويّا بليغا لما صنعته الولايات المتحدة بالعراق، انتشى له كثيرون حينها، ولا يزال يحتفظ بمساحة خاصة فى الذاكرة.

يكون الأمرُ مفهوما، حين يسعى الأفرادُ إلى الانتقامِ حال شعورهم بظلمٍ شديد، وعجزٍ عن تحقيقِ العدالةِ عبر سلوك السبلِ القانونية المعتادة، أما أن يسعى نظامٌ حاكمٌ يملك بطبيعة الحالِ أدواتِ تحقيقِ العدالة، والمُحاسبة، والمُعاقبة، إلى أخذ الثأر أو الانتقام، فأمر يستدعى المراجعة. عشية مَقتل عددٍ مِن القُضاه كان القرارُ بالثأر والانتقام، وصبيحة اليوم التالى دكّت الطائرات مَنازلا، وفى اليوم الثالث نشرت الصحف عن ثأرِ القواتِ مِن اغتيال القُضاة، بالقضاءِ على سبعةِ أشخاصٍ وُصِفوا بالتكفيريين، مع ذلك لم تؤكد الصُحُف إن هؤلاء الأشخاصَ هم المسئولون عن الواقعة، أو المخططون لها، ولم تُشِر حتى إلى أسماءِهم.

•••

كثيرا ما طالعتنا الصحفُ بعناوين مِن قبيل «قوات الجيش أو (الشرطة) تثأر لشهدائها»، والصياغة والمفردات المُنتقاه هنا تبوح بالكثير؛ بأن الرغبة فى حِفظِ ماءِ الوجه واستمالة الجماهير، لهى أكبر مِن الحرصِ على إنفاذِ القانون أو ضمانِ المُحاسبة العادلة، ففى الأعراف السائدة لا يتم الثأر مِن الشخص الذى ارتكب الجريمة حصرا، بل قد يُؤخذ مِمَن هو برىء منها. تبوح كذلك بأن هدفَ هذه القوات ربما كان تنفيذَ عملياتِ قتلٍ مُتعمّدة، لا تحتملُ إلقاءَ القبضِ على مُتهمين أو مُشتبه فيهم بل تسعى إلى تنفيذ حُكمٍ صَدَرَ، أى إنها ترفع شعار «الموت قبل المحاكمة»، و«الثأر فوق العدل».

لا تُقرّ القوانين عادة الثأر وإلا ما كان على الدولة أن تحاربها جنوبا وفى بعضِ المرات شمالا، ولا كان لزاما أن تنعقدَ جلساتُ الصُلح، ولا أن يحملَ رجالٌ أكفانَهم حقنا للدماء وطمعا فى كسْرِ تلك الحلقة المغلقة، وإذا تنازل المواطنون عن حقّ الثأر لصالح تطبيق القانون عبر أجهزة الدولة، فمن المنطقى ألا يُباح لها بدورها أن تثأر أو تنتقم، كلاهما فعلٌ يُشفى غليلا ولا يُحقّقُ استقرارا؛ يوحى مفهوم «الثأر» بأن ثمة أفعالاً تتم خارج إطار القانون، ويوحى مفهوم «الانتقام» بأن ردّة الفعل تجاوزت فى شدتها وعنفها الفعل ذاته، ندرك أنّ المُنتقِمَ بطبعه أهوجٌ وفى أحيان كثيرة مُفتقِرٌ إلى الإدراك السليم.

•••

ربما جرى العرف على أن ينتقمَ المُنتصرُ مِن الآخرين، وقلّ أن يعفو ويتسامح. نذكر ما عرفنا عن عمليات القتل شبه العشوائية التى جرت بعد قيام الثورة الفرنسية، حيث راحَ الثائرون ينتقمون لسنوات ذلّ طوال مِن أولئك السادة المُنَعَّمين المُترفين، ونذكر أيضا مَشاهد قتلٍ ارتبطت بثورات حديثة، منها إطلاق النيران على الرئيس الليبيّ السابق بعد إلقاء القبض عليه، وكان مقتله على هذا النحو أبلغ انتقام مِن قهرٍ تواصَلَ لعقود. لا يتوقف الأمر عند مشاهدِ الانتقامِ الجسدى العنيف، فثمة انتقامٌ ناعمٌ، هادئ إن جازَ القولُ، وربما كان إيقافُ برنامج مذيعة شابة معروفة فى الأيام القليلة الماضية شكلا مِن أشكال الانتقام السياسيّ لمواقفٍ مُعارِضة اتخذتها تجاه النظام. كذلك ربما كانت إحالةُ مأمورِ أحد السجون فى الوقت ذاته إلى التحقيق، بسبب سماحه لشابٍ سجين بأداء الامتحانات دون إذنٍ مُسبق، بمثابة عقابٍ على عرقلته لمنظومة الانتقام المتكاملة ومسيرتها؛ حيث يجرى الانتقام مِن الطُلاب المحبوسين بحرمانهم مِن حقوقِ التريّض والقراءة والكتابة، ويتم الانتقام مِن المُنتمين إلى جماعاتٍ بعينها بحرمانِهم مِن العلاجِ والرعايةِ الصحيةِ حتى الوفاة فى السجون، والأخير أمرٌ بات يتكرّر مع متهمين لا انتماءات سياسية لهم، فشهوة الانتقامِ لا تقفُ عند حدٍ، وسُرعان ما تصبح قاعدة لا استثناء.

حين تتداول الصحفُ خبرا عن تعنّت مارسته الجهات التى تحقّق مع رئيسٍ سابقٍ لنادى القضاه، بما جعله عاجزا عن إثبات براءته من الاتهامات الموجهة إليه، وبما أفضى به إلى إعلان مذهل هو التهديد بالاحتراق احتجاجا، يكون الانتقام قد بلغ ذروة جديدة، فالعدالة كما درجنا، وكما قرأنا ودرسنا لا تعرفُ نزعة الانتقام.

•••

ينتقمُ النظامُ المنتصرُ مِمَن تجرأوا عليه بصورة مِن الصور، بغضّ النظرِ عن أهوائهم ومعتقداتِهم، والانتقام مَبعَثه غضبٌ مما جرى منذ سنوات مضت، ورغبة فى القضاء على أى محاولة قد تجرى غدا. ينتقم لكنه ينسى إن الدائرةَ مُغلقة، وإنّ الحبلَ المشدود يرتدُ بعنفٍ فى وجه صاحبِه.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات