عمرو الشلقانى يكتب عن «تاريخ ازدهار وانهيار النخبة القانونية المصرية» «1ــ4»

آخر تحديث: الأربعاء 10 أكتوبر 2012 - 12:05 م بتوقيت القاهرة

شهدت القاهرة ظهيرة يوم 29 مارس 1954 مظاهرات لا نعلم فى تاريخ الثورات الحديثة بأعجب منها، مجموعات من المواطنين تغمر شوارع المدينة وتهتف فى طرقاتها، تارة بحياة الجيش والثورة وعبدالناصر، وتارة أخرى تنادى بسقوط الأحزاب والنقابات والرجعية، بل وبسقوط الدستور ومعه الحرية والديمقراطية كذلك.

 

وما إن وصلت إحدى هذه المجموعات إلى مقر مجلس الدولة بالجيزة، حتى علا الهتاف ليشمل الدكتور عبدالرزاق باشا السنهورى، رئيس مجلس الدولة حينئذ، والذى ما لبث المتظاهرون ينادونه بالجاهل والخائن، ويطالبون بسقوطه هو الآخر.

 

توقفت المسيرة خارج بوابة المجلس المغلقة بسلاسل الحديد، فدخل أحد الضباط إلى مكتب السنهورى وطلب منه الخروج إلى حديقة المحكمة لمخاطبة المتواجدين بها والتهدئة من روعهم، وحينئذ اقتحمت جموع المتظاهرين فناء المجلس وانقض بعضهم على السنهورى بالسب والضرب، وحينئذ فقط يبدو السنهورى وقد فطن أخيرا بأن الأمر لم يكن «مظاهرة أخاطب فيها المتظاهرين ــ كما ادعى الضابط ــ بل «أمر اعتداء مبيت على، وما لبث المتظاهرون أن دفعونى دفعا إلى الحديقة وتوالى الاعتداء».

 

يحكى أن المتظاهرين كادوا يفتكون بالسنهورى ذلك اليوم، لولا أن تلقى الضربة أحد السعاة بمجلس الدولة، كما يحكى أن السنهورى لم يتمكن من مغادرة مكان الاعتداء إلا بعد قدوم الصاغ صلاح سالم، والذى اصطحبه إلى الخارج، والسنهورى ــ  وفق إحدى الروايات مدثر بسجادة من مكاتب المجلس.

 

ثم كان اليوم التالى للاعتداء، فأدلى السنهورى بأقواله إلى النيابة العامة من على فراشه بالمستشفى، موجها الاتهام صراحة إلى الصاغ جمال عبدالناصر بتدبير الاعتداء عليه يوم 29 مارس، ثم طالبا من زوجته عدم السماح بدخول ناصر عليه الغرفة عندما قدم الأخير لزيارته والاطمئنان عليه فى المستشفى.

 

وتؤكد الوثائق المتاحة لنا صدق حدس السنهورى، فالمظاهرات كانت مأجورة، والمتظاهرون خرجوا من هيئة التحرير الخاضعة لسلطة الضباط الأحرار، وبأمر من رئيس البوليس الحربى ــ أو الشرطة العسكرية كما تعرف اليوم ــ وذلك وفق خطة كان الأستاذ أحمد حمروش عقلها المدبر، بالتعاون مع إبراهيم الطحاوى وأحمد طعيمة زملائه فى التنظيم.

 

تلك وباختصار هى الخطوط العريضة لما أصبح يطلق عليه بالعامية «قصة ضرب السنهورى بالجزمة على سلم مجلس الدولة»، وهى قصة تعرفها نخبتنا القانونية جيدا، وتكثر الاشارة لها فى معرض وصلات النحيب المألوفة عن ما كانت عليه تلك النخبة من ازدهار قبل انقلاب الجيش سنة 1952، ثم ما آلت إليه بعده من انهيار فى المقدرات، أصاب جهاز العدالة بأسره من قضاء ومحاماة وكليات حقوق خلال العقود الستة المنصرمة من «نظام يوليو»، مثلما أصاب معها التزام الدولة بمبادئ سيادة القانون واستقلال القضاء فى ظل عهود ناصر ومن ورائه السادات ومبارك.

 

يطل علينا السنهورى فى السرد السالف للقصة بطلا آثر الوقوف مع التيار الديمقراطى خلال أزمة مارس 1954، فنادى مع الجناح المؤيد للواء محمد نجيب بعودة الجيش إلى ثكناته، وإطلاق حرية الأحزاب السياسية، تمهيدا لعقد انتخابات نزيهة فى ظل دستور جديد كان للسنهورى الدور الكبير فى صياغة أحكامه.

 

ثم يأتى بعد ذلك مشهد السنهورى شهيدا لاستخفاف العسكر بسيادة القانون، وعدائهم لاستقلال القضاء، فيضرب القاضى الكبير على سلم محكمته، ثم يشتد العداء بينه وعبدالناصر فيعزل السنهورى من منصبه القضائى، ويمنع من السفر لسنوات جزاء التزامه بمبادئه القانونية وإيثاره عفة القاضى على العقيدة السياسية وسموه عن نزواتها المتقلبة، وبالطبع رفضه لكل تحالف ولو تكتيكى مع من بيده السلطة على مر الحكومات المتعاقبة.

 

●●●

 

مشكلتى مع هذا السرد التقليدى لقصة الاعتداء على السنهورى لا تمت بصلة إلى مكانة الرجل الفكرية كواحد من أنبغ فقهاء القانون فى تاريخنا الحديث، بل وربما أنبغهم على الإطلاق، وإنما يكمن اعتراضى فى ما ينطوى عليه ذلك السرد بنبراته البطولية من تغافل غير قليل للدور السياسى الذى لعبه السنهورى قبل لحظة الاعتداء عليه تلك، وهو دور فيه من أوجه الود والتعاون مع القائمين على حركة انقلاب الجيش ما يتعذر معه اعتبار السنهورى مجرد ضحية طاهرة للعصف الناصرى بسيادة القانون.

 

فالرجل الذى ضرب على سلم مجلس الدولة فى 29 مارس 1954 وكان بذلك ضحية شديدة الدرامية لرفض «العسكر» تبنى دستور ديمقراطى جديد وعقد انتخابات نزيهة يختار فيها الشعب ممثليه بالبرلمان، هو أيضا نفس الرجل الذى جلس على منصته القضائية فى 31 يوليو 1952، وذلك بعد أسبوع واحد من قيام الجيش بانقلابه العسكرى، فأفتى بما نراه يأتى على أحكام دستور 1923 ويتعارض مع أبسط قواعد المنطق القانونى السليم،

 

ثم أمضى بعد ذلك الجانب الأكبر من تلك المرحلة الحرجة ما بين انقلاب الجيش واشتعال أزمة مارس 1954 وهو يمد الضباط الأحرار وعلى رأسهم ناصر بمختلف صور العون القانونى فى مشروع «تطهير» الحياة السياسية على نحو ما سنتناول بالتفصيل، فساهم فى صياغة بعض القوانين الحساسة للنظام العسكرى الحاكم فى تلك المرحلة، وأفتى من قسم الرأى فى مجلس الدولة بتحصين هذه القوانين من الطعن عليها بالعيب أو العوار، كما صدرت فى ظل رئاسته للمجلس أيضا مجموعة مهمة من الأحكام القضائية المؤيدة لتلك القوانين.

 

وليس أدل على مقدار ما وصلت إليه أوجه الود والتعاون بين مجلس الدولة والقائمين على انقلاب الجيش حتى مارس 1954، من أننا نجد سليمان بك حافظ فى مذكراته، وهو زميل السنهورى فى إدارة دفة التعاون القانونى/العسكرى هذا، وقد ذهب فى تفسيره لواقعة الاعتداء إلى استبعاد ضلوع جبهة عبدالناصر فيها «لانعدام الباعث من جهتهم، إذ كانوا يعلمون أن السنهورى لم ينحز إلى جانب أى من الفريقين فى الخلاف الواقع بينهما، بل لعله كان فى المرحلة الأخيرة منه أكثر لوما لنجيب منه لصحبه».

 

ولعلنا فى مطالعة غلاف مجلة روز اليوسف فى عددها الصادر قبل أسبوع من وقوع الاعتداء على السنهورى نجد أفضل تمثيل لما كان قد وصل إليه هذا الود والتعاون بين نخبة القانونيين والضباط الأحرار من حال، فنجد على الغلاف رسما كاريكاتيريا لدستور البلاد الجديد المرتقب، وقد تأبطت ذراعاه ناصر ونجيب من كل ناحية، بينما يقوم صلاح سالم على زفه كالعروس بالورد من الأمام، أما السنهورى فنجده فى الخلف وهو يحتفى بالموكب الدستورى أيضا عن طريق دق الصاجات، وسليمان حافظ من جنبه فى مشهد مقارب لحركات الأراجوزات فى الموالد، احتفالا هو الآخر بقرب صدور الدستور المأمول.

 

والسؤال هنا، كيف لنا أن نفسر هذا التناقض الصارخ ما بين الاعتداء على السنهورى فى 29 مارس 1954 جراء تأييده للتيار الديمقراطى حسب فلكلورنا القانونى من جانب، ومواقف السنهورى السابقة على ذلك الاعتداء الدرامى من جانب آخر، بكل ما انطوت عليه من تأييد ومباركة للتدابير الثورية والخارقة فى مجملها للشرعية الدستورية ومن ورائها أبسط مبادئ المنطق القانونى السليم؟

 

وقبل هذا وذاك، لماذا العودة من الأصل لاستذكار قصة ضرب السنهورى بالجزمة على سلم مجلس الدولة؟ هل من فائدة ترجى لتلك الذكرى؟ أو ليس من الأجدى عدم فتح دفاتر الماضى، والانتباه بالعكس لما يحيق بحاضرنا القانونى من مشاكل ومصر تستشرف مستقبلها الدستورى فى أعقاب ثورة 25 يناير؟

 

●●●

التفسير المعتاد طرحه هنا يرتكز على العداوة الشهيرة بين السنهورى وحزب الوفد، ويجعل من ضيق الرجل بالحياة الحزبية عموما أداة التحليل المختارة فى فهم تأييده لانقلاب الجيش ومعاونته القائمين عليه.

 

فالسنهورى حسب هذا التفسير كان قد وصل إلى قناعة مطلقة بفساد منظومة الحياة السياسية فى مصر قبل يوليو 1952، وباستحالة الدفع بأى من الإصلاحات الضرورية لتقدم الوطن دون عرقلة مصالح «العهد البائد» لها، أو ما أصبحنا نطلق عليه مصطلح «الفلول» اليوم، وبالأخص ما اتصل بدور الوفد المهيمن على الحياة الحزبية فى ذلك.

 

ويساند القائلين بهذا التفسير رأيهم بالإشارة لانتماء السنهورى إلى الحزب السعدى ذى التوجه الاشتراكى، بدءا باستقالته من الوفد وخروجه عليه بصحبة أحمد ماهر والنقراشى سنة 1937، ثم عمله وزيرا للمعارف عن هذا الحزب فى الوزارة الائتلافية بين 1945 و1946، ثم تولى السنهورى رئاسة مجلس الدولة عقب تأسيسه سنة 1949، ودخوله بهذه الصفة فى معارك مشهودة مع حزب الوفد وحكومة النحاس فى السنوات السابقة مباشرة على 23 يوليو 1952.

 

إلى أن كان انقلاب الجيش، فساند السنهورى القائمين عليه أملا فى قدرتهم على تحقيق ما عجز عنه رجال السياسة قبلهم من إصلاح منشود، وأيدهم فى سبيل ذلك إلى كل تدبير من شأنه استئصال الوفد عن المشهد السياسى، ولو على حساب المنطق الدستورى السليم، حتى كان انقسام الضباط الاحرار بعد ذلك بين معسكرى نجيب وعبدالناصر أثناء أزمة مارس 1954، فيذهب التفسير التقليدى هذا للإعلاء من قيمة وقوف السنهورى مع نجيب فى تلك اللحظة التاريخية، ثم دفع السنهورى ثمن ذلك التحالف السياسى بما أصابه من اعتداء يوم 29 مارس 1954.

 

ينصب هذا التفسير التقليدى إذن على النظر إلى السنهورى بوصفه رجل سياسة، له ما له وعليه ما عليه، شأنه فى ذلك شأن سائر رجال السياسة من النخبة القانونية التى لعبت دورا رئيسيا فى حكم مصر قبل 1952.

 

والسنهورى وفق هذا التحليل مثله مثل عبدالعزيز باشا فهمى أو حسين هيكل باشا أو غيرهما من أساطين الفقه والقضاء ممن ارتبطت أسماؤهم فى فولكلورنا القانونى بالدفاع عن سيادة القانون واستقلال القضاء قبل انقلاب الجيش، فهؤلاء الرجال وفى مقدمتهم السنهورى اختاروا فى لحظة أو أخرى الانخراط بالشأن العام، فحكموا كسياسيين وليس فقط كرجال قانون، ومن ثم انطبق عليهم ما ينطبق على رجال السياسة بشكل عام، من خرق أحكام دستور 1923 لتحقيق مصالح سياسية آنية، ثم الادعاء بأحكامه فى لحظات أخرى وفى سياق مصالح سياسية متقلبة كذلك، فأفسدوا ومنهم السنهورى التجربة الديمقراطية فى ظل دستور 1923، وفتحوا الباب أمام حكم العسكر الذى ما لبث وأن عصف بهم وبما استخفوا به من مبادئ القانون.

 

وأوجز تفسير على هذا النحو نجده فى تحليل المستشار أحمد مكى لواقعة الاعتداء على السنهورى، حيث يقول: «ولعل العبرة التى ينبغى أن يعرفها القضاة.. وغيرهم، هى أنه لا يجوز الخلط بين السياسة والقضاء، لأنه خلط بين الحق والهوى والزهد والشهوة، ولقد أساءت السياسة إلى السنهورى، وانتقصت من رصيده الكبير».

 

وإن كان لنا أن نبدى رأيا فى هذا التفسير السالف، فإننا نتفق مع ما فيه من صحة سرد للوقائع، يؤيدها أغلب ما توافر لنا من مراجع عن هذه الفترة، ولكننا نأخذ عليه تناول السنهورى كمجرد «لاعب سياسى»، يعامل فى تحليل العلوم السياسية معاملة النخب الحاكمة بوجه عام، بكل ما يستتبعه ذلك من اختزال الرجل فى مجرد ناشط فاعل بالشأن العام، يحسب له أو عليه ما بدر منه من مواقف سياسية يتم تقييمها بالسلب أو الإيجاب حسب ما رتبت من آثار.

 

هذا المنهج وإن أفاد فى فهم تسلسل أحداث تلك المرحلة التاريخية فى علاقة القانون والثورة فى مصر عقب انقلاب الجيش، ينقصه وتتبع مسيرة السنهورى فيها كأحد كبار «رجال السياسة والحكم» فى ذلك الحين، يظل هذا المنهج رغم ذلك قاصرا فى التحليل لعدم اقترابه من تكوين الرجل الثقافى كأحد كبار «المفكرين القانونيين» فى السنوات السابقة على الانقلاب العسكرى، ومن ثم التعرض لما يستتبعه هذا التكوين من علاقة غاية فى التعقيد عند التعامل مع تلك اللحظات التاريخية الفارقة، السهلة على الثوار، الممتنعة على رجال القانون، لحظات استدعاء مبدأ «الشرعية الثورية» وما تشكله من مخاطر على مبادئ.

 

والسنهورى فى تناقض مواقفه السياسية وتأرجحها، ما بين تأييد الحياة الدستورية سنة 1954 وتأييد العاصفين بها قبل ذلك بعامين، لا يعدو أن يكون نموذجا مصغرا لتناقضات أوسع فى طبيعة العلاقة بين القانون والثورة، أو لنكون أكثر دقة، فى معضلة الموازنة بين مبادئ الدولة المدنية من جانب، ومستحقات الديمقراطية من جانب آخر، وما بينهما من الكثير فى تضارب الأسباب، وتعارض النتائج.

 

●●●

 

ولنبدأ بالتأكيد أولا أن مبدأ «الشرعية الثورية» هذا ليس بدعة أو خرافة قانونية، كما حلا للبعض أن يصور الأمر فى أعقاب 25 يناير، بل هو جزء من منهج مادة «النظم السياسية» المقررة على جميع طلبة كليات الحقوق فى مصر.

 

المشكلة ببساطة أن هذا الجزء من المنهج عادة ما يندرج تحت تصنيف «الملغى من المقرر» مع الدخول فى نهاية الفصل الدراسى والاستعداد للامتحانات، فلا يعطيه الأساتذة أهمية تذكر فى محاضراتهم، ولا ينتبه إليه الطلبة عند التحضير ومذاكرة المادة.

 

هكذا كان الحال حين درست النظم السياسية طالبا فى حقوق القاهرة، فكانت نظرية «الشرعية الثورية» من تلك النظريات التى نستبعد ورودها ضمن أسئلة الامتحان لكونها من نظريات الخيال العلمى فى القانون، نظرية عديمة الصلة بواقع الشعب المصرى الذى لا يثور أبدا!

 

أما اليوم، فعلينا العودة لمذاكرة ذلك الملغى من مقرر القانون الدستورى، والذى يتلخص ببساطة فى أن إرادة الشعب هى مصدر جميع سلطات الدولة، فإذا ثار الشعب واتجهت إرادته إلى سحب مشروعية النظام الحاكم سقط النظام بأكمله وحان الوقت لوضع دستور جديد يعكس إرادة الشعب الجديدة.

 

و«النظام» الذى رفع الشعب مطلب إسقاطه فى ثورة 25 يناير ما هو إلا «نظام يوليو» الذى ولد فى الفترة الحرجة بين انقلاب الجيش واندلاع أزمة مارس 1954، ثم حكِمَت البلاد وفق منظوماته الدستورية المتتابعة، التى كان آخر طبعات العوار فيها دستور 1971 بتعديلاته المختلفة.

 

ويخطئ من يظن أن «نظام يوليو» هذا يمكن اختزاله رمزيا فى قصة الاعتداء على السنهورى على سلم مجلس الدولة، أو إسقاطه أدبيا فى شعارات من قبيل «يسقط يسقط حكم العسكر»، المتكئة على نفى أى التزام من النظام تجاه مبادئ سيادة القانون واستقلال القضاء، بل والديمقراطية والحرية كذلك.

 

إنما العكس هو الصحيح، وهنا تكمن المشكلة: فنظام يوليو نشأ بانقلاب عسكرى على منظومة قانونية، ديمقراطية المبدأ ومدنية المفردات، كانت نتاجا لتاريخ طويل من الإصلاحات القانونية والقضائية الممتدة لأكثر من قرن ونصف سبقت وقوع الانقلاب، وأفرزت منذ نهاية القرن التاسع عشر نخبة قانونية حاكمة، لا يستهان بأمرها سواء وقت الانقلاب أو بعده.

 

وليس أدل على كل ما سبق من هذا التواتر المستمر لأسماء القانونيين المصريين فى أغلب الحوادث الرئيسية لتاريخ مصر بين الاحتلال البريطانى سنة 1882 وحركة الجيش سنة 1952. فقادة الكفاح الوطنى ضد الاحتلال جميعهم من القانونيين، بدءا من مصطفى كامل ومحمد فريد إلى سعد زغلول وأكثر صحبه ممن أسسوا الوفد المصرى إبان ثورة 1919، وصولا إلى مكرم عبيد ومصطفى النحاس وأحمد ماهر وعلى ماهر والنقراشى والهلالى وغيرهم.

 

ولا عجب فى أن كثيرا من هذه الأسماء هى أيضا التى قبضت على مقاليد الحياة السياسية فى مصر بين وقوع الاحتلال وحركة الجيش سواء كوزراء أو رؤساء وزارة أو رؤساء للديوان الملكى أو كبار الموظفين فى المصالح الحكومية المختلفة، حتى أن تاريخ مصر السياسى فى تلك الأعوام يقترب كثيرا من كونه تاريخا لعلاقات النخبة القانونية الحاكمة ببعضها البعض.

 

فإذا انتقلنا إلى مجال الحياة الثقافية وجدناه يفيض هو الآخر بأسماء القانونيين، من أحمد لطفى السيد وحسين هيكل وفكرى أباظة وعلى أمين فى المجال الصحفى مثلا، إلى أحمد شوقى وحافظ إبراهيم ويحيى حقى وتوفيق الحكيم وغيرهم ممن كان لهم الباع الأوسع فى تطوير حياتنا الشعرية والأدبية حتى منتصف القرن العشرين، وإلى جانبهم نجد أسماء كبار القانونيين ممن كان لهم أيضا الدور الرئيسى فى تسيير الحياة الاقتصادية بالبلاد، فمن طلعت حرب وهو أيضا من خريجى كلية الحقوق، إلى كبار المحامين ممن تولوا الشئون القانونية للطبقة البرجوازية الجديدة فى مصر وما علاها من كبار الرأسماليين.

 

ومن هذا المنظور فإن النخبة القانونية فى مصر «حكمت» البلاد بالمعنى الواسع لكلمة الحكم، فكانت الفترة بين ثورة عرابى سنة 1882 وأزمة مارس 1954 هى الفترة الأهم فى نفاذ أعضائها إلى التأثير فى شتى الحقول السياسية والثقافية والاقتصادية فى مصر، وكان لهم فى كل ذلك أثر فكرى بالغ فى ذيوع مفردات الحكم المدنى الديمقراطى الحديث فى خطابنا المعاصر، من قبيل «مبدأ المواطنة» وما يستتبعه من مساواة بين المصريين فى الحقوق والواجبات دون التمييز على أساس الجنس أو العرق أو الدين، وكذلك مبدأ «الفصل بين السلطات»، و«استقلال القضاء»، وحماية «الحقوق الفردية» من عصف الدولة بها، إلى غير ذلك من المصطلحات حديثة العهد فى معجمنا اللغوى، والتى لم يمض على استقرار المفردات الدالة عليها ونشرها فى الثقافة العامة سوى قرن ونيف من عمر مصر الحديثة، ويرجع الفضل الكبير فى تعميمها على نحو ما نعهد اليوم إلى ذلك الدور الفكرى الرائد الذى اضطلعت به النخبة القانونية فى مصر منذ مشارف القرن العشرين.

 

ولسنا فى كل ما سبق نذهب إلى أن النخبة القانونية وقد توحدت فى توجهها الفكرى هذا قد توحدت كذلك فى مواقفها السياسية، بل على العكس، انقسم القانونيون داخليا بين أحزاب متنافرة ومصالح سياسية متعارضة، فلم يشفع لهم التكوين المهنى المشترك من التناحر بين حزبى الوطنى والأمة قبل سنة 1922، ثم بين الوفد والأحرار الدستوريين فى الأساس بعد ذلك، كما لم يشفع لهم الإطار الفكرى المشترك من الدخول فى تصفية خلافات سياسية آنية على حساب سلامة التجربة الديمقراطية فى مصر، حتى نجد غلاف مجلة روزاليوسف قبل أشهر من انقلاب الجيش وهو يصف حال النخبة الحاكمة من تناحر مخز فى أعقاب حريق القاهرة سنة 1952، منبئا بذلك عما كان يحيق بتلك النخبة من قرب انهيار سلطتها على البلاد.

 

ومن هنا كانت عجائب القدر فى أن نظام يوليو ــ رغم جوهره الانقلابى العسكرى ــ إلا أن القائمين عليه وجدوا أنفسهم من اللحظة الأولى ولمدة ستة عقود متتالية حبيسين لتلك المفردات المدنية والمبادئ الديمقراطية التى بدأ النظام حياته بالانقلاب عليها أصلا.

 

فتم تسوىق حركة الجيش منذ اندلاعها سنة 1952 وحتى أزمة مارس سنة 1954 على أنها نتاج نية صادقة من الضباط الأحرار فى رؤية هذه المبادئ محققة على أرض الواقع، ولم يتوقف من بعدها القائمون على نظام يوليو فى تقرير ولائهم لسيادة القانون أو استقلال القضاء، من ناصر مرورا بعهدى السادات ثم مبارك، وإن كان للفترة الناصرية من نظام يوليو منحى مختلف فى التفاوض مع معضلة النظام الجوهرية بين القانون والأمن كما سنرى بالتفصيل.

 

مراد القول، ينطلق هذا الكتاب من فرضية أولية مؤداها أن دراسة فكر وعمل النخبة القانونية المصرية قبل انقلاب الجيش هى مدخل ضرورى لفهم طبيعة المنطق القانونى للحكم فى ظل «نظام يوليو» خلال عقوده الستة المنصرمة، ومن ثم فى تحديد كيفية العمل على إسقاط هذا النظام فعليا، وليس مجرد على مستوى الشكلية القانونية فى إسقاط بعض رؤوسه عقب ثورة 25 يناير وحتى اليوم.  

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved