94 دقيقة مع «فيلومينا» بعد لمسة الخطيئة

آخر تحديث: الثلاثاء 12 نوفمبر 2013 - 1:21 م بتوقيت القاهرة
رسالة أبوظبى: خالد محمود

بهذا الفيلم سحر خفى يكمن فى قصة وأداء بطليه يجعلك تجلس فى صالة العرض 94 دقيقة وسط ظلام تهمس فى اذنيك كلمات حوار هو من أروع ما كتب: أتعرفون لماذا: لأنه يكثف الحياة كلها فى هدف يتأزم تحقيقه ثم وضع لك الحقيقة وهو أنك يجب ألا تحاكم زمنك الذى ساهمت أنت فى وقف عقاربه عند لحظة كان عليك أن تجدى بها ومعها.

إنه «فيلومينا» الذى عرض فى مهرجان أبوظبى السينمائى، وأتفق مع الناقد السينمائى انتشال التميمى مسؤول برمجة الأفلام العربية، بأنه أهم الأعمال التى طرحتها شاشة السينما هذا العام وفيه يقدم المخرج الرائع ستيف فريدز قصة مقتبسة عن كتاب «طفل فيلومينا المفقود» من تأليف الصحفى الإنجليزى مارتين سميث، ويروى فيه القصة الحقيقية لسيدة تدعى فيلومينا أيرلندية، وهى فى السبعينيات من عمرها، فقدت ابنها منذ خمسين عاما، حيث انتزعته منه كبيرة الراهبات فى إحدى الكنائس وباعته لإحدى الأسر الارستقراطية. وكانت فيلومينا قد أنجبت ذلك الطفل إثر خطيئة وعمرها 15 عاما، وفى الدير وبعد عملية ولادة قاسية، قدر المسئولون أخذ هذا الطفل الذى لا يرضون عنه والتخلص منه، وبدا أن هذا أمر معتاد.. ووسط صرخات الأم أجبرت على ترك طفلها.

تحاول تلك الأم على طريقة الفلاش باك البحث عن طفلها وعن طريق ابنتها تتعرف على صحفى مرموق اضطر لترك عمله إثر عوامل سياسية، حيث كان يعمل فى الدعاية لصالح حزب العمال، وعرضت عليه فكرة مساعدتها فى معرفة مصير ابنها، أين ذهب وأين يوجد، وهل هو على قيد الحياة.. الصحفى من جانبه لم يقم بالأمر لأن مثل هذه القصص لا يحبها، وشيئا فشيئا يتعاطف مع فيلومينا ويقدر البحث عن ابنها بعد الاتفاق مع إحدى دور النشر على نشر القصة فى نهايتها وتحمل مصاريف رحلة البحث.

وفى الفيلم تكتشف روعة وذكاء أداء الممثلة جودى دينش، فيلومينا وستيف كوجان من قام بدور الصحفى عبر عدة مواقف إنسانية وعاطفية تلهب مشاعرك، ويغلفها سخرية الحوار الذى لا تملك سوى أن تضحك من قلبك معه، والصورة الملهمة الصادقة حتى فى المشاهد المؤلمة والموجعة خاصة داخل الدير، حيث ترفض الراهبات وكبيرتهن الإفصاح عن أى شىء بل ويكذبن، وهنا يتطرق المخرج والسيناريو البارع دراميا فى كشف حقيقة الاتجار بالأطفال باسم الدين وباسم التخلص من براثن الخطيئة.

الفيلم صور الدير كحصن غامض مغلق على كثير من الاسرار، تملأ وجوه الراهبات قسوة مفرطة تحاول أن تبرر تلك المعتقدات فى حرمان أم من طفلها، حيث لا يحق لها أن تعيش الأمومة بعد وقوعها فى الخطيئة، المهم تبدأ الرحلة من أيرلندا إلى بريطانيا ثم إلى أمريكا، حيث إن الابن قد أصبح من النخبة المقربة من الرئيس ريجان ثم جورج بوش، ويسعى كل من ماكسميث وفيلومينا للحصول على أى معلومات عن الابن توم الذى أصبح اسمه مايكل هيس على اسم الأسرة التى تبنته، وأنه قد تعرض بمرض الإيدز وأنه كان شاذا، وتكتشف أيضا أن الابن كان يتذكر أيرلندا، وأنه طلب أن يدفن فى الدير نفسه الذى ولد فيه، وهو ما أخفته الراهبات أيضا بدعوى أن كل الوثائق الخاصة بالأسر، التى تبنت أطفالا دمرت. وفى مشاهد متتالية يغوص المشاهد فى بحر من مشاعر الأم التى تحاول أن تتماسك عبر سيناريو رائع وبحرفية شديدة، وخاصة فى المشاعر المتضاربة بين الأم والصحفى عبر مواقف شديدة الإنسانية، ونرى الأم تبدو مخلصة لا يهتز ايمانها بالكنيسة حتى بعدما اكتشفت ما فعلته كبيرة الراهبات من كذب وتضليل منذ أن انتزعت طفلها دون أن تسمح لها حتى بوداعه ثم بيعه وقبض الثمن وإنكار وجود جثمانه وارتكاب جريمة باسم المغالاة فى الدين، وتصر فيلومينا رغم ما تشعر به وما أنزلته عليها الكنيسة من ظلم على السكوت والتسامح، وكأنها تدين نفسها بترك الابن.

إن الفيلم يصور بحبكة ناجحة هى مزيج من المأساة والتراجيديا والكوميديا والسخرية لوعة أم لم تهدأ نصف قرن بحثا عن مصير ابنها، وفى النهاية يقدر الصحفى عدم نشر القصة احتراما لخصوصية فيلومينا حتى لا تتسبب فى جرحها أكثر، لكنها تصر على نشرها حتى تكون عظة للجميع.

الواقع أننا شاهدنا مباراة رائعة فى الأداء بين النجمة جودى فنيش وبين من يقوم بدور الصحفى مارتن ماكسميث النجم ستيف كوكان فقد أبدعا فى لحظات كثيرة بالتعبير عن لحظات الغضب والسعادة والقبول بالتسامح والإنكار والرفض.. إنه ملحمة فنية وإنسانية ينتظره كثير من الجوائز فى مقدمتها اعجاب الجمهور، وجائزة أفضل ممثلة من أبوظبى.

لمسة الخطيئة

لاشك فى أن الحياة فى مجملها ورطة إنسانية نسعى فيها وخلالها إلى تقليل خسارتنا الشخصية أو التحايل عليها أو البحث عن وقت مستقطع لننال فيه حقنا فى القصاص ممن ورطونا هذا ما نلمسه بحق فى الفيلم الرائع «لمسة الخطيئة» الفائز بجائزة اللؤلؤة السوداء أحسن فيلم بمهرجان أبوظبى، وعرض قبل ذلك فى مهرجان كان السينمائى وفيه يقدم المخرج الصينى جياجانكى رؤية فلسفية لواقع الظلم القدرى الذى يتعرض له الإنسان، ورغم أن الفيلم ملىء بالقسوة والدم والانتقام، فإنك تتعاطى معها جميعا، فالفيلم الذى يحكى عن أربع حالات، جميعها تعرضت لظلم كبير اضطر أصحابها لأن يلمسوا الخطيئة، ويقعوا فيها، لكنك تغفر لهم هذه الخطايا لأنها فى الغالب دفاعا عن حق الحياة.

فتلك الأحداث شهدتها الصين بحق ثلاثة، منها جرائم قتل والرابعة انتحار، وهى تعكس بحق صورة شاملة للحياة فى الصين التى يؤكدها المخرج بأن الصين أصبحت أكثر قسوة بعد التطور الاقتصادى، فالكل يهرول وراء المال والسطوة حتى لو كان على حساب حياة الآخرين. الصين تتغير حيث تبدو صورتها من الخارج أكثر ازدهارا، بينما من الداخل هناك أناس كثيرون يواجهون أزمات شخصية بسبب عدم التكافؤ فى الثروات.

الفيلم الذى أضفى روحا مأساوية على ضحاياه يبدو وكأنه يقف على الحياد من كل الجناة، وإن كانت القصة الأولى تدين فساد موظفى الحزب الحاكم الذين يدوسون على الفقراء تحت نفوذه وسطوته، ففيها نرى مواطنا يدعى داهاى يقبل على قتل عمدة بلدته النائية المشهورة بمناجمها وعمالها المهاجرين بسبب تواطؤ مع أحد ملاك المناجم فى سرقة حقوق العمال، بل ويتطور الأمر بقتل كل من ساهموا فى سرقة الحقوق، ويبدو أن الصورة تصل لقناعة حياتية على شاشة السينما بأنه بعد تجريد الناس من كراماتهم وحقوقهم يصبح العنف الوسيلة الأسرع فى تمكين الفرد الضعيف من استعادة هيبته وحقه المفقود، وهو ما بات جليا فى الحكاية الثانية والأقوى دراميا، وهى لامرأة تدعى تشاويو، التى تعمل فى حمام للبخار والسونا، والتى تعيش قصة حب مع رجل متزوج وتدور حولها الشبهات بأنها امرأة خليعة، وعندما يأتيها رجلان إلى الحمام ويريدان أن يمارسا معها علاقة جنسية بالقوة بل ومحاولة اغتصابها لن يكون أمامها سوى الدفاع عن نفسها بقتلهما بقوة.

وفى الحكاية الثالثة نرى شابا «كاهن» يقع ضحية خطأ قدرى عندما يتسبب فى حادثة، نراه يهرب إلى الانتحار ويكشف الفيلم كم أن خسارة تلك الروح تمثل انكسارا لمفهوم معجزة وقيمة الحياة، التى تتطلب التسامح والمغفرة، وهو ما بات يرفضه المجتمع.

الفيلم يطرح فلسفة عظيمة لقيم مجتمع تنهار، وخاصة أمام تلك الفئة المكافحة من البشر التى تلمس الخطيئة رغما عنها كما شاهدنا رب العائلة الذى اغترب بحثا عن لقمة العيش لأسرته ويطلع عليه قطاع الطرق لسرقته فيقتلهم جميعا.. أصبحت امبراطورية أحفاد الزعيم ماوتسى تونج مليئة بالخطايا وتلطخ أيدى الجميع بالدماء.. جانٍ ومجنى عليه...فقير وغنى.. طيب وشرير.. حتى العشاق لم يكن لهم نصيب فى الحب.. القلوب كلها تنبض عنفا وقسوة.. كل قلوب الصين العظيمة تحطمت على أيدى المخرج جياجانكى بلمسة خطيئة، الذى طالما كانت الصين كدولة مصدر إلهام له اعترف أنه قام بتصوير هذا الفيلم خصيصا ليعبر عن أسفه لما يجرى فى بلاده فى السنوات القليلة الماضية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved