الروائية العراقية المرشحة للبوكر إنعام كجه جى لـ«الشروق»:الغضب هو ما دفعنى إلى الكتابة

آخر تحديث: الثلاثاء 19 فبراير 2019 - 1:58 م بتوقيت القاهرة

إسماعيل الأشول

ناشر أولى رواياتى حاول مساومتى.. ولا أدرى بمن تأثرت من الأدباء
بعد أربعين سنة من الهجرة إلى فرنسا اعتدت كل شىء إلا اشتياقى للنخيل
أكبر جائزة لى كانت يوم رفعوا لافتة باسمى فى شارع المتنبى ببغداد
شعرت أثناء تصوير «هدية وديع إلى سلمى» بأننى محظوظة للحاقى ببقايا زمن كان راقيًا


بعد عقود من احتراف الصحافة، رأت أن ما بداخلها يحتاج إلى شكل آخر من الكتابة، فلجأت إلى عالم الرواية الرحب. هكذا تحكى الصحفية والروائية العراقية إنعام كجه جى قصة تجربتها مع الأدب.


لكن ذلك الانتقال لم يكن هادئا، بل جاء ليعلن عن اسم صاحبته كجملة مفيدة تعنى الاقتدار والبراعة فى المشهد الأدبى، فالروائية المرشحة لنيل جائزة البوكر العام الحالى، صعدت، فى حدث غير مسبوق لكاتبة عربية، القائمة القصيرة للجائزة الأدبية الشهيرة ثلاث مرات.


لم تفز إنعام فى المرتين السابقتين، لكنها كسبت قراء جددا بامتداد الوطن العربى، تابعوا أعمالها بشغف كبير.


كيف مضت حكايتها مع كتابة الرواية، وكيف أصدرت أولى رواياتها فى عام 2005، ثم ماذا عن الوطن والغربة والحنين والذاكرة فى حياة الروائية المقيمة فى فرنسا منذ أربعة عقود.. أسئلة طرحناها، ووجدنا إجاباتها لدى صاحبة «النبيذة» فى الحوار التالى:

• قلتِ لى قبل إجراء الحوار إنك فى الأصل صحفية، وإن ما حرك فيك الرغبة فى الكتابة الأدبية كان الغزو الأمريكى للعراق.. فكيف جرى ذلك الانتقال من فضاء الصحافة إلى عالم الأدب؟
ــ الصحافة كانت الظهر الذى أستند إليه فى الكتابة الروائية. من تجاربى فيها تنبثق الحكايات التى لم تنل كامل حقها من التدوين، ومن دفاتر ملاحظاتى وصور كاميرتى تطلع الشخصيات الغارقة فى نهر الذاكرة، وتغمز لى وتمد أيديها، تغرينى بانتشالها من واقعها وبعثها فى فضاءات الخيال.
للممارسة الصحفية الطويلة فضائل الوضوح والإيجاز. وكنت أحب مهنتى، وما زلت، ولا أنوى أن آتى لها بضرة، لكن احتلال بلدى زلزل كل العراقيين. وكانت ترجيعات الزلزال تحتشد فى داخلى ولابد من التنفيس عما يعتمل فى النفس من غليان. وجاء التنفيس على شكل رواية. لعلها طريقتى المتواضعة فى صد الغزو على قدر طاقتى، وترسيخ جوانب من حياتنا الثرية التى تتواطأ جهات عديدة لتبديدها وتجريفها. لا أدرى بمن تأثرت من الأدباء فقد قرأت الكثير الكثير بحكم مهنتى وهوايتى.

• نحن كقراء لا نحصل من تجربة أى كاتب إلا على ثمرتها الأخيرة.. فكيف كان الطريق إلى إخراج رواياتك إلى النور.. هل قررت كتابة رواية فكتبتها، أم كيف جرى الأمر؟
ــ نعم دارت الفكرة فى رأسى واختمرت وجلست لأكتبها. كنت مستجدة فى الكتابة على الحاسوب لكننى قررت تجربة الكتابة على الشاشة، فى خيانة صريحة ومقصودة للأقلام والأوراق. ولم أندم لأننى اكتشفت ما تتيحه التكنولوجيا من تسهيلات فى التحرير والمحو والتأخير والتقديم والتصحيح والحفظ واختصار الوقت. واليوم، ما زلت أنقر على لوحة المفاتيح بإصبع واحدة لكننى سريعة فى النقر. بعد ذلك أخذت المخطوطة إلى ناشر فى الأردن وحاول مساومتى على عدد أشتريه من النسخ. ورفضت فانصاع لى ونشرها بدون مقابل. أذكر أننى قلت له إننى لست صغيرة ولى عمر فى الصحافة وقد كتبت الرواية على كبر وجاءت مثل مولود بعد سن اليأس، فكيف تريد منى أن أبيعك طفلى البكر؟

• كان لسعد الله ونوس رأى بأن الحرية هى الأم الرءوم للإبداع، لكن كلامك عن كون الألم هو ما دفعك دفعا إلى الكتابة الأدبية يجعلنا نميل إلى رأى محمد الماغوط الذى رأى بأن الألم هو تلك الأم التى تشعل فى داخلنا جذوة الإبداع.. فكيف ترين الأمر من واقع تجربتك؟
ــ لم أقل إن الألم هو ما دفعنى إلى الكتابة بل الغضب. كانت صورة العراق فى نشرات الأخبار تختصر بأنه بلد حروب وعنف وعقوبات اقتصادية وانقلابات وإعدامات ولجان تفتيش وأسلحة دمار شامل. وكنت ناقمة على تلك الصورة وسعيت لتقديم زاوية جديدة للنظر، تتوقف عند البشر وتدخل على النساء والرجال فى البيوت وتحكى عن مجتمع ثرى بحضارته وثقافة أبنائه وبناته. عن شعب أخذوه رهينة وعاملوه كبئر بترول لا غير.

• كان يوسف إدريس يرى فى الإطراء للكاتب فرحة تشبه فرحة الطفل حين يتلقى من أحدنا قطعة شيكولاته.. وأكبر الإطراء اليوم يأتى من الجوائز الأدبية.. ورواياتك وصلت أكثر من مرة إلى القائمة القصيرة البوكر.. كيف تنظرين إلى الجوائز؟
ــ تجاوزت الستين يا زميلى وكبرت على الشوكولاته. وأنا فى الشوط الأخير من الطريق، أتأنى وأعرف مواضع العقبات. وكانت أكبر جائزة لى يوم رفعوا فى شارع المتنبى فى بغداد لافتة تحمل اسمى وغلاف روايتى «طشارى» عند دخولها القائمة القصيرة للبوكر قبل سنوات.

• شاهدنا فيلمك «هدية وديع إلى سلمى» حول إهداء الصحفى والأديب والمترجم المصرى وديع فلسطين مكتبته إلى صديقته اللبنانية سلمى مرشاق.. وعلى الرغم من عذوبة اللوحات المرئية التى قدمها الفيلم إلا أن الألم كان صارخا فى أكثر من لوحة فيه.. احك لنا عن تفاصيل تلك التجربة؟
ــ لماذا تكرر الحديث عن الألم؟ أرى أن الشيخوخة حق على كل الكائنات. وإذا كان فى الفيلم مما يبعث على الشجن فهو أين كنا وأين أصبحنا. هل تسمح حياتنا العربية الحالية بصداقات ومراسلات أدبية تمتد لنصف قرن مثل تلك التى عقدها الأستاذ وديع فلسطين؟ هل بيننا طالبة مجتهدة مثل السيدة سلمى مرشاق سليم قادرة على حفظ الود ومد حبل الوفاء مع أستاذها على مدى ستين عاما؟ تسأل عنه وتكاتبه وتسافر من بيروت إلى القاهرة لزيارته والاطمئنان عليه والاعتناء بهديته الثمينة لها: مكتبة نادرة ومئات الرسائل بخطوط كبار أدباء العربية؟
لست سينمائية لكن ما كان يمكن لى أن أمر بهذه الحكاية دون توثيقها بالصوت والصورة. فمهما كتبت واجتهدت روائيا فلن تعوض الكلمات عن صوت وديع فلسطين وهو يتحشرج أسفا على فراق مكتبته. كما أن أى وصف لن يرقى إلى التماعة عينى الست سلمى وهى تسترجع ذكريات 1948، السنة التى ركبت فيها الطائرة للمرة الأولى من مطار ألماظة، وهى السنة التى ضاعت فيها فلسطين وكانت فاتحة تعارفها على العم وديع.

• بم شعرت وأنت تستمعين إلى الحكاية من فم وديع وسلمى أثناء التصوير؟
ــ بأننى فخورة لمعرفتى بهما. وبأننى محظوظة للحاقى ببقايا زمن كان راقيا.

• ألم تفكرى بأن الرسائل المتبادلة بين وديع فلسطين والأدباء العرب، والتى ضمتها مكتبته المهداة إلى سلمى مرشاق، من الممكن أن تكون موضوعا لعمل ما؟
ــ تعلمت من التجربة أن الفوز الحقيقى قد لا يكون فى السبق الصحفى بل فى متعة أعمق وأبقى. والسبق فى هذه الحالة هو أن أدع بطلى الحكاية يرويانها بلغتهما. يكفينى شرف استقبال المكنونات التى لم يبوحا بها من قبل.

• خلال مناقشة الفيلم أثير نقاش حول قيمة المكتبات، فما الذى تمثله المكتبة بالنسبة لإنعام كجه جى؟
ــ هى وسادتى التى أسند لها رأسى ثلاث مرات فى اليوم: عند الاستيقاظ، وبعد الظهر، وقبل النوم. وعندما أدخل بيتا لا يحوى رفا للكتب أشعر على الفور بالرثاء لساكنيه، مهما كان الأثاث فخما والصالات وسيعة. إنهم لا يعرفون أى لذة تفوتهم.

• أثير خلال النقاش أيضا حديث حول الذاكرة فى حياتنا.. ما الذى تثيره كلمة الذاكرة بداخلك حين تسمعيها من أحد؟
ــ أوائل الثمانينيات، حاولت إطلاق مجلة بعنوان «ذاكرة». بل طلبت من الصريق الفنان محمد سعيد الصكار أن يخط لى العنوان ويصمم الشكل. كنت أشعر بضرورة توثيق تجارب الناس العاديين وتسجيل حكاياتهم قبل فوات الأوان. لا تهمنى مذكرات السياسيين والنجوم قدر ما أشعر بقيمة التجارب التى عاشتها امرأة دخلت صف محو الأمية بعد تخرج أبنائها فى الجامعات، أو عامل شاى فى كافتيريا حزب عقائدى يشهد المزايدات والمكائد. أؤمن أن كل مسن يرحل دون أن يلقى للأجيال بحمولة ذاكرته هو كنز يغرق فى قاع المحيط.

• تلعب الذاكرة دورا كبيرا بالنسبة لأى كاتب يعيش بعيدا عن موطنه.. وأنت تعيشين فى فرنسا منذ عام 1979.. فكيف تمضى علاقتك بالذاكرة؟
ــ لا أبالغ إذا قلت إن ذاكرتى هى وطنى. وأظن أن المغترب يلجأ لها لطرد الوحشة. لذلك أواصل شحذ ذاكرتى وأدارى على شعلتها لكى تبقى متقدة. وأنا أصلا أعشق القديم والأنتيكا. وعندما أضفت الكتابة الروائية إلى هواياتى صارت الذاكرة نبعا يسقى أزهار الخيال ويشدها إلى التربة لكى لا تشطح زيادة عن اللزوم.

• الغربة.. الحنين.. الشوق.. مفردات تتردد عند كل كاتب مهاجر.. فماذا تقولين عن كل مفردة من الثلاث؟
ــ بعد أربعين سنة اعتدت كل شىء إلا اشتياقى للنخيل.

• تظل المرأة بطلا فى أغلب رواياتك.. حدثينا عن ذلك؟
ــ أرى أن العراق هو البطل وما المرأة سوى روحه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved