منازل شهداء ومصابي «28 يناير».. جدران تحمل ذكريات مشوار لم يكتمل - بوابة الشروق
الثلاثاء 23 أبريل 2024 1:35 م القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

منازل شهداء ومصابي «28 يناير».. جدران تحمل ذكريات مشوار لم يكتمل

منازل شهداء ومصابي «28 يناير».. جدران تحمل ذكريات مشوار لم يكتمل - تصوير: احمد الساعاتي
منازل شهداء ومصابي «28 يناير».. جدران تحمل ذكريات مشوار لم يكتمل - تصوير: احمد الساعاتي
هالة قنديل
نشر في: الأربعاء 28 يناير 2015 - 5:45 م | آخر تحديث: الأربعاء 28 يناير 2015 - 6:11 م

لم تتوصل لقاتل نجلها الأكبر ولكن آثار جريمته طُبعت على جسده الضعيف.. ظل يصارع الكسور التي أصابت أجزاءه داخل غرفة العناية المركزة بقصر العيني الفرنساوي، حتى الموت، بعدما دهسته عجلات "السيارة الدبلوماسية" بشارع قصر العيني مساء "جمعة الغضب" 28 يناير 2011.

والدة محمود خالد، الذي لم ينل خلال حياته القصيرة (23 عامًا) سوى بعض الحظ من اسمه الذي خُلد ضمن قائمة "ورد الجناين"، لأربع سنوات ظلت تشعر بنفس الألم الذي راودها لحظة مفارقة محمود للحياة على سريره الذي حمله لخمسة أشهر، عانى خلالها ضمورًا بالعضلات وتشوهات بأنحاء جسده بالكامل بعدما دهسته السيارة البيضاء التي ظلت لغزًا لم يكشف مُرتكبه حتى يومنا هذا.

 

آفة النسيان تنمو مع مرور السنوات، فالذكرى الأولى لثورة يناير ليست كالرابعة، ونبرة التشدق بحقوق الشهداء وأرواحهم التي ذهبت هباء من أجل عيش وحرية وكرامة إنسانية لم ينالوها، تخفت مع مضي الوقت لكن تظل النار المتقدة بقلب وعقل السيدة رحمة الخمسينية التي لم تصبها "الآفة"، ورفضت بشكل قاطع أن ترتدي الأسود على ابنها لتكرر بإصرار جملة واحدة: "أنه حي يرزق".

صباح الذكرى الرابعة لجمعة الغضب، كانت استكمال لشلال حزن داهمها قبل ثلاثة أيام مع حلول 25 يناير، تذكرت صلاة الجمعة التي أداها محمود ظهر هذا اليوم، ثم خرج متوجها لميدان التحرير، مخالفا تعليماتها حين شددت عليه بعدم الخروج للتظاهروعناده الشديد الذي جعله يطمئنها ظاهريًا ليتوجه بعد ذلك في مسيرات الغضب ضد نظام مبارك وكهنوته.

بحسرة ارتسمت على قسمات وجهها، دون تطرقٍ ليأس بأن دم ابنها "ذهب هدر" فهي تثق أن حقه محفوظًا في السماء، فبعد سنوات على ثورة كانت روح وليدها جزء من الوقود الذي أشعلها، لم تحصل إلا على درع تكريم حمل اسمه ومعاش شهيد قدر بألف جنيه شهريًا لا تكفي لسداد إيجار شقتها البالغ 1200 جنيه، حصلت عليهم بعد رحلة استمرت ثلاثة أشهر من تقديم المستندات والأوراق للمجلس القومي لرعاية أسر الشهداء ومصابي الثورة.

حصلت الأم على وعود لم تتم بالسفر للحج أو العمرة، وتعويضًا نالت أقل من نصفه بسبب نزاع والده المنفصل عنها على الأحقية في الحصول عليه، صرفته على تسديد ديون محمود الذي كان يستعد للزواج قبل أحداث يناير بثلاثة أشهر.

الاتصالات المنقطعة في هذا اليوم، حالت دون الوصول إليه، تقول السيدة رحمة الخمسينية التي جلست إلى جانب صورة محمود إنها شعرت بـ"نغزة في قلبها" بحلول المساء وفقدان الأمل في عودة خطوط الاتصالات، وتصاعد مشاهد الأدخنة المسيلة للدموع وأصوات الطلقات التي نقلتها شاشة الجزيرة في هذا الوقت.

أحست بأن ابنها أصابه مكروه، لتسير خلف قلبها بصحبة شقيق محمود الأصغر (إسلام) إلى مستشفى دار الهلال، فتشت بعينيها المتعبتين من البكاء وسط وجوه المصابين لتجده وقد تشوهت ملامح وجهه وانبعج وجحظت إحدى عينيه وتهدلت أطرافه الأربعة وكأنما عبرت عليها عجلات قطار، لتتعرف عليه من ملابسه.

"أم محمود" كما تحب أن يطلق عليها، قضت قرابة الخمسة أشهر نائمة إلى جانبه مفترشة بلاطات الغرفة، تعلمت أن تجدد الغيار على جراحه، وتطعمه وتقلبه بحرص تفاديا لقرح الفراش التي أنهكت جسده البالي.

"يوم ما نطق مات" تقولها متفادية دموعا ظهرت بعينيها عنوة متذكرة حين ناداها، وطلب منها أن تسامحه، ظنت للوهلة الأولى أنه عاد للكلام وسيخرج من العناية المركزة، فسارعن بالاتجاه إلى الأطباء تخبرهم ليأتي أحدهم ويخبرها بأن "البقاء لله" بعد إجراء الكشف عليه.

تلحفت بالبياض بصالة منزلها المتواضع بمنطقة غمرة، بعدما تركت شقتهم القديمة برمسيس حين لم تستطع تحملا لمكوث وسط جدرانها التي تذكرها بضحكات محمود التي لن تسمعها مرة أخرى.

جلست إلى جانب صورة له، تتصدر مدخل المنزل بجوار مصحف، ملابسه المعلقة بأحد أركان الغرفة، لا تزال تحمل كمًا من رائحته، وكل ما تبقى بضع صور وذكريات لابن أكبر يعول أمه وأخوته الثلاثة، إسلام وندى وشروق الصغيرة التي لم تع وفاته حين كان عمرها ثلاثة سنوات لكن تسربت دموعها رغمًا عنها وهم يستعرضون صور وفيديوهات له بغرفة العناية المركزة أثناء محاولة أمه إطعامه.

 

 

 

تقول بحرقة إنها وبعد أربع سنوات لم يتحقق أي مما نادى به المتظاهرون "لن اسمح بان يشارك أحد أبنائي مرة اخرى بأي تظاهرات.. لما راح مني ابني ما حدش عمل لي حاجة ومش هاضيع ولادي مني وهاقفل الباب لو جه يخرج مش هاكذب واقول عشان مصر"، تقولها ولا تتمنى سوى أن تعيش بكرامة إنسانية نادت بها ثورة خطفت منها ابنها.

مات الأصغر ويهددها الكبير بالهجرة

"كلامهم سكينة في قلبي" هكذا وصفت شعورها.. إعلاميون وسياسيون يصفون ثورة يناير بالنكسة، والثوار بالعملاء والمأجورين، لن تجد طريقة ترد بها على هؤلاء فهي ستينية بسيطة مصابة بداء السكر، فقدت أصغر أبنائها في خضم تلك "المؤامرة" وتعيش في طابق أول ببيت قديم بمنطقة قلعة الكبش بالسيدة زينب.

جلست والدة الشهيد إسلام علي، تأتي ابنتها بصورة الابن الذي فقد حياته في أحداث جمعة الغضب، تقبلها وتضعها جانبًا لتحكي تفاصيل سقوطه خلال المسيرة الاحتجاجية بالسيدة زينب والتي تعرضت لوابل من الطلقات حينما مرت أمام قسم شرطة السيدة زينب.

سقط (إسلام) برصاصة تلقاها خلف أذنه وتلقفه شقيقه الأكبر (محمد)، الذي يكبره بثلاث سنوات فقط، لينطقه الشهادتين ويودعه المستشفى.

(محمد – 25 عامًا) يعيش اليوم أزمة نفسية متكررة، جعلته يرفض الظهور والحديث لكن شقيقتهم الكبرى (دينا) كانت أكثر ثباتًا، وشرحت أن صورة سقوط ووفاة إسلام لم تفارق ذاكرة محمد الذي انكسر ويصمم على الهجرة وترك البلد بعدما شارك في أحداث الثورة.

تبكي الأم قائلة: "فقدت ابن والآخر يريد تركي وحدي ويذهب لبلد لا أعلمه حين يأس من حال البلد والحصول على فرصة عمل".

"لا عيش ولا حرية ولا كرامة" تقول والدة إسلام إن أهداف الثورة لم تتحقق حتى اليوم، وهتافات صغيرها بالعدالة والكرامة ذهب صداها في سماء القاهرة حتى سقط وظل بغيبوبة على فراش المرض حتى لفظ أنفاسه بعد 3 أيام فقط".

 

لم تتوقع هذه الأسرة أن يكون جزاء تقديمها أحد أفرادها لروحه أن يتهم بالعمالة في نهاية الأمر.. "نكسة يناير" تعبير راج مؤخرًا ومثل عنوانًا لأحد الروايات الصادرة بمعرض الكتاب العام الماضي.

اتهامات و"افتراءات" تراها دينا شقيقته تجاوز في حق أخيها الذي درس الحقوق بالفرقة الثانية وكان يمارس رياضة كرة القدم لتزين غرفته الكؤوس وتي شيرت الفريق.. تقول:"النكسة هي اللي قعدت في قلوب الأمهات".

صبيحة جمعة الغضب وقف إسلام أمام باب غرفته يصف لوالدته كم أن اليوم هو أسعد أيام حياته وأن صوره ستملأ الصحف "ظننت أنه يتحدث عن بطولات كرة القدم ورغبته في أن يصبح لاعب شهير" لكنها لم تع أن الموت سيختطفه ليبقى لها الحسرة ووجع القلب.

في غرفة (إسلام) وبعد أربعة سنوات، قالت الأم إن الاهتمام بقضايا الشهداء يتضاءل وما يبقى هو كلمة أم الشهيد التي تفخر بها، وتثق في عدالة السماء التي ستعيد حق ابنها، بمرارة وصفت شعورها: "مصر لم ترد لي أي جميل.. الرد كان بالبراءة للضباط وسب القذف للشهيد"، واعتبرت شعورها كالموت حين حصل مبارك والعادلي على البراءة من قضايا قتل المتظاهرين.

بعد 4 سنوات لا تتمنى شيئا سوى أن يجمعها الله بصغيرها وألا يفطر قلبها على الابن الأكبر بهجرة، تقول إنها تعرف قتلة ابنها بالاسم ولو شاءت لأخذت حقه بيديها ولكنها تنتظر عدالة الله.

خلع نظامين وأصيب بعجز كلي

إصابته بعجز كلي جعلته قعيد الفراش لأربع سنوات لم تمنعه من أن يجزم على أنه لو عاد الزمن للوراء لنزل وشارك في ثورة يناير حتى لو خسر حياته، يتهم مبارك بأنه السبب في قعدته وعجزه.

(محمد سعد – 38 عامًا- أب لخمسة أبناء أكبرهم بالمدرسة الثانوية)، يجلس اليوم على سريره متلحفا بمفرش يقيه برد الشتاء، في ذكرى رابعة لجمعة لم تكن كمثيلاتها في حياته، فأثناء سيره في تظاهرة من ميدان (الكيت كات) بالجيزة إلى ميدان التحرير بالقاهرة، رافعًا لافتة لم يكتب عليها سوى "مصر فوق الجميع" لم يعي المشهد إلا وقوات الأمن تغور على المسيرة بالعصيان وشعر بأحد الجنود وهو ينهال على رأسه وظهره بعصى حديدي بعدما طرحه أرضًا موجها له كافة أنواع السباب.

 

تحضر زوجته 8 مسامير حديدية سميكة تثير الرعب لو دار بالخيال أنها استخرجت من جسد إنسان، تروي بابتسامة تثير الدهشة أنها تتولى كافة أمور البيت بعد إصابة (سعد) بشلل في القدمين بعدما نقل للمستشفى ليخبره الأطباء بإصابته بشرخ العمود الفقري ويصمم بعدها على النزول ويمكث بالميدان رغم إصابته حتى موقعة الجمل وتنحي مبارك لتأتي أحداث مجلس الوزراء بضربة أخرى بعصاية حديدية أيضًا لكن من جنود الجيش.

إنهار عمله كتاجر للملابس يملك محلا صغيرًا بمنطقة أحمد حلمي بالقاهرة ليبدأ رحلة الحصول على معاش مصابي الثورة رحلته للحصول على المعاش بدأت في 2012 حينما كان خالد بدوي متوليًا رئاسة المجلس القومي لحقوق الشهداء والمصابين، الذي عقد إجراءات الحصول على المعاش وفقًا لـ(سعد)، وطُلب منه كشف للطب الشرعي ورحلة استمرت أكثر من ثلاثة شهور.

عجزه لم يمنعه من المشاركة في 30 يونيو وكان يخرج على مقعده المتحرك رغم سكنه بالدور الخامس فاستعان بشقيق زوجته الذي كان يحمله هابطًا الدرج ليعبر الشارع الضيق بمنطقة الوراق مارًا على جيرانه وأقاربه لتوعيتهم بوجوب الثورة ضد نظام الإخوان.

يقول: "لم أيأس و لو ما عنديش أمل هموت وأنا قاعد كده"، جلسته وفقدانه أي قدرة على الحركة لم تمنعه من المشاركة في خلع نظام مرسي كما خلع مبارك، لتتحطم آماله على صخرة البراءات التي حصل عليها آل مبارك ووزير داخليته.

يضيف: "حسيت إني ميت لما شوفت أبناء مبارك علاء وجمال خارجين من الحبس حسيت في نظراتهم أنهم بيغيظونا وبيقولولنا أنتم مين!"

زوجته الآن هي راعي البيت تخرج للعمل في محل صغير استأجرته أسفل منزلهم اضطرت لإغلاقه مؤخرًا بعدما عجزت عن جلب بضاعة بسبب ضيق ذات اليد، تقول: "يكتئب وتسوء حالته لو رأى من يصفون يناير بالمؤامرة". يرفض أي مساعدة مادية ويردد: "نفسي الناس تقولي شكرًا بدل الاتهامات بالتخوين".

تسأله لو عاد بك الزمن ستشارك مرة أخرى وتفقد حركتك، يجيب بكل ثقة نعم، تتحول لزوجته التي تتردد في البداية وتنظر لرقدته على السرير وتقول لا لن أسمح له أن يخرج من الباب ويشارك، يرمقها بنظرة تفهمها ويقول لها: "يناير.. 25 يناير .. هاتمنعيني!"، تتراجع سريعا عن موقفها وتقول إنها لن تمنعه وتتبعها بجملة: "لازم نعدلها يا استاذة لو مش عشاننا يبقا عشان ولادنا".



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك