الببلاوى فى «شخصيات على مسيرتى».. قصة سيجار قذفه مبارك فى أول اجتماع بعد توليه الرئاسة

آخر تحديث: الإثنين 15 سبتمبر 2014 - 11:08 ص بتوقيت القاهرة

أحمد عويس

تعرضت بإيجاز لشخصيات لعبت أدوارا مهمة فى الحياة السياسية والثقافية فى مصر، وبطبيعة الأحوال تركت فى نفسى أثرا، بما لها من إسهامات لا يمكن تجاهلها فى الحياة العامة فى البلاد، لتعد هذه إطلالة على لقائى ببعض الرموز السياسية فى الحكم أو المعارضة، بالإضافة إلى الشخصيات العامة الفكرية، والمفكرين وأساتذة الجامعة ممن قابلتهم أثناء مسيرتى».

بهذه الكلمات تحدث الدكتور حازم الببلاوى، رئيس وزراء مصر السابق، وبها نختم حلقات أحدث مؤلفاته الصادرة عن «دار الشروق» للطباعة والنشر.

تحدث رئيس وزراء البلاد السابق فى الحلقات الماضية من أحدث مؤلفاته «شخصيات على مسيرتى» عن مراحل تكوينه المختلفة، وجذوره العائلية ومسيرته الدراسية التى مر خلالها ببلاد أوروبية وعربية، وعلاقته برجال الصحافة كالأستاذ هيكل وأحمد بهاء الدين، ورواد الاقتصاد الوطنى كسعيد النجار وفؤاد مرسى وإسماعيل صبرى، ونختتم حلقات عرض مؤلفه بما يرويه عن السياسيين وعلى رأسهم الرؤساء أنور السادات وحسنى مبارك، بالإضافة للدكتور كمال الجنزورى وشخصيات بارزة فى تاريخ المعارضة المصرية.

يستهل الببلاوى الحديث عن الشخصيات المهمة فى حياته قائلا: «كان لأغلبها تأثير كبير فى الحياة السياسية والثقافية»، ويستطرد: قابلت الرئيس السادات وكذا مبارك، وقد سجلت مقابلتى مع السادات فى كتابى «محنة الاقتصاد والاقتصاديين»، بما لا محل لإعادة الكتابة عنها.

السادات ومبارك والجنزورى

أما مبارك فقد التقيت به مرات عديدة من خلال اجتماعات اللجنة الوزارية الاقتصادية التى كان يدعو إليها لمناقشة الأوضاع الاقتصادية؛ حيث كنت آنذاك رئيسا للبنك المصرى لتنمية الصادرات، وكانت تتم دعوتى لهذه الاجتماعات التى كانت تضم إلى جانب رئيس الوزراء، وزراء المجموعة الاقتصادية ورئيسى مجلسى الشعب والشورى وأمين اللجنة الاقتصادية فى الحزب الوطنى. وكنت الوحيد فى هذه الاجتماعات من خارج المسئولين السياسيين، وأصغرهم سنّا ومقاما؛ ولذلك كان مكانى فى الجلوس فى آخر طاولة الاجتماعات والأقرب إلى باب الخروج.

يتابع الببلاوى: فى أول اجتماع لى بدأت المناقشات تتشعب وتنتقل من موضوع إلى موضوع دون حسم وتدخل فى تفصيلات فرعية، وشعرت حينذاك بأننى غريب. ولذلك، فعندما جاء الساعى لتوزيع القهوة والشاى على الحاضرين، سحبت مقعدى إلى الوراء وأخرجت سيجارا وأشعلته مع شرب القهوة. ويبدو أن الرئيس لاحظ هذا الانفصال النفسى، فتوقف عن الحديث ونظر إليَّ قائلا: «يا جماعة، أصل حازم عائد من الكويت وتعود على تدخين السيجار». ثم أخرج من جيبه سيجارا محترما وقذف به لى من أول المنضدة. وتلقفت السيجار ووضعته أمامى.

واستمر الرئيس قائلا: إنه رآنى لأول مرة عندما استدعانى الرئيس السادات، بعد أن نشرت مقالا فى الأهرام بعنوان «الاقتصاد أخطر من أن يترك للاقتصاديين»، وأشار لهذا الاجتماع وما قدمته آنذاك من رؤية للاقتصاد المصرى، وأنهى حديثه متوجها إليَّ قائلا: هل أنت فاكر هذا الاجتماع؟ فرددت عليه: «إن هذه هى المرة الوحيدة لى التى التقيت فيها بالرئيس السادات فكيف أنسى هذه الواقعة؟». «والحقيقة أن الرئيس مبارك، كان وقتئذ نائبا للرئيس، وحضر اجتماعى مع السادات حيث كان يسجل ما يدور من حوار، على نحو ما ذكرته حول هذا الاجتماع فى كتابى سابق الإشارة إليه».

ويستكمل رئيس الوزراء السابق: بعد ذلك تعددت اجتماعات هذه اللجنة الاقتصادية والتى كنت أحضرها، وكان يكرر فى أحاديثه تعبيرا ذكرته فى إحدى مقالاتى: بأننا عودنا أفراد الشعب على الاعتماد الكامل على الحكومة، وكأنهم «عيال الدولة». ولكنه كان يحاول كثيرا إثارتى، قائلا بأنى أكتب أشياء غير مفهومة ومعقدة، ويقول متسائلا: «لماذا تكتب ما لا يفهم؟». وبطبيعة الأحوال فقد كنت أفضل الصمت وأقول فى داخلي: ولماذا لا تفهم أنت ما يكتب؟

لم تخلُ هذه الاجتماعات من فائدة، هكذا يروى الببلاوى فى مؤلفه ويوضح: من مميزاتها أن قانون إنشاء البنك المصرى لتنمية الصادرات الذى كنت على رئاسته كان يتضمن أن يقوم البنك بوضع «نظام للتأمين على الصادرات». وقد بدأ البنك نشاطه بالدور المصرفى، وحاولت مرارا البدء فى نشاط «التأمين على الصادرات». وكانت وزارة الاقتصاد متأخرة فى الاستجابة، فانتهزت فرصة أحد هذه الاجتماعات وشرحت للحاضرين أن دعم الصادرات لا يتوقف فقط على توفير التمويل المناسب، بل لا بد أن يتضمن كذلك نظاما للتأمين على المصدِّر للحصول على حقوقه من المستورد إذا تأخر فى السداد.

ويضيف: هذا النظام موجود فى كل الدول المصدِّرة، فالمصدِّر إذا قام بكل التزاماته وصدَّر السلعة للمستورد مع منحه مهلة للسداد، فإنه لا ينبغى أن يعاقب إذا أخل المستورد بالتزامه بالدفع، ذلك أن المنافسة بين المصدرين لا تقتصر على تخفيض أسعار السلع المصدَّرة وإنما على ما تقدمه من تسهيلات للدفع للمستوردين. ومصر تواجه منافسة مع غيرها من المصدرين ليس فقط لارتفاع أسعار السلع المصرية المصدرة، وإنما لعدم قدرة المصدر المصرى على منح تسهيلات فى الدفع للمستورد الأجنبى، نظرا لعدم وجود نظام للتأمين على الصادرات. وبعد أن شرحت الموضوع، استوعب الرئيس الفكرة، وتوجه إلى وزير الاقتصاد متسائلا: ولماذا التأخير فى استكمال هذا النظام؟ وقد كان أن استجاب الوزير واستكمل نظام ضمان أو تأمين الصادرات نتيجة لهذا الحديث فى ذلك الاجتماع.

يتابع: على أن التقائى بالرئيس مبارك لم يقتصر على الاجتماعات الوزارية، بل قابلته فى اجتماع خاص فى منزله بناء على طلبه، فبعد صدور تعديل لقانون الاستثمار آنذاك، طلب منى الدكتور مصطفى الفقى إبداء رأيى فى القانون فى صورته الجديدة. وبعد قراءته، أبلغته بأن القانون جيد بصفة عامة، ولكن هناك نقطة واحدة كان ينبغى أن يتعرض لها، ومن الممكن معالجة ذلك عن طريق اللائحة التنفيذية للقانون. وبعدها بأيام قال لي: إن الرئيس يريد مقابلتك فى منزله، وحدد لى موعدا للقاء فى صباح أحد الأيام، وكان ذلك، على ما أذكر، فى بداية صيف 1990.

يقول الببلاوى فى «شخصيات على مسيرتي»: ذهبت إلى لقاء الرئيس فى منزله، واستقبلنى وجلسنا سويّا فى الحديقة وشرحت له وجهة نظرى بالنسبة لقانون الاستثمار والإصلاح المطلوب عن طريق اللائحة التنفيذية. وتعددت بعد ذلك مسارات الحديث، ولا أذكر منها إلا أمريْن على وجه التحديد. أما الأمر الأول، فهو أنه بدأ يسألنى عن رأيى فى وزراء الاقتصاد السابقين، مشيرا إلى بعضهم بكثير من الازدراء قائلا: إن هذا الوزير لا يفهم، وذاك متردد. ووجدت أنه يريد أن يجرنى إلى ما لا أحب.. بالطعن فى وزراء هم فى نهاية الأمر من أصدقائى ومعارفى، ورأيت أن أتخلص من هذا المأزق، قائلا: إن أيـّا من كان وزيرا للاقتصاد فى مصر فهو غلبان ومظلوم، إذ يحاسب على أمور اقتصادية ليست تحت سلطته، فقرار لوزير التموين أو لوزير العمل مثلا حول أسعار بعض السلع أو الأجور يؤثر على أحوال الناس الاقتصادية نتيجة لقرارات تتخذ خارج وزارة الاقتصاد، كذلك فإن معاونى الوزير من كبار الموظفين داخل وزارة الاقتصاد ليسوا دائما على أعلى مستوى من الناحية الفنية. وذكرت له، على سبيل الإقناع، قائلا: إنه ربما باستثناء وزارتى الخارجية والدفاع، فإن الجهاز التنفيذى المعاون للوزراء لا يتمتع بالكفاءة المناسبة لإعطاء الوزير الدراسات الفنية والمشورة المناسبة.

أما وزارة «الخارجية» فإنه نظرا لما يتمتع به أبناؤها من علاقات مستمرة مع الأوساط الخارجة فضلا عن الإقامة فى دول مختلفة، كل هذا يسمح لهم بأن يكونوا معاونين على درجة عالية من الفاعلية والكفاءة. وبالمثل فإنى أعتقد ــ وإن كنت غير متأكد ــ من أن الجهاز التنفيذى لوزارة الدفاع لا بد أن يكون مهنيّا على مستوى مرتفع، نظرا للمخاطر التى يتعرض لها الأمن الوطنى وضرورة حصوله على أفضل أسباب التدريب والمعدات. وبهذا الأسلوب فى تحويل مسار الحديث تجنبت الفخ الذى نصبه لى بالطعن فى زملاء فى المهنة وذلك فى غيبتهم. وكان رده قاصرا على ما ذكرته عن كفاءة الجهاز الوظيفى لوزارة الخارجية، قائلا: «خارجية إيه!! أنا الذى أمشى كل شيء فى وزارة الخارجية.

أما النقطة الثانية والتى يتذكرها الببلاوى فى ذلك الحديث فتتعلق بالديون العسكرية المستحقة للولايات المتحدة. فذكرت له أن هناك متأخرات فى سداد هذه الديون، وأن هذا يمكن أن يشكل مشكلة كبرى لمصر، إذا استمر هذا التأخير فى السداد. فقلت له: إنه لا يمكن فى مثل هذه الحالة الاعتماد على دعم الحكومة الأمريكية لنا، ذلك أن القانون الأمريكى يلزم رئيس الجمهورية بمنع أى مساعدات للدولة التى تتخلف عن دفع ديونها للحكومة الأمريكية، أيـّا ما كان السبب. وأن هذا القانون سوف يفرض بالضرورة على كل رئيس أمريكى. ولذلك فإننا لا بد أن نجد طريقة لعلاج هذه المشكلة، وأن هناك، فى الأفق، ما يمكن أن يعطى مصر فرصة للخروج من هذا المأزق. فإسرائيل تواجه مشكلة مماثلة، فعليها ديون مستحقة للخزانة الأمريكية، وهى أيضا متأخرة فى السداد، وقد لجأت إلى حيلة قانونية تجنبها التعرض للقانون الأمريكى الذى يمنع الإدارة الأمريكية من إعطاء قروض أو مساعدات للدولة التى تتخلف عن السداد لأكثر من مدة معينة. وتتلخص هذه الحيلة فى إقناع الحكومة الأمريكية بإعطاء ضمان ـ وليس قرضا ـ لإسرائيل لكى تمكنها من الاستدانة من البنوك الأمريكية ـ مع ضمان الخزانة الأمريكية ـ لهذه القروض الخاصة.

ويضيف الببلاوى موجها حديثه لمبارك: بذلك فإن إسرائيل عندما تتأخر فى السداد للبنوك الأمريكية، فإنها لا تعتبر أنها أخلت بالتزاماتها أمام الحكومة، والبنوك الأمريكية الخاصة لا تخسر شيئا هى الأخرى؛ لأنها تتمتع بضمان الحكومة الأمريكية. وقلت: إن البنوك الأمريكية تتصل بى باعتبارى رئيسا للبنك المصرى لتنمية الصادرات، وبغيرى من البنوك لكى تقدم هذه البنوك القروض للحكومة المصرية بضمان الخزانة الأمريكية، وتقوم الحكومة المصرية بالسداد للحكومة الأمريكية، وحينئذ فإن التأخر فى السداد لن يمثل إخلالا للدولة المصرية إزاء الحكومة الأمريكية، ويمكن بذلك تعديل شروط القروض من هذه البنوك وبما يتفق مع قدرات المدين سواء فى إسرائيل أو فى مصر.

يستطرد الببلاوى: هكذا ذكرت للرئيس أن مصر معرضة لخطر مع نهاية العام لتطبيق جزاءات الخزانة الأمريكية، إذا استمر تخلف مصر عن الوفاء للحكومة الأمريكية. وقلت للرئيس: إن المطلوب هو فقط فتح باب الحوار مع هذه البنوك وإيجاد حل قبل أن تضطر الحكومة الأمريكية إلى وقف المساعدات نهائيّا عن مصر خضوعا للقانون الأمريكى.

وبعد أن استوعب الرئيس المشكلة، اتصل أمامى بالتلفون مع الدكتور الجنزورى وكان حينذاك وزيرا للتخطيط والتعاون الدولى ومسئولا عن العلاقات المالية مع الولايات المتحدة. وقال للدكتور الجنزورى وأنا جالس أمامه فى الحديقة قال له: إن حازم الببلاوى كان معى منذ أيام (لاحظ أن الرئيس لم يقل إننى معه الآن فى نفس لحظة المكالمة)، وإنه عرف منه طبيعة الوضع المالى المترتب على التأخير فى السداد للديون الأمريكية، وإن هناك عددا من البنوك الأمريكية على استعداد لترتيب قروض بديلة عن القروض الحكومية، وهى تتمتع بضمان الخزانة الأمريكية، وإن هذه البنوك على استعداد لتقديم هذه القروض لمصر، وكل ما تطلبه هى أن ترد الحكومة المصرية على هذه البنوك للبحث عن مخرج، وإنها على استعداد للمساعدة.

وأردف الرئيس مبارك قائلا: «إننى سوف أتصل بالدكتور حازم الآن لكى يزورك فى المكتب لتعطيه ملف الديون الأمريكية، لكى يقدم تصوره عن الموضوع». وبعد انتهاء المكالمة طلب منى الرئيس الذهاب مباشرة إلى مكتب الجنزورى لطلب الملف ودراسته، وإبداء الرأى له.

وتركت الرئيس وتوجهت إلى مكتب الدكتور الجنزورى. فرحب بى ترحيبا كبيرا وأصر على إعطائى سيجارا فخما، وسألنى: «من أين أتيت؟». وهنا تذكرت كلمات الرئيس بأنه قابلنى «منذ عدة أيام»، فقلت للدكتور الجنزورى: «طبعا أنا قادم من البيت». فرد بابتسامة: «لا طبعا، إنت جاى من عند عمنا الكبير». فقلت له: «فعلا». وشرحت له القصة. واستمرت المناقشة فترة، وأكد لى أنه يتابع الموضوع وتطرق إلى تفصيلات عديدة وإلى موضوعات متفرقة. وانتهت المقابلة ولم يشر إلى إعطائى أى ملفات. وتواعدنا على مواصلة الحديث.

ينتقل الببلاوى بعد ذلك للحديث عن «مرحلة مختلفة»، خلال شهور قليلة أعقبت المدى الزمنى للأحداث السابقة، فيقول: فى أغسطس من نفس السنة غزت العراق الكويت، وتمت مجموعة من الإجراءات لتحرير الكويت بمشاركة الجيش المصرى، وبعد التحرير انتهت الأزمة المالية لمصر، حيث قامت الحكومة الأمريكية بإلغاء الديون العسكرية الأمريكية، كما قامت دول الخليج بالتنازل عن ودائعها بالبنوك المصرية لصالح الحكومة المصرية، فضلا عن منح من دولة الكويت لمصر، وبعدها بشهور قابلت الدكتور الجنزورى فى مناسبة اجتماعية، وذكرت له أننى السبب فى بقائه فى الحكومة، لأن الأيام أكدت نجاح أسلوبه فى معالجة أزمة الديون الأمريكية لمصر بالانتظار وعدم التسرع بالاقتراض من البنوك الأمريكية. وقلت له أيضا: إن هذه النتيجة هى «ضربة حظ»، وإن «الحظ»، أحيانا، أفضل من التحليل المنطقى للأمور.

قيادات المعارضة

وعن علاقاته برموز المعارضة فيقول، بعد هذه الإشارة إلى مقابلاتى مع رجال السلطة، فلا بأس من الإشارة إلى لقاء آخر مع أحد السياسيين من رجال المعارضة. وهذه المرة هى لقاء مع فؤاد سراج الدين رئيس حزب الوفد. وكان اللقاء فى صيف 1983 وذلك بعد وفاة الرئيس السادات والذى حارب حزب الوفد واضطره إلى حل نفسه أو تجميد نشاطه. وكان المرحوم عبد الحميد حشيش أحد زملائى فى البعثة فى باريس ومن الناشطين فى حزب الوفد وكان يلح عليَّ للانضمام للحزب.

يضيف: كذلك كانت علاقتى طيبة بإبراهيم فرج نائب رئيس حزب الوفد، وكنت أراه من حين لآخر فى قهوة بترو على كورنيش الإسكندرية، وحيث كان يجلس فى نفس القهوة توفيق الحكيم أيضا، وفى هذه الفترة كان حزب الوفد يفكر فى العودة إلى النشاط السياسى وكان إبراهيم فرج قد عرض عليَّ الدخول فى الحزب وأن أنضم إلى اللجنة العليا للحزب عند عودته. واعتذرت فى ذلك الوقت. وفى هذه الأيام سألنى عبد الحميد حشيش عما إذا كنت أرغب فى مقابلة فؤاد باشا سراج الدين، فقلت له: لا بأس. وحدد موعدا للقاء فى شقة الباشا بالإسكندرية. وذهبنا عبد الحميد حشيش ومحمود أباظة وأنا للمقابلة.

وقد استرعى انتباه الببلاوى كما يروى فى كتابه أن المنزل كان متواضعا والأثاث كان متهالكا، ولا يتفق مع ما كنت أسمعه عن الفخامة التى يعيش فيها أغنياء العصر الفائت. وبعد الدخول قادتنا سيدة متوسطة العمر إلى شرفة مغلقة بها جلسة مريحة من الكراسى وأريكة قديمة، ثم جاءت بنت صغيرة وقدمت لنا شربات، وبعد حضور الباشا جاءت نفس الفتاة مع القهوة. وكانت هذه هى المرة الأولى والأخيرة التى أقابل فيها فؤاد سراج الدين. وكنت قد رأيته مرة سابقة واقفا على رصيف محطة سيدى جابر بالإسكندرية، وقد دهشت يومها عندما رأيت ناظر المحطة يتقدم لتحية الباشا وانحنى لتقبيل يده! وكان هذا قبل عشر سنوات من هذه الزيارة. وكان الباشا فى هذه الجلسة يلبس جلبابا مغربيّا فوقه روب دى شامبر.

واكتشفت أنه ليس طويلا وأنه يميل إلى السمنة بشكل واضح، وكان فى صحة جيدة ومتوقد الذهن. ودار الحديث عن عودة الوفد، وكانت الفكرة المطروحة هى أن يتقدم حزب الوفد، بمناسبة ذكرى وفاة سعد باشا زغلول ومصطفى النحاس خلال شهر أغسطس بطلب لعقد اجتماع حزبى، وعندما ترفض وزارة الداخلية يرفع الحزب دعاوى قضائية أمام مجلس الدولة لأن الحزب لم يحل نفسه، وإنما اتخذ قرارا بتجميد نشاطه فقط، وهكذا يعرض الأمر على المحكمة للنظر فى مدى سلامة حل الحزب وبذلك يعود الحزب إلى الحياة السياسية بحكم قضائى.

وذكر فؤاد باشا أنه استقبل بعض القانونيين مثل الدكتور سيف الدولة والدكتور نعمان جمعة، وأنهم أبلغوه أن قرار لجنة الأحزاب بحل الحزب هو قرار إدارى يجوز الطعن فيه أمام القضاء الإدارى. وهنا أشرت إلى أن الاعتماد على قرار الداخلية برفض اجتماع الحزب بمناسبة إحياء ذكرى سعد والنحاس قد لا يؤدى إلى النتيجة المطلوبة وهى الحكم بعودة الحزب، لأن الداخلية قد تبنى قرارها بالرفض على أسباب أمنية تبرر بها رفض الاجتماع، وبذلك لا تُعرض على المحكمة مسألة «وجود أو عدم وجود الحزب» وإنما قد يقتصر الأمر على مناقشة مدى جدية الاعتبارات الأمنية، وهل هى أسباب مبررة أم لا؟ ولذلك اقترحت عليهم اقتراحا آخر يفرض على المحكمة أن تنظر فى مدى شرعية وجود الحزب من عدمه. وذلك لأن الدولة كانت قد أعلنت عن نيتها فى إجراء انتخابات «للمجالس المحلية» فى نوفمبر التالى، حيث كانت الانتخابات المحلية فى ذلك الوقت تجرى على أساس «الانتخاب بالقائمة».

ولذلك فقد اقترحت الانتظار حتى إعلان موعد الانتخابات المحلية وتقديم قوائم الحزب للترشح لهذه الانتخابات، وهنا سوف ترفض الداخلية قبول ذلك لأن الحزب لم يعد قائما. لذا ترفع الدعوى للطعن فى قرار الوزير أمام القضاء الذى سوف يضطر للنظر فى مسألة وجود أو وجود الحزب قانونا. وقد كان.

وانتظر الحزب حتى الانتخابات المحلية وتقدم بقوائمه، ورفضت الداخلية، وقام الحزب برفع دعوى أمام مجلس الدولة، حكمت فيها المحكمة لصالحه. ولذلك كثيرا ما كنت أعاير بعض أصدقائى من حزب الوفد بالقول بأننى أعدت الحزب إلى الحياة السياسية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved