قلعة غزل المحلة.. 7 سنوات من الاعتصامات للمطالبة بالحقوق ومحاربة الفساد

آخر تحديث: الإثنين 17 فبراير 2014 - 10:36 ص بتوقيت القاهرة
محمد نبيل حلمي - تصوير- صبري خالد

أمسك العامل بذراع زميله وهما يعبران البوابة الرئيسية لشركة الغزل والنسيج بالمحلة، وانهمكا فى حوار هادئ، وقال أحدهما للآخر «يعنى هو لازم كل مرة ناخد فيها حقوقنا تكون باعتصام؟»، فرد زميله «والله العيب على اللى واكلين قوتنا مش علينا».. المشهد يلخص أحد جوانب صورة الإضراب الذى ينظمه عمال غزل المحلة، ويدخل أسبوعه الثاني، للمطالبة بصرف الأرباح المتأخرة، وإقالة رئيس الشركة القابضة للغزل فؤاد حسان، والمفوض العام لإدارة الشركة عبدالفتاح الزغبة.

«الشروق» رصدت من قلب عاصمة الصناعة المصرية بلد الغزل والنسيج، أحوال عمال الشركة البالغ عددهم نحو 20 ألف عامل، وتبلغ مساحة الأراضي التي تمتد عليها مصانعها ومنشآتها المختلفة نحو 650 فدانا.

لا تبدو مسألة الدخول إلى ساحة الاعتصام بميدان «طلعت حرب» داخل شركة المحلة مسألة سهلة، إذ يحول الأمن الإدارى دون ذلك، وبمجرد أن يعرف أفراد الأمن الصفة الصحفية لمن يريد الدخول، يرفضون بشكل حاسم مجرد السماح بالنظر إلى الداخل، حتى إن طلبا بمكالمة هاتفية للمسئول عن التأمين يرفضونه، قبل أن يعرف الصفة أو الجهة التى ينتمى إليها الصحفى.

دقائق معدودة وبدأ بعض العمال المضربين فى الخروج من الشركة، وبمجرد أن عرفوا أن بعض الواقفين فى الخارج من الصحفيين، بادروا بتسهيل المهمة ودخلوا فى مشادات مع أفراد الأمن، انتهت بانتصار إرادة العمال والسماح للصحفيين بالدخول إلى قلب الشركة.

مع تجاوز البوابة الأولى يظهر المبنى الإدارى ذو اللون الأصفر الذى يقع على الجانب الأيسر، فيما تظهر فى المواجهة بوابات حديدية ضخمة ومرتفعة زرقاء اللون، مغلقة بسلاسل حديدية، ومن خلفها يقف العمال المضربون عن العمل والذين يحاول بعضهم تسلق الأبواب والهتاف بمطالب الاعتصام.

عبر بوابة جانبية يمكن للغرباء دخول ساحة الاعتصام التى تحمل اسم وتمثال الاقتصادى المصرى الراحل، طلعت حرب، الذى أسس «غزل المحلة» فى العام 1927، برأسمال يقدر بنحو 300 ألف جنيه، تمت زيادتها فى أعقاب ثورة يوليو إلى نحو 4 ملايين جنيه، ويبغ رأس المال العامل للشركة بحسب أرقام قطاع الأعمال العام فى موازنة عام 2011، نحو 595 مليون جنيه.

وقال صلاح مشعل فنى صيانة لـ«الشروق» إنه كان من المقرر صرف مكافأة الأرباح المستحقة للعاملين بـ«غزل المحلة» فى سبتمبر من العام الماضى، إلا أن تأخر اعتماد الموازنة دفع الإدارة إلى تأجيل صرفها فى مطلع العام 2014، وهو ما لم يتم.

وتابع مشعل: فى يناير كان من المفترض أن ننظم إضرابا للمطالبة بحقوقنا، إلا أن ظروف الاستفتاء على الدستور، ومخاوفنا من أن يتم استغلال الإضراب سياسيا واتهام العمال بالتبعية لجماعة الإخوان أو غيرها، فقد قررنا تأجيل الاحتجاجات، وإعطاء فرصة للإدارة التى وعدت بصرف المتأخرات فى شهر فبراير.

وأضاف أنه ومع مرور الأسبوع الأول لم يكن قد تم صرف أى من الأرباح للعمال المفترض أن يصرفوا أرباحهم فى الأسبوع الأول من الشهر، فيما كان مقررا أن يصرف بقية المشرفين والفنيين أرباحهم فى الأسبوع الثانى، الأمر الذى دفع العمال للإضراب.

30 ألف جنيه

فى وسط ساحة الاعتصام، دخل أحد العمال على حلقة نقاشية من زملائه المجتمعين، وبعد السلام المعتاد بادرهم بالسؤال: «عاملين إيه يارجالة؟»، فسارع أحدهم بالرد: «عاملين جمعية بثلاثين ألف جنيه»، لينفجر بقية الواقفين فى الضحك بصوت عال، وهو ما بدا أمرا غريبا فَسَّرَه العم فتحى العجمى العامل بمصنع القطن الطبى بقوله إنه كان من المقرر أن يتم استئناف العمل وتعليق الإضراب فى صباح يوم 15 فبراير والبدء فى صرف الأرباح المتأخرة، لكن رئيس الشركة والمفوض بإدارتها خرج فى لقاء تليفزيونى تعليقا على الأزمة قال فيه، إن متوسط أجر العامل يبلغ سنويا نحو 30 ألف جنيه، وأقل عامل يبلغ دخله 1250 جنيه شهريا.

وأضاف أن حديث رئيس الشركة أثار غضب العمال وأصروا على استمرار الإضراب، والمطالبة بتطبيق الحد الأدنى للأجور على جميع العاملين بغزل المحلة، وتنفيذ مطالبهم بإقالة رئيس الشركة القابضة للغزل، فؤاد عبدالعليم حسان.

السخرية التى بدأ بها العمال حديثهم لم تدم طويلا إذ غطتها مرارة الديون، حيث قالوا إن أغلبهم يحصل عليها من بنوك مختلفة، مطالبين إدارة الشركة بالاستفتسار من إدارات بنكى «مصر والأهلى المصرى» عن عدد عمال الشركة الذين حصلوا على قروض لا يستطيعون سدادها بسبب ضعف الدخل.

يُجمع كثير من العاملين الذين تحدثوا لـ«الشروق» على أن آخر تعيينات فى الشركة كانت فى العام 2005، وتوقفت حتى عام 2013، إذ تم تعيين 30 شخصا من أبناء العاملين، فضلا عن ان بعض العاملين مثل محمد رزيق، عامل إنتاج، قال إنه لم تتم ترقيته منذ ثلاثين عاما، وأكد عبدالله همام عامل، أنه تعرض لنفس المشكلة.

شيك القبض و«المليم»

يُمسك كل عامل فى يده بورقة تشبه فاتورة الكهرباء فى الشكل واللون، لكنها أكبر حجما، ومكتوب أعلاها قسيمة شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى «قسيمة المرتب»، وتعرف فى أوساط العمال باسم «شيك القبض».

واطلع عدد كبير من العمال «الشروق» على أكثر من 10 نسخ مختلفة من «شيك القبض» الخاص بعدد من الموظفين فى درجات مختلفة، ومعظمها حديثة الصدور.

وتبدو تفاصيل الراتب الشهرى بالغة الدلالة فيما تحمله من تفاصيل بشأن مستوى معيشة العمال، إذ يبلغ بند بدل الغداء نحو 210 جنيهات بواقع 7 جنيهات فقط لكل يوم، فيما ينقسم بند غلاء المعيشة إلى عدة مستويات، فيحصل غير المتزوج على 4 جنيهات والمتزوج 6 جنيهات والعائل لابن واحد 8 جنيهات، والعائل لفردين 10 جنيهات، وهى الأرقام التى يقول العمال إنها لم تتغير من سنوات طويلة، فى مقابل ارتفاع أسعار السلع فى مصر لأضعاف مضاعفة دون أى تغيير فيما يحصل عليه العمال.

وبدا لافتا أن «شيك القبض» يحمل فى معظم بنوده أرقاما بالمليم، وهو ما قال بعض العمال إنهم لا يحصلون عليها إطلاقا بسبب إلغاء تلك التعريفة النقدية، مؤكدين أن مجموع تلك «الملاليم» يمثل مبلغا كبيرا فى شركة يبلغ العاملون فيها نحو 20 ألف شخص، ولا يعرفون مصير تلك الأموال.

السيسى

على الرغم مما قد يبدو سطحيا من أن أزمة شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى، عمالية ومالية بحتة، فإن تاريخ الإضرابات المتلاحقة التى نفذها عمال الشركة خلال السنوات العشر الماضية، يشير إلى اتصال منطقى بالأحداث السياسية، ويسجل تاريخ الشركة أن إضرابا نظمه عمال الشركة فى 2007، كان جرس إنذار مبكر من حجم الغضب المتنامى من نظام الرئيس الأسبق حسنى مبارك.

وفى 6 إبريل 2008 كان إضراب عمال غزل المحلة أيضا فى صدارة مشهد الاحتجاجات ضد النظام، وهو ما تم تفسيره أثناء أحداث ثورة يناير، إذ كانت الشركة والمدينة كلها فى مقدمة من مزقوا صور مبارك فى ميدان الشون الشهير بالمدينة.

وفى وسط ساحة اعتصام عمال غزل المحلة، تبدو صورة وزير الدفاع المشير عبدالفتاح السيسى، بل والهتافات المنادية والمستجيرة به على شاكلة «سيسى يا سيسى.. الحقنا يا سيسى.. الإدارة بتسرقنا.. يا سيسى» هى المشاهد الأكثر حضورا فى وسط الاعتصام.

ويبدو المشير حاضرا فى وسط معظم حوارات العمال والتى تنتهى غالبا بالتعويل على توليه السلطة، فى حين يقول آخرون إنه ما لم يحقق الرجل آمالهم فإن الإضرابات موجودة ومستمرة حتى تحقيق مطالبهم، خصوصا أنهم رفضوا تنظيمها وسط إجراءات الاستفتاء.

الحورات المختلفة بين العمال لا يقطعها سوى صوت زملائهم الذين ينظمون عملية إعدام صورية لإدارة الشركة، وعقب ذلك يحملون كفنا ويمشون فى جنازة رمزية، تشير إلى إدارة الشركة.

الإدارة والفساد

يصرخ مصطفى كامل درويش، مدير إدارة بمصنع نسيج 9، فى وسط جموع العمال الذين انخرطوا فى الحديث عن مستحقاتهم المالية، قائلا: «الموضوع مش بس فلوس اتكلموا عن الفساد اللى بيخسر الشركة»، ليأتى له الرد من بعض العمال: «والله معاك حق».

يوضح درويش وجهة نظره قائلا إن هناك محاولات منظمة لمحاولة «تخسير الشركة» تمهيدا لبيعها، وتابع إن رئيس مجلس إدارة الشركة القابضة كان يتولى أحد مصانع الشركة، وتم خروجه منها بعد مشكلات مالية مرتبطة بإدارته، مبديا استغرابه بأن يحصل الرجل على ترقية لإدارة الشركة القابضة، على الرغم من أنه لم ينجح فى إدارة إحدى الشركات التابعة لها.

وقد حاولت «الشروق» التواصل مع رئيس الشركة القابضة فؤاد حسان لأكثر من مرة للتعليق على تلك الانتقادات التى يوجهها له العمال، إلا أنها لم تتمكن من ذلك.

وتابع درويش أنه رفض مؤخرا بيع 48 ماكينة بالشركة فى مزايدة بسبب تدنى الأسعار والعروض التى وافقت عليها الإدارة وتبلغ 800 ألف جنيه، وقام بنفسه بالوصول إلى مشتر دفع فى 30 ماكينة فقط مبلغ 15 مليون جنيه.

يقول الرجل فى أسى إنه أفنى عمره فى شركة الغزل والنسيج، لكن المشكلات الإدارية التى تعصف بجهد العمال، تدفع الكثيرين للإحباط، مضيفا أن كل عامل وموظف يعمل عدد الساعات المقررة قانونا بشكل كامل، وأى شخص يتأخر ولو دقيقة واحدة يتعرض للخصم من الراتب، مضيفا أن أى حديث عن خسارة الشركة تكون الإدارة هى المسئول الأول عنه، نظرا للروتين الذى تتمسك به، وعدم تصديها لوقائع الفساد بالشركة، فضلا عن عدم الاهتمام بتطوير الآلات على الرغم من قدرة العاملين على إنتاج مستوى متميز من الغزل.

ويؤكد درويش الذى يعمل بالشركة منذ أكثر من 25 عاما، إن شركة المحلة للغزل والنسيج كانت هى مصدر العملة الصعبة «الأجنبية» لمصر فى الفترة منذ 1967 وحتى 1975، بسبب جودة إنتاجها الذى حقق لها رواجا فى الأسواق العالمية، إلا أن مسألة التسويق الخارجى باتت مجرد تاريخ بالنسبة للشركة خلال السنوات الماضية.

المخزون والمصانع

تبدو الخريطة الإدارية والإنتاجية للشركة ذات المساحة الشاسعة، بالغة الضخامة والتنوع، ويشرحها نصر السيد، الموظف فى إدارة صيانة الغزل، لـ«الشروق» قائلا: إن عدد قطاعات الشركة يبغ 7 قطاعات مختلفة تضم بداخلها عدد من المصانع المختلفة هى الإدارى والغزل والنسيج والملابس والإدارة الهندسية والصوف والتجهيز.

ويتابع: قطاع الغزل فى الشركة يضم 8 مصانع داخلية، فضلا عن مصنع القطن الطبى المتكامل الذى ينتج جميع الشرائط والمستلزمات الطبية التى يمكن تصنيعها من الانسجة والغزل، كما يضم قطاع الملابس بداخله 10 مصانع داخلية يعمل بها 5 آلاف عامل، فيما يتولى قطاع التجهيز صباغة المنتجات المختلفة قبل تصديرها.

وقدم السيد مقترحا قال إنه عرضه على كثير من المسئولين لكنه قوبل بالتجاهل، يمكن أن يساهم فى حل مشكلات الشركة، وهو تكليف الحكومة للشركة بصناعة ملابس طلبة المدارس المختلفة، وفق التصميمات التى ترغبها كل مدرسة، أو القيام بتوريد «الفوط البيضاء» التى تنتجها الشركة بجودة عالية للجيش، فضلا عن قيام الشركة بتصنيع «ملايات» سرائر المستشفيات الحكومية، وهو ما يمكن أن يحل عددا كبيرا من مشكلات الشركة إذا كانت هناك نية لإصلاحها، بحسب قوله.

ويكشف محمد إبراهيم، الموظف بقطاع المخازن بالشركة، أن نحو 24 مليون متر قماش من الخامات المختلفة، تم تصنيعها منذ 25 عاما وترفض إدارة الشركة بيعها على الرغم من ظهرو ملامح التآكل على بعضها، ويمكن أن يمثل بيعها ثروة للشركة، ويضيف أن تلك الأقمشة يتم إدراجها فى الموازنة المالية السنوية، فضلا عن التقديرات لما تحتويه المخازن من بضائع لا تسعى الإدارة لتسويقها تقدر بما يزيد على 850 مليون جنيه، وفى حال تمكن أحد العمال بشكل شخصى من إقناع المشترين بالتعامل مع المصنع، يتم وضع العراقيل أمامه، بل وإرشاده إلى الشراء من أحد التجار الكبار الذين يشترون بضائع الشركة.

وتابع إبراهيم أن الروتين الذى تتبعه الإدارة فى عمليات البيع يمثل أزمة كبرى تحول دون تقدم الشركة، ويفصل ذلك بالقول إن تجار التجزئة لا يستطيعون الشراء من الشركة بسبب الروتين حتى ولو كانت لديهم القدرة على الدفع الفورى، إذ تشترط الشركة وجود سجل تجارى للمشترى فضلا عن وجود رصيد لديه فى البنك، موضحا أن بعض كبار التجار المرتبطين بعلاقات سماها بـ«المشبوهة» مع بعض العاملين بالإدارة، يقومون بشراء تلك الأقمشة من الشركة بثمن قليل، ويبدءون فى بيعها لتجار التجزئة بمبالغ مرتفعة، وبفارق كبير تخسره الشركة بسبب الروتين.

باب آخر للفساد يكشف عنه إبراهيم بقوله، إن بعض التجار يشترون القماش من الشركة فى مرحلته الأولى قبل التجهيز «الصباغة»، ويحصلون مقابل ذلك على متر القماش بثلث ثمن المتر تقريبا فى حال بيعه مجهزا، ثم يعودون لمخاطبة الشركة، لتجهيز نفس تلك الأقمشة التى اشتروها، ويدفعون مقابل التجهيز فقط، وتكون النتيجة أن الشركة خسرت نحو ثلث ثمن المتر، وحصل عليه تجار بطرق ملتوية.

ويضيف الرجل، أن واحدة من أكبر مشكلات الشركة هى طبيعة تصميمات موديلات الملابس المختلفة التى تنتجها الشركة، والتى ترجع إلى الخمسينيات والستينيات، وترفض إدارة الشركة إدخال تعديلات عليها، على الرغم من سهولة ذلك وجود الكفاءة لدى العمال لتنفيذه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved