قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لـهيكل : روايتى عن حرب أكتوبر تدور أساسا حول السادات (1)

آخر تحديث: الأربعاء 22 أكتوبر 2014 - 10:14 ص بتوقيت القاهرة

عرض - خالد أبوبكر

41 عاما مرت على حرب أكتوبر 1973، وما زلنا بحاجة ماسة إلى إطلالة واسعة تقف بنا على حقائق ما جرى فى هذه اللحظة الاستثنائية من تاريخ مصر والعرب الحديث.. إطلالة تميز بوضوح بين «يومية القتال» و«الحرب» بمفهومها الشامل.. إطلالة لا تكتفى بسرد نمطى لمجرى الحوادث على خطوط النار.. بل تتجاوزها إلى ما دار خلف مسارح العمليات فى دهاليز السياسة.. إطلالة تستبدل بـ«الوثائق» الذاكرة البشرية التى نعتمد عليها فى كتابة تاريخنا.. إطلالة تجيب عن أسئلة بأكثر ما تطرح من تساؤلات هذه الحرب التى نصّر على أنها لم تحدّث كل أخبارها رغم انقضاء ما يزيد على 4 عقود على اندلاعها.

هذه الإطلالة وجدناها حية وحاضرة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» للكاتب الصحفى الكبير، محمد حسنين هيكل، الصادر عن دار «الشروق»، وهو الجزء الرابع والأخير من سلسلة «حرب الثلاثين سنة»، التى حكى فيها «الأستاذ» قصة صراع الأمة العربية بقيادة مصر، ضد الهيمنة الأجنبية منذ منتصف خمسينيات القرن الماضى إلى منتصف ثمانينياته، والتى تضم على الترتيب «ملفات السويس»، «سنوات الغليان»، و«الانفجار».

«أعتقد أن السياسة فى حرب أكتوبر خذلت السلاح ولا أقول خانته»، عبارة شهيرة لـ«الأستاذ» يتم على الفور استدعاؤها متى طرح اسم الكتاب الذى بين أيدينا الآن، باعتبارها نتيجته النهائية، لكن لابد لهذه النتيجة من مقدمات، تحتاج ــ لاشك ــ لأن نعرضها على أجيال جديدة لم تتح لها فرصة البحث العميق عن حقائق ما جرى بعد أربعة عقود على وقوعه، رغم أن هذه الأجيال هى الجمهور المستهدف الأول الذى كتب له كاتبنا الكبير «وربما يسألنى أحد وسط هذه الفوضى التى أصفها لمن أكتب إذن؟ وأقول بواقعية شديدة، وبتفاؤل أكيد فى نفس اللحظة: إننى أكتب لبعض الماضى، ونصف الحاضر، وكل المستقبل. وربما زدت على ذلك: إن الوطن ليس إرثا ينتقل إلينا من الأجداد، وإنما أمانة نؤديها نحن للأحفاد!».

خريطة وبوصلة

ولكن قبل الدخول فى تفاصيل كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» الذى يضم بين دفتيه 1183 صفحة، مقسمة على ثلاثة أجزاء، تضم ٤٢ فصلا، وملحقا وثائقيا، توجد مقدمة للكاتب الكبير، لابد من التوقف مليا أمامها؛ ذلك أنها ــ كما كل مقدمات مجموعة حرب الثلاثين سنة ــ بمثابة خريطة يقدمها «الأستاذ» لقارئه.. خريطة يوقّع عليها بدقة إحداثيات ما يريد أن يقوله، ويحدد عليها الاتجاهات والمسافات الواقعة بين ذرى الأحداث الحاكمة على مسارح السياسة المرتبطة بموضوع الكتاب، فـ«الطريق إلى فهم السياسة يبدأ بالنظر إلى الخريطة» وهى عبارة أثيرة لـ«الأستاذ».

ولعلى أتجاسر عندما أقول إن تلك المقدمة لا تمثل فقط «خريطة» يقدمها «الأستاذ» لقارئه قبل الشروع فى النظر لما بين دفتى كتابه، بل هى بجانب ذلك «بوصلة»، لا غنى عنها لتوجيه هذه الخريطة، بغية الوصول إلى الاتجاه الصحيح لخط السير أثناء الملاحة بين صفحاته؛ ومن هنا كان حقا علينا أن نخصص لها «الحلقة الأولى» كاملة أثناء عرضنا لهذا الكتاب القيم، حتى نضع ما سيرد فى الحلقات القادمة منه فى سياقاته بالضبط كما أرادها الكاتب الكبير.

من أول الأمور المهمة لفهم طبيعة هذا الكتاب والتى ظلل «الأستاذ هيكل» مواقعها على هذه «المقدمة الخريطة»، تأكيده على أن «هذا الكتاب، ولو أنه جزء من مجموعة تحمل عنوان (حرب الثلاثين سنة)، ثم هو فيها يركز على معركة أكتوبر، وهى عمل عسكرى باهر، فإن الجوانب العسكرية ليست غالبة فيه، وذلك من منطق يفرق بين الحرب والقتال؛ فالحرب صراع سياسى بكل وسائل القوة، فى حين أن القتال مرحلة معينة من الحرب، يكن فيها الاحتكام إلى السلاح. وهكذا فإن دور القتال فى الحرب.. عسكرى. فى حين أن الحرب الشاملة.. سياسة، وهذا مجال يغرينى!».

لا أكتب التاريخ

ويمضى «الأستاذ» فى مقدمة «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» مجددا التمسك بخطوط لا يسمح فيها بسوء الفهم، متعلقة بأنه «لا يكتب التاريخ» فى سلسلة «حرب الثلاثين سنة»، وفى هذا يقول «لعلى لمجرد التذكرة أعيد بعض ما سبق أن أشرت إليه فى أعماق سابقة من هذه المجموعة وهو أننى لا أكتب التاريخ ولا أحاول ذلك، وأسبابى عديدة: فالتاريخ ليس اختصاصى، ثم إن التاريخ تصعب كتابته فى زمن وقوعه، ثم إنه لا يكتب من عاشوا أو شاركوا فى وقائعه وكل هذه اشتراطات تردنى!».

ونضيف إلى ذلك ما ذكره الكاتب الكبير فى مقدمة كتابه «ملفات السويس» فى ذات الموضوع: «إن الصحفى ليس فى مقدوره أن يكتب التاريخ، فتلك مهمة أكبر من طاقته، وأوسع من أى تحقيق يقوم به فى حدث بذاته، ولعلها أبعد من عمر أى إنسان فرد، ثم إنها أعقد من أن تحتويها دفة كتاب واحد.

ومن ناحية أخرى: فإن الصحفى ــ حتى وإن كان أحد شهود الحدث الذى يكتب عنه ــ يستطيع أن يقدم شهادة تاريخية، ولكن الشهادة التاريخية ليست تاريخا، وإنما هى ــ إذا صدقت، تصلح لأن تكون (مادة تاريخية) أى عنصرا من العناصر، وزاوية من زوايا النظر حين يكتب التاريخ».

وبالعودة إلى مقدمة «أكتوبر 73 السلاح والسياسة»، نجد «الأستاذ»يحدد بنقاط إشارية واضحة المعالم أهدافه التى يسعى للوصول إليها من مجموعة «حرب الثلاثين سنة»: «إن أقرب وصف إلى ما أحاوله فى هذه المجموعة، هو القيام بدور الشاهد، فقد أتاحت لى الظروف أن أكون قريبا من جمال عبدالناصر فى معركة سنة 1956 وفى معركة سنة 1967، ثم إنها أتاحت لى أيضا أن أكون قريبا من أنور السادات فى معركة سنة 1973.

إن هدفى بالدرجة الأولى من كل مجموعة «حرب الثلاثين سنة» وهو المشاركة بقدر الطاقة والجهد فى صد الغارات الهمجية عن ذاكرة الأمة. والأمة مثل الفرد يصاب بالجرح فيشفى، ويصاب بالصدمة فيفيق، ويصاب بخسارة المال فيعوضه لكن فقدان الذاكرة كارثة بلا حدود؛ لأنه يؤدى بكل شىء بما فى ذلك التاريخ والمستقبل، ومن ثم يصبح الحاضر محاصرا، يتم عزله وتطويقه على لوحة زجاج مسطح لا تحتفظ بشىء ولا تعى شيئا. ويصبح الفكر والثقافة صورا ملونة على شاشات تليفزيون، وتصبح الحرية والديمقراطية حقا فى الاختيار محصورا فى المفاضلة بين سلع مستوردة معروضة على الرف فى سوبر ماركت، ويصبح مطلب العدل والمساواة مسيرة قطيع تسوقه أجهزة إعلام واتصال تصبها الأقمار الصناعية من فوق كل سطح على رءوس من يتصادف وجودهم ولا أقول حياتهم تحته!».

التوثيق العميق

ينتقل الكاتب الكبير بعد ذلك للحديث عن منهجه فى هذا الكتاب، فيقول «قد يلاحظ قارئ هذا الكتاب أن المعلومات فيه أكثر من الآراء، وأن الوقائع أوسع من التحليل. وأتجاسر على القول إن ذلك مقصود، وموجبه أننى أنتمى إلى مدرسة تعتقد أن صميم حرية الصحافة هو ضمان تدفق المعلومات، فليست هناك قيمة لرأى إلا إذا كانت قاعدته من المعلومات والأخبار والخلفيات واسعة وكاملة وصحيحة إلى أقصى حد. وفى هذه المدرسة فإن المعلومات والأخبار والخلفيات هى البناء التحتى الذى يمكن أن تقوم عليه حرية الرأى من اختلاف الاجتهادات».

والأمر المرتبط بالمعلومات والذى ركز عليه «الأستاذ» هو التوثيق، «وربما أن ضرورات البحث عن الحقيقة فى هذه المجموعة من «حرب الثلاثين سنة» وهذا الكتاب أصعبها فى رأيى هى التى دعتنى إلى الاهتمام بزيادة التوثيق فيه إلى درجة قد تبدو لافتة للنظر. والحاصل أننى استعملت فى هذا الكتاب ما يسمونه بأسلوب «التوثيق العميق» إلى درجة أن الوثائق أصبحت بذاتها نسيج نصوصه، وصلب روايته، فى حين أن الباقى كله تحول إلى مجرد إطار محيط يضم ويحدد!».

وأعترف أن هناك أسبابا أخرى دعتنى إلى تشديد الضغط فى طلب التوثيق، فقد شغلنى، ومازال يشغلنى ما جرى للكتاب السياسى فى ظروفنا الحاضرة. فجماهير القراء يشدها الشوق إلى الحقيقة ويضنيها البحث عنها. وقد وجدها البعض غفر الله لهم فرصة سانحة لتعليب السراب داخل غلاف كتاب. وهكذا دارت مطابع، وتلاشت واختفت غابات بأكملها من أشجار لب الورق، وفاضت وغاضت أنهار من حوامض الأحبار ضارة وسامة. وأصيبت البيئة الوطنية والقومية بألف ثقب فى طبقات الأوزون الفكرى والمعنوى الذى كان يحميها!».

يضيف «الأستاذ» سببا آخر دفعه دفعا لتكثيف التوثيق فى هذا الكتاب يقول فيه «إن روايتى عن حرب أكتوبر تدور أساسا حول الرئيس أنور السادات، وكان ذلك أسلوبا لا بديل عنه، ذلك أن الرجل أدار مسئولياته من موقع «كبير العائلة» على حد تعبيره الأثير وكان فى ذلك صادقا مع نفسه ومخلصا».

وهكذا فإن القصة تجد لنفسها تلقائيا بطلا تدور حوله، كما كانت الحوادث نفسها تدور! لكن الحرج أن هذا وضعنى أمام مشكلة أو معضلة مقابلة، ذلك أن دور الشاهد الذى كنته فى القصة وحوادثها، فرض على محظورا حاولت بكل جهدى تجنبه فى كتب سابقة كنت فيها شاهدا أيضا.

ففى كتب سابقة، ولأن إدارة الأمور كانت مختلفة، فإن دورى كان يمكن تجاوزه. فإذا حبكت المواقف واقتضت الضرورة أشرت إلى هذا الدور فى ذيل هامش أو على طرف حاشية. وأما هذه المرة فلم تكن الروايات لتستقيم فى بعض المواقف إلا بالأسلوب المباشر فى الرواية.

ولقد توقفت طويلا، وترددت كثيرا، وحاولت مرات أن أتجاوز المأزق، ولم أجد سبيلا. وهكذا فإننى أتمنى على قارئ هذا الكتاب أن يغفر لى وجود اسمى فى بعض صفحاته. ومع أنى حاولت أن أتحفظ، وأغفلت وحذفت وبنيت للمجهول إلا أن اسمى فى النهاية لا يزال مذكورا. وقد تصورت أن أفصل نفسى عن اسمى فى مسار الأحداث، فلم أستعمل الضمير الأول، وهو ضمير المتكلم، وإنما استعملت الضمير الثالث، وهو ضمير الغائب. أى أننى لم أتحدث عن «أنا» وإنما تحدثت عن «هو» وكأن الذى أعنيه شخص آخر لا يتصل بى، وإنما واحد من شخوص القصة أحكى عنه كما أحكى عن غريب!».

تنوع المصادر

لم ينته الكاتب الكبير من الحديث عن التوثيق، حيث أثار نقطة أخرى مرتبطة به وهى تعدد المصادر التى حصل منها على الوثائق، سواء داخل مصر أو خارجها، وقدم لها شرحا مفصلا كما يلى:

ــ «كانت هناك مجموعة من الوثائق أتاحها لى الرئيس السادات مباشرة، وذلك من الأوراق التى ظهرت بعد واقعته الشهيرة مع مراكز القوى سنة 1971، وقد تضمنت تسجيلات اجتماعات وتليفونات ومذكرات، إلخ... وقد حصلت بإذنه على صور منها لملفاتى، وكان هذا الكتاب موضعا طبيعيا لبعضها.

ــ كانت هناك مجموعة تقارير وبرقيات ومراسلات دارت بين الرئيس أنور السادات وبين الدكتور هنرى كيسنجر (وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية وقت حرب أكتوبر) طوال سنة 1973. وكانت مجموعة هذه الوثائق غائبة عنى رغم قربى الشديد من عملية الإعداد لحرب أكتوبر. ولقد أحسست فى بعض المراحل بوجود شىء ما خفى، ولم أتحقق من ذلك إلا فى مرحلة لاحقة. والذى حدث هو إننى عثرت على هذه المجموعة من الوثائق أثناء زيارة لواشنطن سنة 1975. ويظهر أنها كانت معدة لكى تساعد بعض الكبار من إدارة الرئيس الأمريكى الأسبق ريتشارد نيكسون على كتابة مذكراتهم بعد سقوطه المدوى سنة 1974 بسبب فضيحة «ووترجيت». وبالفعل فإن الدكتور هنرى كيسنجر استعمل عددا منها فى كتابة مذكراته.

وقد عرف الرئيس السادات أثناء زيارة قام بها للولايات المتحدة فى نفس الوقت ــ سبتمبر 1975 أننى حصلت على هذه الوثائق، وأظن أن ذلك ضايقه. ولعله الأمر الذى استوجب فى ذلك الوقت حملة عنيفة علىّ ركزت على نقطة واحدة، هى نقطة «المصداقية»، وكان الهدف على ما هو ظاهر أن يصبح ما أقوله أو أكتب فى يوم من الأيام موضع الشك. وقد اعتبرت ذلك من وجهة نظر أصحابه مبررا بضرورات مواقفهم.

ــ كانت هناك أيضا وثائق من أنواع أخرى. بعضها وثائق كنت طرفا فى وقائعها. وبعضها حصلت عليه من أصحابه. وبعضها استعملت قانون حرية المعلومات فى الولايات المتحدة حتى أستخرجه ليؤدى دوره فى سياق القصة فى تتابع مشاهدها.

ــ كانت هناك أيضا مذكرات كتبتها عما رأيت وسمعت. وكنت أكتبها فى حينها لا أنتظر ولا أعتمد على الذاكرة. عارفا أن الكتابة على الورق هى وحدها التى تحفظ التفاصيل حية ونابضة، حتى وإن ابتعدت الحوادث وتزايد وقر السنين، ثم إن ذلك فى نفس الوقت عاصم من منزلق خطير يقع فيه الكتاب والكتب أحيانا، فإذا روايتهم للحوادث لا تصفها كما كانت، وإنما كما يجب أن تكون من موقع نظرهم. وهذا فضلا عن مخاطره على الحقيقة، يوقع أصحابه فى محظور «الحكمة بأثر رجعى»!

ــ كانت هناك أخيرا مراجع لا تعد ولا تحصى. فالذين شاركوا فى الحوادث كتبوا عنها كل من موقعه، وربما أشرت بالتحديد إلى مذكرات كل من هنرى كسينجر، وريتشارد نيكسون، وجولدا مائير (رئيس وزراء إسرائيل خلال الحرب)، وموشى ديان (وزير الدفاع الإسرائيلى آنذاك)، وأبا إيبان (وزير خارجية إسرائيل خلال نفس الفترة) وفوق ذلك كانت هناك دراسة الدكتور مايكل بريشر الذى تخصص طول عمره الأكاديمى فى دراسة صنع القرار الإسرائيلى.

ــ إلى جانب تلك الوثيقة المهمة والخطيرة التى انتهت إليها أعمال لجنة التحقيق التى رأسها كبير القضاة «أجرانات» وكان تكليفها أن تحقق فى أسباب ما أصاب إسرائيل فى أكتبور سنة 1973».

ويعلق «الأستاذ هيكل» على كيفية استفادته من هذا الكم الكبير من الوثائق بقوله: «تلك كلها مصادر ساعدتنى على رواية القصة بالطريقة التى تمنيت أن أعرضها بها، وعلى طريقة شيخ الصحفيين العتيد ويكهام ستيد، الذى تحفظ مراجع دراسات الصحافة نصيحته لكل من يكتب: «إذا كانت لديك قصة تريد أن تكتبها، فابدأ معها من بدايتها، وأمش معها إلى نهايتها، ثم توقف تماما عند هذه النقطة» وذلك ما حاولت أن أفعله».

طائر العنقاء المصرى

العلاقة التفاعلية بين المكان والزمان أو بين «الجغرافيا» و«التاريخ» كانت واحدة من الشواغل المشتركة للجغرافى المصرى العظيم الدكتور «جمال حمدان» و«الأستاذ هيكل»، فالأول قضيته المكان وعبقريته ودورهما فى التأثير فى حركة التاريخ، والثانى انصب مجهوده الرئيسى على التاريخ المصرى الحديث ومجرى الحوادث فيه، غير معزولة عن ذلك التأثير الذى تلعبه حقائق الجغرافيا فى الفعل التاريخى.

ويشير الأستاذ فى هذه المقدمة إلى هذه الشواغل المشتركة بينه وبين حمدان فى قوله «تحدثت مع «جمال حمدان» فى مكتبى لآخر مرة قبل قرابة سنة، (صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب عام1993) وكنت فى ذلك الوقت على وشك أن أبدأ كتابة هذا الجزء من «حرب الثلاثين سنة» (عن معركة أكتوبر 1973)، وبطبيعة الحال فقد تحدثنا عن شواغلى فيه، ثم تواصلت مناقشاتنا طويلا حول موضوع يستدعى اهتمامنا نحن الاثنين وهو علاقة «الجغرافيا» و«التاريخ» ومصر فى موازين الاثنين معا. وكان ذلك بالضبط محور كتابه عن «شخصية مصر».

وبعد حوار طويل طرح فيه «الأستاذ» الكثير من التساؤلات التى كانت تدور عن «تعطل عبقرية المكان فى مصر» على حمدان، قال إن «حرب الثلاثين سنة»، «موضوع ليس بعيدا عما كنت أتحدث فيه مع «جمال حمدان» عن الجغرافيا والتاريخ.. المكان والمكانة.. والشخصية والعبقرية. فهذه المجموعة من الكتب تحكى قصة صراع هذه الأمة العربية بقيادة مصر ضد الهيمنة الأجنبية منذ منتصف الخمسينيات إلى منتصف الثمانينيات من هذا القرن العشرين، بداية من وقفتها الشجاعة ضد الأحلاف العسكرية الغربية سنة 1955 حتى تأكد الهبوط حين تمكنت إسرائيل من احتلال عاصمة عربية هى بيروت فى النصف الأول من الثمانينيات».

وفى نهاية المقدمة يعلن الكاتب الكبير أن هذا الكتاب تحية لـ«جمال حمدان»، مقدما فى حقه مقطوعة أدبية وفنية بديعة تليق بكاتب عظيم مثل «هيكل» ويستحقها عالم فذ مثل «حمدان»، «لست أعرف لماذا أعود فى آخر هذه المقدمة، مرة أخرى إلى «جمال حمدان» وإلى «شخصية مصر» مستقرا فى النهاية على تقديم هذا الكتاب تحية لذكراه.

لقد ظهر هذا العالم المتميز فى آفاق الفكر العربى كطائر العنقاء الأسطورى، الذى تحكى قصص الأقدمين أن موطنه الأصلى صحراء العرب، وتروى أن طائرا واحدا منه يظهر وكل مئات السنين، وأنه يعلو فى الآفاق يملؤها محلقا بأجنحته العريضة المهيبة، وفاردا ريشه بديعا وباهرا، لكنه عندما يحين الأوان فإن هذا الطائر الأسطورى الوحيد يقيم لنفسه تلا من النار ويهبط من الأجواء ينتصب واقفا فى كبرياء وسط لهيبه. لكنه لا يتفحم ولا يتحول إلى رماد، وإنما ينبعث من قلب النار مستعدا لحياة ثانية ومنتشيا بشباب عمر جديد. وكان «جمال حمدان» «عنقاء» حلم مصرى وقومى عظيم. ولقد حوطته ألسنة النار ذات صباح من شهر أبريل سنة 1993. لكن الأحلام العظيمة حتى فى قلب اللهيب لا تتفحم ولا تتحول إلى رماد، وإنما تنهض بمعجزة من معجزات البعث من وسط الحريق مجددا حياتها وشبابها، ناشرة ضياءها وإلهامها. فاتحة أجنحتها القوية، ومحلقة إلى أعالى السماء».

مشهد افتتاحى

وإعمالا بنصيحة ويكهام ستيد، يبدأ الأستاذ هيكل بعد المقدمة بمشهد افتتاحى للموضوع الرئيسى للكتاب وهو حرب أكتوبر: «فى الساعة الثانية من بعد ظهر يوم السبت 6 أكتوبر سنة 1973، لاحت الفرصة التى تمنتها وعملت لها وانتظرتها أمة بأسرها من الخليج إلى المحيط.. على الجبهة المصرية تلاحقت عواصف النار.. ضربة طيران، ثم قصفة مدفعية، ثم نزل إلى مياه قناة السويس ألف قارب مطاطى تقل ثمانية آلاف مقاتل هم الموجة الأولى من موجات العبور، وكان وراء هذه الموجات طوفان من قوات المشاة والمدرعات يهدر فى انتظار دوره فى العبور، وكان وراء هذا الحشد المهيب كله، جيش المليون مقاتل. وعندما ارتفع الأذان لصلاة المغرب فى ذلك العاشر من رمضان، كانت مصر تعيش واحدة من أمجد ساعات عمرها.

وعلى الجبهة السورية ارتسمت صورة مماثلة.. تمهيد بالمدفعية، ثم اندفعت ثلاث فرق من المشاة والمدرعات تكتسح مرتفعات الجولان وتقترب بسرعة لم يكن يتوقعها أحد من حافة المرتفعات وتطل على سهول الحولة ووراؤها تلوح وديان الجليل الخضراء، وتلمع مياه بحيرة طبرية بخيوط ذهبية عكسها نزول الشمس ومرور سحابات خريف.

وكان العالم المأخوذ بالمفاجأة، وبالمشهد الجليل للقوة العربية، يتجه بأنظاره إلى القاهرة باعتبارها مركز قيادة العمل العسكرى والسياسى. وكان الرئيس أنور السادات فى القلب من تلك الصورة التاريخية العظيمة التى راحت ألوانها وأضواؤها وظلالها تتحرك مع كل دقيقة وترسم مع كل لحظة مشهدا لا يقل فى عظمته من مشهد سبقه».

كان ما سبق جزء من المشهد الافتتاحى، مضافا إليه محادثات لحظة الانتصار الأولى للرئيس السادات مع الرئيس السورى حافظ الأسد، والسفير السوفييتى فى القاهرة فلاديمير فينوجرادوف، والملك حسين بن طلال ملك الأردن.

لكن ذلك المشهد الباهر له خلفياته التى عرضها «الأستاذ» فى الجزء الأول من الكتاب، على مدار 10 فصول، تحت عنوان «البحث عن حل» فموضوعه الحلقة القادمة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved