القط - كمال رمزي - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 4:23 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

القط

نشر فى : الثلاثاء 27 يناير 2015 - 8:05 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 27 يناير 2015 - 8:05 ص

فى أحد مشاهد البداية، تتابع الكاميرا، بدأب وإصرار، مسيرة عمرو واكد، داخل زقاق ملتوٍ، متجاور الأبواب، بعضها مفتوح، بداخلها أثاث فقير، ومعظمها مغلق، مكتوب عليه، بخط ردىء، أسماء سكانها. الزقاق مسقوف، معتم، لا تتبين معالمه بسهولة، أقرب للمتاهة، خانق، مقبض. يستمر المشهد من دون قطعات ووصلات. هو لقطة واحدة، تعد من أطول لقطات الأفلام المصرية، إن لم يكن أطولها.. يحققه المخرج، إبراهيم البطوط، بمهارة عالية، يعبر به، بتكثيف، عن روح العمل الذى يدور فى العالم السفلى، الليلى، الوحشى، لمدينة القاهرة.

المشهد الطويل ينتهى بـ«القط» ــ عمرو واكد، داخل حجرته الضيقة، القاتمة، يجهز قنبلة موقوتة.. على العكس عن «المشهد ــ اللقطة» المذكورة، تتوالى سريعا، لقطات لثلاثة من أطفال الشوارع، يتحلقون حول بقعة نيران صغيرة، لا تبدد الظلام، أشعلوها طلبا للتدفئة.. عربة تقترب منهم، ينزل منها عدة شباب، يخطفون الأطفال. بنت وولدان.. باختزال، نصل إلى الموقف المروع لمشرط جراح يقع على أرض قذرة، بينما يواصل الجراح التقاط كلية من جسد أحد الأطفال، يضعها فى علبة ثلج.. ندرك أنها عصابة منحطة لتوريد الأعضاء لمن يريدها.

شيئا فشيئا تنكشف العلاقات: «القط»، المجرم أصلا، يناصب العصابة العداء، ذلك أن ابنته اختفت فى ظروف غامضة، وربما يخشى أن يكون مصيرها مثل مصير المغدورين.. «القط» مع مجموعة من شذاذ الآفاق، يطارد أحد أفراد العصابة، فى قلب شوارع العاصمة، وبلا تردد، يوجه له طعنة ترديه نازفا للدم، ميتا.

الفيلم، لا يندرج فى قائمة أفلام الجريمة، أو المطاردة، أو حرب العصابات، لكن ينتمى إلى مخرجه، كاتب السيناريو، إبراهيم البطوط، الذى يحاول، مغامرا، بجرأة، أن يحلق عاليا، وبعيدا، ليرى، ما وراء الواقع، طارحا الكثير من الأسئلة، تعبر عن نحو ما، عن حيرة فكرية، سواء على مستوى التاريخ، أو الديانات، أو سلوك البشر، أو معنى دورة الحياة، على الصعيد الفردى، وبالتالى، جاء «القط» محملا بقضايا فلسفية، غير مطروقة على شاشة السينما المصرية، مبهما إلى حد ما، يتيح للمتلقى الجاد، عدة قراءات متباينة.

فاروق الفيشاوى، يبدأ وينتهى به الفيلم، لا يمكن أن نلخصه فى جملة، فهو أقرب للروح، يهيمن على مسار الأمور، قوى معنويا، عابر للزمن، يطالعنا فى المشهد الافتتاحى هابطا من مكان مرتفع، نازلا على سلالم مقبرة «أوزوريس»، يتأمل النقوش الجدارية، يلفت نظرنا رسم يشبه الطائرة، ولاحقا، مع تراتيل صلاة تتوالى أثناء زياراته لمعابد يهودية، ثم كنائس قبطية، ثم مساجد إسلامية، الصور خلابة، روحانية، ذات طابع تسجيلى، شاعرى، لا علاقة لها بخشونة الحاضر، والواقع، ينظر لها فاروق الفيشاوى نظرة لا تتأتى إلا من ممثل راسخ، تحمل فى طياتها شيئا من الاعجاب، وتبتعد عن الخشوع، وتقترب من الحيادية.. الفيشاوى هنا، قوة مطلقة، لا اسم له، حازم، يتسم بثقة مطلقة فى الذات، لا يهتز له جفن حتى حين يتمرد عليه القط ويهدده، جادا، بالقتل. الفيشاوى، فى الفيلم، يحتمل أكثر من تفسير.

فى اللقاء الأول بين «القط» والفيشاوى، يبدو الأخير كعارف ببواطن الأمور، وكمحرك الأحداث، ينبه «القط»، مبتسما، إلى ضرورة، وجدوى التخلص من «فتحى»، الموغل فى الشر، رئيس عصابة بيع الأعضاء البشرية.. بجملة أخرى: القضاء على الشر بالشر المضاعف.

«فتحى» ــ بأداء موفق من صلاح الحنفى ــ فاسد تماما، يلخص موبيقات المدينة، يعيش حياة صاخبة، نشهد جانبا منها، ينغمس فى ملذات شاذة، يحيط نفسه ببطانة من منحرفين، يندلع الصراع بينه والقط، ساخنا، داميا، إلى أن يلقى مصرعه فى ميتة أليمة.

فى الفيلم العديد من الخيوط المبتسرة، تلمع ثم تختفى، خاصة فيما يتعلق بعلاقة القط مع زوجته التى يطلقها لسبب غير معروف، وعلاقته بوالده المريض، الذى تبتر ساقه، ويغدو على الابن دفن الساق فى مشهد يذكرنا بمسرحيات «العبث» أو «اللامعقول»، خاصة حين يدور النقاش حول مدى وجوب قراءة الفاتحة على الساق أثناء دفنها.. وربما يصل المتابع إلى القول أن سيناريو «القط» كان يحتاج لإعادة كتابة. لكن، مع إبراهيم البطوط، المتمكن إخراجيا، صاحب الرؤية الصادقة، المفتقدة لليقين، تطرح أسئلة بلا إجابات، على المتابع أن يبحث عنها، وقد لا يؤمن بصيحة الفيشاوى، فى النهاية، حين يقول للقط، المبتعد بقارب على صفحة الماء «انت عملت الصح»، كأنه يؤكد أن العنف لن ينكسر إلا بعنف مضاد، موحيا أن دائرة العنف لن تتوقف، وأن «الفيشاوى» نفسه، ليس إلا أحد أباطرة الشر.. «القط»، فى النهاية، ليس للمتعة فقط، بل للتفكير والتأمل.

كمال رمزي كاتب صحفي
التعليقات