محاضرة عبدالله السناوى فى جامعة بكين.. الدور المصرى فى إقليم مشتعل بالنار

آخر تحديث: الخميس 7 ديسمبر 2017 - 10:28 ص بتوقيت القاهرة

«الصينيون يريدون أن يطلوا على ما يحدث فى الشرق الأوسط، وأن يستمعوا عن قرب ويناقشوا بعمق رؤية الآخرين لهم».. هذا ما رصده عبدالله السناوى، واستجاب له، ملبيا دعوة جامعة بكين «العريقة بتاريخها، الحديثة بمناهجها»، حيث حل ضيفا، ليلقى محاضرة عن «الصراع الإقليمى فى الشرق الأوسط».

وتناول السناوى فى محاضرته ــ بشكل مستفيض ــ شرح أهمية الدور المصرى فى إقليم وصفه بأنه «مشتعل بالنار»، وشرح عواقب غياب مصر عن خوض المعارك المصيرية للعالم العربى، وموضحا مواطن قوتها الكامنة «التى تعد أغلى ما تملك»، وتطرق السناوى خلال المحاضرة إلى «الدول الخمس» التى تتصارع إقليميا فى المنطقة، وأفاض كذلك فى شرح الموقف من الحرب اليمنية.. فإلى نص المحاضرة..

السلام عليكم

هكذا لقيتمونى بالتحية حيث ذهبت فى كلية اللغات الأجنبية بجامعتكم العريقة ــ كما اعتاد أساتذة وطلاب الثقافة العربية.

وهكذا أرد التحية بمثلها أيتها السيدات والسادة ــ كما تقاليد الجانب الآخر من الشرق ومصر فى قلبه: وعليكم السلام.
كما تعلمون مصر أكبر دولة عربية ودورها ــ بحقائق الجغرافيا وإرث التاريخ ــ يستحيل حذفه من موازين القوة وحسابات المستقبل فى العالم العربى، التى تمثل نحو ثلث سكانه.

لكل دور استحقاقاته وتكاليفه وأثمانه، فلا أدوار مجانية فى التاريخ.

وقد تراجع الدور المصرى على مؤشرات التأثير فى العقود الأربعة الأخيرة بعد خروجه من الصراع العربى الإسرائيلى باتفاقية سلام منفرد عام (1979)، لكنه لم يبارح المخيلة العامة باعتقاد جازم أن مصر قلب العالم العربى ومفتاح الموقف فيه.
دائما هناك سؤال يطرح نفسه فى الملمات والكوارث التى تعترض العالم العربى: أين مصر؟.. أو متى تعود إلى منصة القيادة؟

فى خمسينيات القرن الماضى فى أثناء حوار مع رئيس الوزراء الهندى «جواهر لال نهرو» وصف الرئيس «جمال عبدالناصر» مصر بأنها «دولة نامية».

قاطعه «نهرو»: «كيف تقول ذلك يا سيادة الرئيس فمصر دولة كبرى لها حضورها فى إقليمها وعالمها وكلمتها مسموعة ومؤثرة؟».

رد «عبدالناصر» على الفور: «مصر دولة كبرى بعالمها العربى».

إذا لم تكن فى قلب قضايا العالم العربى يتقوض دورها.

بذات القدر فإن العالم العربى يخسر معاركه المصيرية إذا لم تكن مصر حاضرة فى تفاعلاته.

بلا مصر تتفاقم الأزمات إلى حدود الكوابيس، التى لم تكن تخطر على بال، مثل شلالات الدم والتخريب وسيناريوهات التفكيك الماثلة.

بغض النظر عن مستويات التجريف التى لحقت بالدور المصرى فإنه لا يمكن تجاهل مخزون قوته الكامنة، ولم يكن ممكنا لأى دولة عربية أخرى على مدى عقود أن تملأ الفراغ الذى خلفه.

لعلكم تابعتم ــ من هنا فى الشرق الأقصى ــ أسرار وتفاصيل أزمة احتجاز رئيس الوزراء اللبنانى «سعد الحريرى» فى العاصمة السعودية الرياض بعد إجباره على إعلان استقالة.

كادت تلك الأزمة أن تدفع ذلك البلد العربى الصغير والمؤثر فى الوقت نفسه إلى سيناريوهات التأزيم والفوضى والاحترابات المذهبية.

كان الموقف المصرى لافتا ومؤثرا فى إجهاض مثل هذه السيناريوهات الخطرة بتصريح واحد يرفض دفع لبنان إلى الفوضى والعدوان عليه.

أحيانا لا نعرف قدر البلد الذى ننتسب إليه.

بتعبير «نابليون بونابرت» فإن «مصر أهم بلد فى العالم» من يسيطر عليها يمسك بالمقادير الاستراتيجية فى العالم القديم.
العبارة البونابرتية ذاتها استخدمها اللورد «كرومر» بصدر مذكراته عن تجربته فى حكم مصر مندوبا عن السلطات البريطانية بعد احتلالها عام (1982).

الإمبراطوريتان المتصارعتان ــ فرنسا وبريطانيا ــ كان لهما ذات النظرة إلى الموقع الفريد الذى تمثله مصر، حيث تطل على البحرين الأبيض والأحمر وتتصل عندها القارات القديمة إفريقيا وآسيا وأوروبا.

لا أدرى هل كان ذلك الموقع الفريد، الذى يصفه عالم الجغرافيا المصرى الدكتور «جمال حمدان» بعبقرية المكان، نعمة أم نقمة؟!

أتاح لمصر أن تنتج أول حضارة فى التاريخ الإنسانى على ضفاف النيل وأن تلعب أهم الأدوار فى محيطها بمحطات تاريخية عديدة، لكنه فى الوقت نفسه عرضها لغزوات واحتلالات بلا حصر.

الصين أيضا لها حضارة باهرة وتاريخها سلسلة متصلة من الغزوات والحروب حتى لا تنهض أبدا.

الإرث الحضارى قوة كامنة لكنه وحده لا يكفى للتحرك نحو المستقبل.

إذا لم تكن رؤية المستقبل واضحة فإنه بكاء على أطلال التاريخ.

بتراكم الخبرة أفسحت الصين لنفسها طرق المستقبل والتصحيح والتجديد بينما أهدرنا فى مصر كل تراكم ــ كأننا نعيد قراءة كتاب التاريخ مع كل حاكم جديد.

أحد المشاريع الصينية الكبرى للمستقبل، التى يتبناها الرئيس الحالى «شى جين بينج»، إحياء طريق الحرير، وهو نوع من التوجه لإعادة بناء جسور الاتصال التجارى والثقافى مع الجانب الآخر من الشرق حيث مصر فى صلبه.

فى سنوات ما قبل ثورة يوليو (1952) شهد التاريخ الثقافى المصرى مساجلة بين مدرستين.
الأولى: مدرسة الغرب وقد نظرت عبر البحر المتوسط إلى أوروبا ورأت مستقبلنا معها، وكان عميد الأدب العربى الدكتور «طه حسين» الرمز الأكبر لهذه المدرسة.

والثانية: مدرسة الشرق وقد اعتقدت أن ذلك المستقبل مرهون بالاتصال بين شعوبه وحضاراته القديمة ومن أبرز الأسماء التى تبنت هذه النظرة الدبلوماسى والصحفى الدكتور «محمود عزمى» أحد كبار المفكرين المصريين فى القرن العشرين، كما تبناها

فى وقت لاحق من ستينيات القرن الماضى مفكر آخر هو الدكتور «أنور عبدالملك» صاحب كتاب «ريح الشرق».
الأفكار الكبرى تبحث دائما عمن يجسدها فى ميادين التاريخ، وقد وجدت مدرسة الشرق رجلها فى «جمال عبدالناصر» بدعوته إلى الوحدة العربية والتحرر الوطنى ووحدة المصير الإنسانى.

فى عام (1955) انتظر «شواين لاى» رئيس الوزراء الصينى التاريخى، الذى قدر لمدرسته فى بناء الدولة أن تأخذ بلدكم العريق إلى ما وصل إليه، الرئيس المصرى الشاب «عبدالناصر» فى مطار عاصمة بورما.

كان «شواين لاى» فى اجتماع مع رئيس الوزراء البورمى عندما علم أنه سوف يتوجه إلى المطار لاستقبال الرئيس المصرى الذى

كان قادما من العاصمة الهندية دلهى متوجها إلى باندونج حيث تأسست حركة عدم الانحياز.
قال «شواين لاى» لنظيره البورمى: «أنا قادم معك».

كان ذلك خروجا عن أى أعراف وتقاليد دبلوماسية غير أن قضيته فى طلب فك الحصار عن الصين الشعبية غلبت أى اعتبارات أخرى.

وقد كسب رهانه فقد اعترفت مصر بدولة الثورة التى قادها «ماو تسى تونج» وشجعت دول العالم الثالث للإقدام على الخطوة نفسها.

كان ذلك تحولا رئيسيا فى تاريخ الصين المعاصرة أفضى تاليا إلى كسب أحقيتها بدخول مجلس الأمن الدولى مطلع سبعينيات القرن الماضى قبل أن تأخذ طريقها للصعود الكبير بطفرات ترشحها لتصدر الاقتصادات العالمية.

فى ظروف جديدة وعوالم مختلفة تحتاج مصر والصين إلى مقاربات أخرى تحترم إرث التاريخ لكنها لا تتوقف عنده، تنمى التعاون الاقتصادى والتجارى لكنها لا تقتصر عليه.

هناك ما يجمع ويدعم فكرة المضى إلى آفاق بعيدة، أن تستثمر مصر فى شراكة استراتيجية مع الصين وأن تتفهم الصين حقائق الموقف المصرى فى أكثر أقاليم العالم اشتعالا بالنار.

أول ضرورات التفهم ــ قبل الشراكة ــ أن نعترف بالفجوة المعرفية الواسعة التى تفصلنا، حتى نكاد لا نعرف بعضنا الآخر بما هو كاف وضرورى لأى علاقات ذات طابع استراتيجى.

يقول انطباع شائع فى مصر إن الصينيين متشابهون تماما حتى لا نكاد نفرق بين وجه وآخر.
نفس الانطباع عن المصريين موجود هنا فى الصين.

لقد استمعت إلى طالب يدرس الدكتوراه فى كلية اللغات الأجنبية يتحدث عن صعوبة اللغة العربية ومدى الجهد الذى يبذله للإلمام بها.

سألته: أى لغة فى العالم تراها أسهل؟

أجاب ببساطة: الصينية.

إذا استمع مصرى إلى هذه الإجابة فسوف تدهشه فالصينية عنده أصعب لغة فى العالم.

البعض ــ هنا ــ قد لا يرى فى الشرق الأوسط سوى أسواق مفتوحة على المنافع التجارية.. وقد لا يرى فى مصر سوى بوابة تجارية للعالم العربى وإفريقيا.

إذا استعدنا دروس طريق الحرير فى الصين ومدرسة الشرق فى مصر فإننا نحتاج بعمق إلى تفهم ثقافة وشخصية الطرف الآخر وشواغله حتى تتأسس شراكة معرفة ومصالح فى الوقت نفسه.

بعض الشواغل المصرية تتعلق بتحديات الحاضر وصورة المستقبل فى بلد قام بثورتين للانتقال إلى دولة مدنية ديمقراطية حديثة غير أنهما اختطفتا، مرة من جماعة الإخوان المسلمين ومرة ثانية من سياسات الماضى.

لا يمكن أن يتأسس استقرار بلا ضمانات حقيقية توسع المشاركة السياسية وتضخ دماء جديدة فى حيوية المجتمع وفق قواعد دستورية تحترم.

هذه مسألة ضاغطة فى مصر، ملحة ومقلقة.

..........

على الرغم من الإنجازات الصينية الضخمة فى العقود الأربعة الأخيرة من جراء سياسة «اقتصاد السوق الاجتماعى» إلا أن السؤال السياسى لا يمكن تجنبه.

بتراكم المال والسلاح سوف يأتى وقت تتساءلون فيه عن طبيعة النظام السياسى وضرورات تجديده من داخله على الطريقة الصينية المتريثة، التى تمضى خطوة محسوبة بعد أخرى، حتى تكتسب الصين قدرتها على التحول إلى قوة عظمى بمعناها الشامل.

بأبعد تقدير فإن ذلك سوف يتم بالتدريج خلال العشرين سنة المقبلة.

...........

وبعض الشواغل المصرية تتعلق بالوجود نفسه، مثل أزمة سد النهضة الذى يهدد حصة مصر التاريخية من مياه النيل
وقدرتها على إنتاج الغذاء لمواطنيها، والحرب مع الإرهاب الذى يستهدف سلامتها واستقرارها وقدرتها على التقاط الأنفاس.

تكتسب تلك الأزمات الوجودية مستويات خطورة إضافية من أن الإقليم الذى ننتسب إليه تشتعل فيه النيران وينتظر استحقاقات ما بعد «داعش» فى توزيع القوة والنفوذ بين اللاعبين الدوليين والإقليميين المتداخلين فى صراعاته.
مصر، كأى دولة ذات إرث حضارى عريق، قوتها الكامنة أغلى ما تملك.. تتراجع وتهزم لكنها تنهض من تحت الرماد كما العنقاء فى الأسطورة القديمة.

لعلى أجازف بالقول إن لديها فرصة حقيقية أن تكون ضمن الرابحين الكبار عند لحظة توزيع القوة والنفوذ إذا ما صححت أوجه الخلل الرئيسية فى إدارتها للملفات الخارجية الحساسة ودعمت ــ بالمشاركة السياسية والتوافق الوطنى ــ عوامل التماسك الداخلى.

هناك الآن خمسة جياد إقليمية تتصارع على ما قد تحوزه من جوائز، أو تمنعه من مغارم: مصر وإيران وتركيا والسعودية وإسرائيل.

الأوضاع كلها سائلة بكتل النار وحركة السياسة، والمفاجآت غير مستبعدة.

بحسابات اللحظة تتصدر إيران السباق الإقليمى بأغلب الأزمات المحتدمة على حساب السعودية، اللاعب الإقليمى الآخر الذى يناهضها ويصعد المواجهة معها.

معضلة إيران كيف تحفظ ما حصدته حتى الآن.. ومعضلة السعودية كيف تتدارك الهزائم التى لحقتها بكل الأزمات المتداخلة فيها.

بحسابات اللحظة تحاول تركيا المأزومة فى أوضاعها الداخلية إعادة تكييف توازناتها الدولية والإقليمية بالانفتاح على روسيا وإيران حتى تنجو من أية احتمالات تقسيم محتملة على خرائطها إذا ما أنشئت دويلة كردية على حدودها السورية، كما تحاول أن تجد لنفسها موضع قدم عسكرى داخل سوريا حتى تضمن ما تطلبه من جوائز عند عقد الصفقات الدولية والإقليمية الكبرى.

وبحسابات اللحظة تنتظر إسرائيل الجوائز العربية المجانية رهانا على هرولة دول عديدة، أهمها السعودية، لفتح قنوات حوار علنية وسرية معها ضد العدو الإيرانى المشترك.

مجرى التطورات المتوقعة يومئ إلى تطبيع واسع مع الدولة العبرية استخباراتى وعسكرى واقتصادى دون أى انسحابات إسرائيلية من الأراضى الفلسطينية المحتلة وفق القرارات الدولية.

باليقين فإن تداعيات الهرولة والتنازلات المجانية تنذر بنيران جديدة فى الإقليم المنكوب.

أمام مصر طريقان لا ثالث لهما: إما أن تنجرف إلى الهرولة وتفقد ما تبقى من أدوار لأجال طويلة مقبلة، أو أن تمسك باللحظة التاريخية وتصعد إلى منصة القيادة وتعقيدات الإقليم تزكى مثل هذا الصعود.

بالتوصيف الكلاسيكى السياسة الخارجية لأى بلد انعكاس لأوضاعه الداخلية.

الأدق أن يقال إنها أصبحت جزء من العمل الوطنى الداخلى وليست مجرد انعكاسا له.

بعد 30 يونيو (2013) بدا أن استعادة الخارجية المصرية، ذات التقاليد العريقة، لحيويتها وقدرتها على المبادرة والحركة وفق رؤية واضحة مسألة تتوقف عليها قدرة الأوضاع الجديدة أن تثبت نفسها.

بقدر ما هو ممكن فى الظروف الصعبة التى أحاطت مصر وقتها جرى تطويق محاولات فرض حصار دبلوماسى واقتصادى على البلد.

بشكل أو آخر تبدت سياسة خارجية لها أهداف معروفة ورؤى معلنة، تعرف ماذا تريد، وأين الأولوية فى تحركاتها، انفتحت لأول مرة منذ عقود على المراكز الدولية المتعددة بينها روسيا والصين، وسعت جاهدة لترميم علاقاتها المتدهورة مع القارة الإفريقية.

كان ذلك رصيدا لا يستهان به لنظام ما بعد (30) يونيو.

اليوم تفتقد الدبلوماسية المصرية الوضوح الضرورى فى سياساتها وتحركاتها بكثير من الملفات الحساسة، بعض السياسات والتحركات منطقية ومفهومة فى خطوطها العريضة، وبعضها الآخر متناقضة مع الالتزامات المصرية الرئيسية فى النظر إلى قضايا الإقليم، وبعضها الثالث مثيرة للتساؤلات القلقة حول طبيعة العلاقة مع إسرائيل.

فيما بعد (30) يونيو ترددت فى الخطاب الدبلوماسى، كما الإعلامى، عبارات الاستقلال الوطنى والخروج من إطار الهيمنة الغربية والانفتاح على روسيا والصين دون قطيعة مع الولايات المتحدة واستعادة دور مصر فى عالمها العربى، غير أن هذا الدور الحيوى اقتصر عمليا على نظرة ضيقة حصرته فى منطقة الخليج.

على الرغم من الأهمية الاستراتيجية والاقتصادية لتلك المنطقة فإنها ليست كل العالم العربى.

تعود بعض أسباب الأزمات المكتومة المتكررة بين مصر والسعودية إلى وصف التحالف بين البلدين العربيين بـ«الاستراتيجى» دون أن تكون هناك قاعدة تفاهمات حقيقية فى ملفات الإقليم، فكل طرف يفترض أن يتصرف الآخر على الذى يتصوره.

الاقتراب جرى على خلفية خشية دول الخليج على مستقبل نظمها من جراء صعود جماعة «الإخوان» فى أكبر وأهم دولة عربية من ناحية، وحاجة مصر الماسة إلى الدعمين الاقتصادى والدبلوماسى فى أوضاع صعبة.

التحالفات المرتهنة لظروفها وحساباتها ليست قابلة للدوام إذا لم تنتقل لحوار جدى فى مساحات التوافق والخلاف وإقرار مبدأى المصالح المشتركة والندية الضرورية.

على الرغم من الكلام الكثير عن العلاقات الاستراتيجية لم تحدث مرة واحدة على نحو جاد أى حوارات نظرت فى الملفين السورى واليمنى.

وقد مثل تسليم جزيرتى «تيران» و«صنافير» المصريتان للسعودية بالطريقة التى جرت بها ضربة كبرى لها مردودها الاستراتيجى السلبى على أية علاقات مستقبلية فى أوضاع تحولات عاصفة بالإقليم.

بلغة الحقائق لم يكن هناك دور مصرى حقيقى، لا عسكريا ولا دبلوماسيا، فى الأزمة اليمنية.

قبل يومين من بدء عملية «عاصفة الحزم» أخطرت بموعدها، وأن مصر من بين الدول المشاركة فيها تحت اسم «التحالف العربى»، ولم يكن هناك تحالفا يستحق هذا الاسم.

كما لم يكن المصريون مستعدون لانخراط جديد فى الحروب اليمنية بأثر تجربة الستينيات التى استغلت لضرب الجيش المصرى فى سيناء بينما بعض قواته الرئيسية تحارب فى اليمن، فضلا عن أن الخبرة المصرية تأكد لديها أنه لا يمكن حسم مثل تلك الحروب بالوسائل العسكرية وحدها.

بالتوقيت نفسه استبعدت مصر تماما من أية جهود دبلوماسية لحلحلة الأزمة اليمنية.

توافدت إلى عاصمتها القاهرة الأطراف المتصارعة، لكنها لم تخرج بتلك الاتصالات إلى العلن الدبلوماسى، وسحب ذلك من رصيدها وقدرتها على المبادرة.

الأمر نفسه تكرر مع السوريين، حوارات غير معلنة توصلت ـ أحيانا ـ إلى تفاهمات رئيسية لم تأخذ طريقها للنهاية.
كان من تداعيات الوقوف بمنتصف الطريق فى بعض الملفات التصويت فى مجلس الأمن بالإيجاب على قرارين متناقضين، أحدهما روسى والآخر فرنسى، قبل حسم معركة حلب.

لا السعوديون تقبلوا ولا الروس تفهموا.

الارتباك نفسه تبدى مرة أخرى فى سحب المشروع المصرى لإدانة المستوطنات من أمام مجلس الأمن تحت ضغوط الرئيس الأمريكى المنتخب «دونالد ترامب» قبل أن يتولى مهامه بالبيت الأبيض، لكنها صوتت لصالح المشروع نفسه عندما قدمته دول أخرى.

مثل ذلك الارتباك لا يمكن تفسيره أو تقبله من مؤسسة دبلوماسية عريقة كالخارجية المصرية.
العلاقة مع إيران من الملفات التى انعكست عليها ارتباكات الأداء الدبلوماسى.

على الرغم من تفهم دائرة صنع القرار فى مصر لضرورات الحديث مع إيران فإن الحساسيات السعودية أجلت أى اقتراب علنى، على الرغم أن السعودية نفسها أبدت استعدادا قبل أزمة إعدام الداعية الشيعى «نمر النمر» وتداعياتها للدخول فى حوار مباشر مع طهران، ومن المرجح أن تفتح مثل هذه الحوارات عندما تقترب الأزمة السورية من نهاياتها.

سألت شخصية سعودية نافذة: «لماذا تكبلون الدور المصرى؟» فـ«مصر محامٍ مؤتمن على الخليج ملتزم بأمنه فى أى حديث محتمل مع إيران».

كانت إجابته: «لماذا مصر؟».. «نحن نستطيع أن نحاور مباشرة».

مثل تلك الرؤية لا تؤسس لأية علاقات استراتيجية أو طبيعية أو على شىء من الندية، وهو وضع غير مقبول ولا محتمل.
بالنسبة لمصر فإن سوريا مسألة أمن قومى، فإذا ما سقطت سورية إلى الأبد فى الفوضى والتقسيم فإن مصر مرشحة لمصير مماثل، أو أن يضرب بالعمق أمنها القومى الذى ارتبط تاريخيا بما يجرى فى المشرق العربى.

بالخطوط العريضة يتسم الموقف المصرى بشىء من الوضوح من ضرورة الحفاظ على وحدة التراب السورى وجيشه والتسوية السياسية للأزمة عبر مفاوضات جنيف، لكنه يفتقد إلى روح المبادرة وحرية التصرف.

من مقومات أى تطلع مصرى للعب دور إقليمى محورى فى لحظة تقسيم الجوائز والمغارم الانفتاح بالحديث مع إيران حتى تستبين نقاط الاتفاق والاختلاف وتخفيض التوتر مع تركيا إلى حدود تسمح بتفاهمات رئيسية.

فى الأزمة الليبية تبدو السياسة المصرية أكثر تماسكا.

منذ (30) يونيو والخط العام واحد.

الحدود تمتد لنحو 1200 كلم ومخازن السلاح التى تركها نظام العقيد «معمر القذافى»، فضلا عن مخلفات التدخل العسكرى لـ«الناتو» ذهبت إلى مسارين.

أول مسار، نقلها إلى مصر عبر الحدود المفتوحة.

وثانى مسار، نقلها إلى سوريا عبر الحدود التركية.

كما نقل بنفس الوقت مسلحون تمركزوا فى مناطق بعينها، وقد دفعت مصر ثمنا باهظا لنقل السلاح والمقاتلين داخل أراضيها.
وهكذا تصدرت قضية أمن الحدود والحد من تهريب السلاح أولوية النظر إلى الأزمة الليبية.

وهكذا تأكدت أهمية دعم الشرعية البرلمانية فى طبرق وتدريب وتسليح الجيش الوطنى الليبى.

بعد تذبيح أقباط مصريين فى ليبيا قامت مصر بغارة جوية على أحد معاقل الجماعة التى ارتكبت الجريمة الإرهابية، ثم ذهبت إلى مجلس الأمن لاستصدار قرار أممى يضفى شرعية على مثل هذه العمليات، لكنه اصطدمت برفض غربى جماعى قادته الولايات المتحدة، أسفر عن تسوية ما فى «الصخيرات» وضعت حدودا لحرية الحركة يمنع أى تدخل عسكرى من أى نوع.

بالمعلومات الأساسية ليس فى وارد صانع القرار المصرى التورط العسكرى فى ليبيا، ولا فى سوريا واليمن.

الأكثر مأساوية فى الأزمة الليبية أنه لا توجد تفاهمات صلبة بين دول الجوار العربية، وبالذات مصر والجزائر.

منذ البداية تميل الجزائر إلى التسويات السياسية وفق الأطر الأممية، بينما لم تكن مصر مقتنعة بالتسوية التى جرت فى «الصخيرات»، لكنها ماشت الرهانات الأممية وفى اعتقادها أنها سوف تفشل بعد حين.

بصورة أو أخرى فإن تلك الأزمة مرشحة للمراوحة فى المكان رغم تصاعد القلق الأوروبى من الهجرات غير الشرعية عبر الموانئ الليبية.

إن مصائر الأزمات المشتعلة بالنيران فى الإقليم تكاد أن تكون مرتهنة بالكامل للطريقة التى سوف يجرى بها إنهاء الأزمة السورية، وموازين القوة العسكرية على الأرض، ومدى قدرة القوة الكامنة المصرية على لعب دور يليق بحجم ذلك البلد الكبير بتاريخه فى محيطه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved