مسئول عسكرى متقاعد يكتب لـ«الشروق» عن: ليس دفاعا عن أشخاص.. ولكنه دفاع عن تاريخ أمة

آخر تحديث: الخميس 18 مايو 2017 - 10:21 ص بتوقيت القاهرة

معركة حطين.. والفن التعبوى للحرب.. والرد على المشككين فى عبقرية صلاح الدين العسكرية
أتاحت لى ظروف الدراسة بأحد أكبر المعاهد العسكرية فى العالم فرصة التوغل فى تاريخنا العسكرى فى عصر الدولة الإسلامية، ولم أجد خلال تلك الحقبة أهم من معركة حطين عام 1187 كونها الأعظم من حيث تأثيرها السياسى والعسكرى. ونظرا لعدم تعمق معظم الكتابات التاريخية الوطنية فى التحليل السياسى والعسكرى لتلك المعارك، لم يكن لدى خيار سوى اللجوء إلى العديد من المكتبات الدولية ومنها مكتبة الكونجرس الشهيرة للحصول على مزيد من التفصيل ــ معظمها تحمل وجهة نظر غربية ــ لإثراء دراستى العسكرية للمعركة والظروف السياسية المصاحبة لها.
كأحد أبناء هذا الوطن، أتابع اللغط الذى أحدثته تصريحات الكاتب المرموق يوسف زيدان فيما يخص صلاح الدين الأيوبى، واصفا إياه بـ«أحقر شخصية فى التاريخ». وكابن للمدرسة العسكرية المصرية، دفعتنى غريزتى الوطنية إلى الكتابة إليكم فى «الشروق»، ليس دفاعا عن شخص، ولا نقدا لآخر، بل دفاعا عن تاريخ عظيم لهذا الوطن، أملا فى أن تساهم السطور التالية فى تصحيح بعض الفاهيم المغلوطة عن تاريخنا الاسلامى البارز.
قبل بدء تناول الدراسة العسكرية لمعركة حطين، أود طرح بعض المفاهيم العسكرية المتعلقة بما يسمى «الفن التعبوى Operational Art » أو المستوى العملياتى للحرب، وهو المستوى العسكرى الذى يربط السياسات على المستوى الإستراتيجى للدولة بالتكتيكات التى تنفذها الوحدات العسكرية على أرض الحرب، وتُرجع العسكرية الغربية بداية المستوى العملياتى للحرب إلى القائد العسكرى الفرنسى الشهير «نابليون بونابرت» خلال حروبه الأوروبية الشهيرة بمطلع القرن الـ19، والتى صنعت مجده وأسطورته. وأهم ما تميزت به تلك الحروب هو قدرته على فرض مكان وتوقيت وظروف الحرب على الخصم، وهو ما يطلق عليه عسكريا [تشكيل ساحة المعركة « Shaping the Battlefield»، أو حرب من اختيارك «A War of your Choosing«]، والذى منحه دائما ميزة المبادأة والقيام بالفعل على مدى المعركة بالكامل مقابل فشل العدو فى اتخاذ ردود أفعال مناسبة، وهو ما فشلت الإمبراطوريات الأوروبية فى مواجهته أو استيعابه على مدى الفترة من [1804 ــ 1815]، فضلا عن قدرته على تجميع وحشد قواته من اتجاهات إستراتيجية متعددة فى نقطة واحدة وفى توقيت متزامن لمواجهة العدو، وهو ما منحه بصفة مستمرة عنصرى المفاجأة والحشد.
نعود إلى معركة حطين، والموقف العسكرى الميدانى.. على جانب، تمسك الصليبيون بقلاعهم الحصينة فى فلسطين، والتى مثلت مركز ثقلهم العسكرى [مركز الثقل: محور ومكمن القوة العسكرية، والذى يشكل فقده أو التخلى عنه بداية انهيار المنظومة الدفاعية / الهجومية..]، حيث تميزت تلك القلاع باستحالة اقتحامها والاستيلاء عليها.. على الجانب الآخر، أصدر صلاح الدين الأيوبى [قائد عسكرى لم يتخرج من أكاديميات عسكرية متخصصة، ولكنه امتلك المهارة بالفطرة] التعليمات بتجميع الجيوش الإسلامية من 3 اتجاهات استراتيجية [الشرق من «الموصل» بالعراق ــ الغرب من «دمشق» بسوريا ــ القوة الرئيسية المتمثلة فى الجيش المصرى بقيادة صلاح الدين من الجنوب]، على أن تحتشد تلك الجيوش فى توقيت متزامن بمنطقة بحيرة طبرية.. بمهمة الاستيلاء عليها والتمسك بها. ولم يكتف صلاح الدين بذلك بل أمر بتوجيه العديد من العمليات الخاصة [إغارات] والتى استهدفت تدمير صهاريج تخزين المياه داخل المناطق الدفاعية للصليبيين، مع قيام الأسطول البحرى المصرى بقطع خطوط الإمداد البحرى عن الصليبيين، الأمر الذى حقق خسائر معنوية هائلة بين صفوف قوات الصليبيين، فى ظل حالة العطش والجوع وبالتالى انخفاض الروح القتالية التى لاحقت كل صفوفهم، قبل البدء الفعلى للأعمال القتالية [Shaping the battlefield].
اجتمع قادة الصليبيين للتشاور حول قرار الحرب، حيث شكل التمسك بمركز الثقل والاحتماء بالقلاع الحصينة وعدم التخلى عنها قرار انتحار جماعى لتلك القوات. ورغم تحذير بعض قادتهم، بأهمية عدم التخلى عن دفاعاتهم المنيعة، إلا أن قرار الخروج لملاقاة جيوش صلاح الدين بمنطقة بحيرة طبرية [رد الفعل] كان الاختيار الوحيد الذى اتاحته لهم الإجراءات العسكرية التى اتخذها صلاح الدين [الفعل].. وتم اتخاذ القرار بالخروج لملاقاة الجيش العربى.
خرجت جيوش الصليبيين من دفاعاتهم الحصينة يوم 4 يوليو 1187م فى اتجاههم نحو منطقة طبرية، حيث تطلب ذلك مرورهم بوادى حطين [وادى قحل ووعر، يتميز بارتفاع درجة الحرارة فى شهر يوليو وأغسطس]، وهو ما يعزز عبقرية صلاح الدين فى اختيار وفرض توقيت ومكان القتال على خصومه، وبالتالى فرض أسلوب القتال [A war of your choosing]. وحقق صلاح الدين عنصر المفاجأة القتالية بتطويق قوات الصليبيين داخل وادى حطين بثلاث فرق عسكرية من ثلاثة اتجاهات [يمين / فرقة تقى الدين عمر – منتصف / القوة الرئيسية بقيادة صلاح الدين ــ يسار / فرقة مظفر الدين كوكبرى]، الأمر الذى انهارت معه قدرة الصليبيين القتالية فى ظل الخسائر الجسيمة التى لحقت بهم، مما دفعهم للهروب من ميدان القتال فى اتجاه الشمال، وهو الاتجاه الذى سمح به صلاح الدين، حيث إن التدمير الكامل للعدو لم يكن هدفه الرئيسى من القتال [أشار المفكر والقائد العسكرى الصينى «صن تزو» فى رائعته واسعة التأثير «كتاب فن الحرب» عام 500 قبل الميلاد إلى قاعدة «الجسر الذهبى»، ويعنى ضرورة إتاحة الفرصة للخصم للانسحاب، وبما يجعل الفرار هدفه الرئيسى، بدلا من القتال بشراسة حال إحكام حلقة الحصار حوله]، وبما يعنى أن تخطيط صلاح الدين للمعركة اعتمد على عبقرية فطرية، لبت جميع شروط القتال التى وضعها أكبر المفكرين العسكريين التاريخيين.
حقق صلاح الدين أهدافه العسكرية والسياسية من حطين، ولكنه فى المقابل، ترى بعض وجهات النظر العسكرية ارتكابه لخطأ رئيسى تمثل فى العفو الذى منحه للصليبيين للخروج من القدس بأسلحتهم دون مصادرتها. وإن كان من وجهة نظرى الشخصية أن هذا القرار ناتج عن سمو خلق وسماحه إنسانية لا تعترف بها الحروب، إلا أنه من وجهة النظر العسكرية يمثل مخالفة جسيمة، وهى عدم تجريد العدو من أسلحته ومعداته [أشار المفكر العسكرى الألمانى «كارل فون كلاوزفيتز» فى كتابه «عن الحرب» إلى أنه: «فى الحرب لن تكون النتائج نهائية»، وبما يعنى أن الطرف المهزوم يعتبر أن الهزيمة شر مؤقت، وأن هناك جولات أخرى لرد الاعتبار، الأمر الذى يستلزم أن يكون الهدف الرئيسى من الحرب هو «القضاء الكامل على العدو وتجريده من سلاحه»، وبما يجعل فكرة الانتقام ورد الاعتبار غاية فى الصعوبة إن لم تكن مستحيلة].
لكل مرحلة تاريخية ظروفها السياسية المؤثرة.. وفى معظم الأحيان يصعب على المؤرخين التفهم الكامل لطبيعة تلك الظروف التاريخية المحيطة بالأحداث.. وإن يكن لهم ولنا حق الإشادة أو النقد، إلا أنه ليس من الجائز تحقير التاريخ دون دراسة وافية وتحليل عميق للأبعاد السياسية والعسكرية، حتى لا نساهم بأيدينا ودون عمد فى تشويه هذا التاريخ.
فى النهاية، وردا على التشكيك فى صلاح الدين، والذى استغله قادة إسرائيل للتدليل على أحقيتهم التاريخية المزعومة فى القدس وفلسطين، أود الإشارة إلى أن الدراسة المُشار إليها قد تمت إجازتها عام 2004 بتقدير «استثنائى» من إحدى أبرز الكليات العسكرية فى العالم، والتى اتخذت قرارا بإدراج [صلاح الدين وتكتيكات المماليك] ضمن المنهج الدراسى لها اعتبارا من العام الدراسى 2005 / 2006، بعد أن أثبتت الدراسة ــ والتى اعتمدت بشكل تام على مصادر غربية ــ أن الناصر صلاح الدين الأيوبى قد طبق جميع مبادئ ومفاهيم «الفن التعبوى» قبل أكثر من 6 قرون من نابليون بونابرت، تقديرا منهم لعبقرية هذا القائد العربى، وعرفانا وإجلالا لمساهماته فى التاريخ العسكرى والإنسانى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved