علي الشبلي يكتب: «زومبى».. رواية تكشف قاع المجتمع الأمريكى

آخر تحديث: السبت 9 فبراير 2019 - 4:42 م بتوقيت القاهرة

«زومبى».. رواية ل جويس كارول أوتس، التى صدرت ترجمتها عن دار المتوسط للمترجم أحمد م. أحمد، تقوم على سرد شيق، اعتمد لغة الشارع اللا منضبطة بالكشف عن حقائق بشعة فى المجتمع الأمريكى، من شذوذ، وقتل، واغتصاب... ولكن، هل يبتغى سردها الفنى المتقطع الفوضوى، أن يقدم تلك الصورة المفككة عن مجتمع ما بعينه، «المجتمع الأمريكى»، أم أنه يتجاوز ذلك ليقول لنا جميعا كبشر، هذا ما أنتم فيه، فانظروا إلى أنفسكم.
«كيو ـ بى»، راوى الرواية، مريض الفصام، القاتل، الشاذ، ما هو سوى نتاج وعى جمعى، أنتم من قمتم بإنتاجه؟ فالسؤال المهم والمفصلى فى حياة «كيو ـ بى» بدأ مبكرا وقت كان فى الثانوية؛ إذ أحس أن الأشياء تمضى بسرعة من حوله، مشيرا فى ذلك إلى إيقاع الحياة المتسارع فى المجتمعات الغربية، الذى لا يتيح لأحد الاسترخاء، أو التنفس، أو التأمل، وإنما فقط اللهاث المستمر من أجل اللحاق بمتطلبات العيش، وبكل ما هو جديد يحدث، ليجد أيا كان نفسه فى دوامة استهلاك غير منتهية، تحيط بتفاصيل حياته من كل جانب. إذن، لا يمكن خرق ذلك التسارع فى إيقاع الحياة الذى يطحن كل شىء فى طريقه، إلا باختلاق زمن خاص. ولكن، هل سيكون الزمن الخاص حقيقيا فى ذاته، أم أنه نتاج آخر خاضع فى حيثياته إلى ذلك الزمن المتسارع؟
«هل الزمن فى داخلى، أم الزمن فى الخارج»، يتساءل «كيو ـ بي»؟ ويجيب بكاف الخطاب، إلى الكل من دون استثناء، كاسرا السرد الروائى بضمير الأنا: «إذا كان زمنك فى الخارج، فما عليك سوى أن تحافظ على التسارع الذى يحدث فى حياتك، رغم أنه يسحقك. وإذا كان زمنك فى داخلك، فما عليك سوى فعل ما تريد، باختلاق زمنك الخاص». وعليه، لكى يتحقق زمنك الخاص، عليك تحطيم عقارب الساعة، تحطيم ذلك النظام الدقيق بمحدداته التى تحكم كل شىء بإيقاعها. حطم، ليبقى فقط ذلك التشوه بلا ملامح، مجرد شكل ليس له أدنى أثر؛ شكل جامد أمامك، ستسخر منه على الدوام. وتحدث نقطة التحول لدى «كيو ـ بى» المهتم المميز فى الرياضيات، عندما ينسل خلسة إلى مدرج الجامعة التى يدرس فيها والده «آر ـ بى» حامل شهادة الفلسفة والفيزياء، ليستمع إلى محاضرة عن نشأة الكون وتطوره. غير أنه بدل العثور على زمنه الخاص فى تلك المحاضرة، يجد نفسه فى دائرة ضياع أوسع؛ بعدما استمع إلى تطور الكون من الانسجام والتوزع العادل للمادة، إلى أن وصل إلى عناقيد المجرات العملاقة، والمادة السوداء. وإلى أن 90 فى المائة من كتلة الكون الآن تقع فى ثقوب سوداء غير قابلة للقياس الكمى. وبذلك يكون معظم الكون عصيا على الاكتشاف بواسطة معتقداتنا، وغير خاضع لقوانين الفيزياء التى نعرفها! عند هذه المعرفة، يهوى «كيو ـ بى» فى ذلك الغموض الآسر للكون. يهوى فى سحر الحجب الذى سيأخذه إلى انفعال سيكون الأكثر تأثيرا له فى حياته؛ إذ أحس بذلك العقم السلبى المعرفى أمام غموض الكون، ليوصله إلى قناعة أن لا شىء يشكل فارقا فى حياة الإنسان من المجرات إلى الأفراد، وما الوعى الحقيقى سوى ذلك الذى نصل إليه إلى عبثية الوجود. وما النظام الرأسمالى إلا استغلال بشع لتلك العبثية وفقدان اليقين!
فى وسط تلك الحيرة، والألم العقلى، يحدث الفصام العنفى لدى «كيو ـ بى»، فيقرر أن يذهب إلى ذلك المحدد الذى يراه الأكثر قسرا له بغية تحطيمه وتشويهه؛ إنه الإنسان ممتلك الوعى من دون غيره من الكائنات، والذى عبر وعيه يقوم باستهلاك وتخريب كل شىء على هذه الأرض، قائلا بذلك إن تلك الجرائم التى يرتكبها بكل تلك البشاعة، ما هى إلا تحطيم لذلك النظام المتسارع الفاسد الذى أنتجه الوعى الإنسانى. لكن «كيو ـ بى»، يخضع من حيث لا يدرى لذلك الهوس الاستغلالى، وقت يفكر باختلاق «زومبى» خاص به. «زومبى» لا يشعر بالألم أو القلق، مستلب من كل شىء، بلا إحساس، وبلا ذاكرة، وبلا رؤية، مستجيب لكل طلباته النفسية والجنسية والحياتية بطيبة خاطر؛ إنه ببساطة من شاكلة ذلك الإنسان المسلوب فى ظل نظام الاستغلال العالمى، ذلك النظام الذى يولد ضحاياه من أنفسهم، كأنهم عائدون من الموت!
ولكن، أين سيجد ضالته؟ إنه سؤال باهت فيما يخص «كيوـ بى» المتنبه بقوة لبشاعة ما يحدث حوله؛ باهت، لأنه ببساطة سيختار ضحاياه من الأشخاص المهملين الذين لا قيمة لهم، الذين لا يعيرهم أحد اهتماما؛ متمثلا فى ذلك الطريقة الوحشية للبروفيسور «إم ـ كى» نائل جائزة نوبل فى الفيزياء، البروفيسور الذى ترأس فريقا من العلماء قام بتجارب لصالح هيئة الطاقة الذرية، تجارب أعطى فيها حليبا يحتوى نشاطا إشعاعيا لست وثلاثين طفلا من المعوقين عقليا. وكذلك عرض خصى سجناء إلى الإشعاع المؤين؛ إذ إنهم ضحايا مثاليون من أجل شفافية البحث العلمي!
لكن «كيو ـ بى» يفشل فى اختلاق «زومبى» خاص به. يفشل بعد ارتكابه سلسلة من الجرائم البشعة يقوم فيها باغتصاب ضحاياه قبل أن يقوم باستخدام مثقاب ثلج لخزع الدماغ الجبهى لهم؛ ذلك العمل الطبى الذى يرجى منه تسطيح الأثر المؤلم لانفعالات الإدراك القهرى لدى الفصاميين، والمرضى العقليين!
فى النهاية، يختار «كيو ـ بى» ضحيته الأخيرة من شكل مختلف: شاب صغير السن يذكره بنفسه فى يفاعته، له شعر بنى مشقر، لفحته الشمس. يراقب ذلك الفتى الجميل، ويكمن له إلى أن يصطاده. يقطع حباله الصوتية، كما يفعلون فى مختبر الجامعة عندما يجرون تجاربهم على الصيصان لكيلا تصدر أصواتا تحت الألم؛ هو «كيو ـ بى» كذلك، يقطع الحبال الصوتية للشاب قبل أن يغتصبه إلى حد الموت. ثم يفشل أيضا فى تكوين «الزومبى» الخاص به بعد خزع دماغه، فيضعه فى صندوق سيارته «الفان» كما فعل مع كل ضحاياه، ليرميه لاحقا فى النهر مع أثقال لكيلا يطفو، يغطى الزجاج الخلفى لتلك السيارة العلم الأمريكي! تلك «الفان» رملية اللون؛ ذلك اللون الرمادى الباهت الذى فى داخله يرقد الناس المغمورون قتلى، محجوبون عن العالم بالألوان الصارخة لذلك العلم.
يذهب «كيو ـ بى» بعد تلك الجريمة إلى مكتب الدكتور الذى يعالجه من مرض الفصام. ويحكى له عن حلم رآه أنه مقتول ومرمى فى الماء؛ يقدم اعترافه مواربا عبر حلم رآه، يؤكد فيه أنه هو ذلك الشاب المقتول. لكن الدكتور لا يعير ذلك اهتماما، يتجاهل كل ذلك مقررا أن «كيو ـ بى» يحرز تقدما فى الشفاء من فصامه!
«زومبي»: رواية تقول إنها حياة منهارة؛ إذ تملؤها الجريمة البشعة من أرفع مستويات البحث العلمى، إلى أدنى مستوى فى العلاقات الأسرية!

* ناقد سوري

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved