محمد أمارة في حوار لـ«الشروق»: العربية تنزف فى إسرائيل.. لگن لــن تموت

آخر تحديث: الأربعاء 26 ديسمبر 2012 - 5:24 م بتوقيت القاهرة
حوار: فكري عابدين

- العربية هى رمز وجودنا والعامل الرئيسى فى ترسيخ هويتنا وحفظ الذاكرة والرواية الفلسطينية عن حقوقنا فى أرضنا

- إسرائيل تُقصى لغتنا من جميع المجالات لطمس هويتنا وثقافتنا مقابل هيمنة للعبرية كإحدى ركائز المشروع الصهيونى

- الدولة تُعبرن أسماء المناطق والأحياء والشوارع لتحتل الذاكرة على أمل إضعاف ثم طمس الهوية الفلسطينية

- أخشى على العربية من الإهمال لكن لست قلقًا على لغة القرآن فبها نصلى ونذكر الله ونهايتها تعنى نهايتنا  

- أجهزة المخابرات والجيش والأمن تقف خلف تدريس العربية فى المدارس اليهودية لحاجتها لمن يجيدون «لغة العدو العربى»

 

 

 

اللغة هي أحد أهم مؤشرات الهوية الفردية والجماعية، وأحد المكونات الرئيسة لتشكيل هوية المجموعات وتعريفها. ومنذ بداية الصراع - الفلسطيني الصهويني -لعبت اللغة دورا مركزيا، وهو ما برز بالأساس فى مسألة الرواية التاريخية لهذا الصراع، إذ استحضر كل طرف اللغة لتأكيد «حقه» فى الأرض.

 

وبدأ الصراع اللغوى حول تسمية البلاد، فالحركة الصهيونية استحضرت اسما دينيا، وهو «أرض إسرائيل»، بدلا من تسمية «فلسطين»، التى استخدمها الفلسطينيون، وحتى استخدمتها حكومة الانتداب البريطانى، التى كانت تسمى «حكومة عموم فلسطين».

 

وعلى مدى 65 عاما من القمع «الصهيونى» للعربية والهيمنة للعبرية، استحق الفلسطينيون داخل الخط الأخضر، وفقا للروائى الإسرائيلى، دافيد غروسمان، لقب «الحاضرون الغائبون»، فهم موجودون جسديا فى الدولة، لكنهم محرمون من الشراكة الفاعلة فى الحيز العام.

 

حتى بلغ الأمر حد التحذير من أن مصير «فلسطينيى 48» على أرضهم المحتلة معلق بمصير العربية، فإن «حفظوها حفظتهم». عن مكانة اللغة العربية داخل إسرائيل، وهذا الصراع اللغوى، بكل مظاهره وتداعياته، يدور حوار «الشروق» مع أ.د محمد أمارة، المحاضر بكلية «بيت- بيرل»، فى شهر يحتفل خلاله العالم للمرة الأولى باللغة العربية.

 

 

بداية.. ينص القانون الإسرائيلى على أن العربية لغة رسمية.. فما هى أبرز معالم السياسات الرسمية تجاه العربية كلغة أقلية قومية وأصلانية؟

نعم هى لغة رسمية، لكن إسرائيل أقصتها من مختلف مجالات الحياة، فلا استخدام لها فى المحاكم ولا الجامعات ولا فى سوق العمل اليهودى ولا وسائل الإعلام العبرية. هذا فى مقابل هيمنة للغة العبرية، فهى أحد ركائز المشروع الصهيونى، وقضية دولة يهودية صهيونية.

 

إذن هى عملية إقصاء لغوية؟

نعم.. لطمس الهوية والثقافة العربية وصهر الأقلية العربية فى المجتمع اليهودى؛ فالعربية هى رمز وجودنا وهوية مجتمنا. وإسرائيل تدرك أنها العامل الرئيسى فى ترسيخ هويتنا الفلسطينية ــ العربية، ومساعدتنا على حفظ الرواية والذاكرة الفلسطينية بشأن حقوقنا فى وطننا.

 

وماذا تريدون؟

نريد شراكة لغوية فى الحيز العام، نطالب بثنائية لغوية حقيقية (عربية وعبرية)، لكن إسرائيل تخاف من استعمالنا للغتنا، فرغم أنها تعترف بحق جماعى واحد للعرب فيها، وهو الحق اللغوى، إلا أنها أبعد ما يكون عن اعتبارها دولة ثنائية اللغة.

 

ترى أن النص قانونا على العربية كلغة رسمية فى إسرائيل يمثل أعظم حق جماعى يُعطى لأقلية فى دولة قومية إثنية.. فما أهمية هذا النص بينما هناك فجوة بين المكانة القانونية للعربية ومكانتها الاجتماعية ــ السياسية؟

هذه حنكة سياسية من إسرائيل، فهى تقول للعالم إنها لا تريد أن تمحو معالم الأقلية العربية داخلها، بينما تُقصى العربية من الحيز العام.. تماما كما تردد يوميا أنها تريد السلام مع العرب، بينما تشن عليهم الحرب تلو الأخرى.

 

وما هى المكانة العليا التى تطمحون أن تصل إليها العربية؟

الإسرائيليون يخشون من أن السماح بثنائية الهوية والقومية سيعنى انهيار ما تسمى بـ«دولة اليهود». ورغم ذلك نقولها وعلنية: هذا وطننا.. ويجب أن تشاطر العربية العبرية فى الحيز العام. هذه الدولة يجب أن تكون ثنائية القومية وليس يهودية. العربى يناضل للتمسك بهويته، وهو باستخدامه للعربية يقول: هذا حق لى.. هذا جزء منى.. هذا وطنى وأنا أستعمل لغتى. ونحن لا نخاف من استعمال العربية أمام اليهود. إن الجيل الحالى بيننا هو الأكثر تمسكا بالفصحى بفضل تزايد معدلات التعليم. ونحن نطالب بثنائية قومية، وإن لم يتحقق هذا المطلب، فبطرحه دوما نمثل تحديا أمام ما تسمى نفسها «الدولة اليهودية الديمقراطية»، بينما الديمقراطية لا تستقيم مع إقصاء وتهميش لغة أقلية.

 

يبدى بعض مفكرى عرب 48 إعجابا بالثنائية اللغوية فى كندا وفقا للدستور (الإنجليزية والفرنسية)، ويعتبرونها نموذجا للوضع المنشود فى إسرائيل.. فهل ترى إمكانية لتحقيقها؟

إسرائيل لا تعطى الهدايا؛ لذا لن نتوقف عن المطالبة بالثنائية اللغوية، رغم أن الدولة لن تسمح بها، فهى تردد صراحة أنها دولة يهودية ــ صهيونية. كما أنه لا يوجد تهديد للوضع الحالى، فالغرب يدعم إسرائيل، وليس لدينا عمق عربى داعم.

 

أليس من أمل مع ثورات الربيع العربى؟

بالطبع هناك أمل، فعرب 2012 ليسوا كعرب 1990، العالم العربى فى مخاض، والوضع ربما يتغير مستقبلا. ثنائية اللغة ليست بحلم، لكنها أيضا ليست سهلة المنال. وعامة، العربية بالنسبة لنا مسألة وجود، فهذا هو وطننا، واللغة جزء من هويتنا الفلسطينية ــ العربية.

 

رغم النص قانونا على رسمية العربية، إلا أن هذا الوضع غير محمى دستوريا.. فما مخاطر هذا الوضع بينما تخوضون المعركة من أجل ثنائية لغوية حقيقية؟

إذا استشعرت إسرائيل خطرا على «بديهيات» مجموعة الأكثرية، أى الأغلبية اليهودية المتحدثة بالعبرية، فيمكنها بسهولة رفع الرسمية عن العربية.

 

ولماذا لا تحاولون عبر القضاء تحسين المكانة السياسية والاجتماعية للعربية؟

حاولنا مرارا، وبالفعل حصلنا على مكاسب طفيفة، لكن فى النهاية محكمة العدل العليا تحكم وفقا لقانون الدولة «اليهودية».. لا نتوقع أن ينصفنا القضاء الإسرائيلى، الذى لا يعترف هو أساسا بالعربية فى تعاملاته.

 

تنص نظرية الهوية الاجتماعية على أنه عندما يتم رفض شرعية الواقع الاجتماعى يتبنى أفراد المجموعات الدنيا إستراتيجيات جماعية للخروج من الوضع الاجتماعى الراهن الذى يكرس دونيتهم، عاملين على تغيير الموقع الدونى لهويتهم الاجتماعية.. لكن فى المقابل هناك من يميلون لتبنى إستراتيجية الذوبان فى الثقافة السائدة كوسيلة لترقيتهم اجتماعيا.. فما مساحة رفض وقبول الذوبان بين العرب داخل الخط الأخضر؟

هذه القضية مركبة للغاية.. بالفعل توجد بيننا فئة، غالبيتها من العرب الدروز، تتقبل العبرنة والأسرلة طوعا؛ بحثا عن مكاسب اقتصادية واجتماعية، لكن مقارنة بالماضى، فإن هذه الفئة فى انحصار. بينما الفئة الأقوى والمهيمنة هى التى تتحدث عن العربية باعتزاز وتتسمك بهويتها الفلسطينية ــ العربية.

 

لكون إسرائيل دولة قائمة على الهجرة، فإن بها تنوعا لغويا كبيرا.. فما موقف بقية اللغات من الصراع بين العبرية والعربية؟

فى إسرائيل 36 لغة، هى 33 لغة حية وثلاث شبه ميتة. وهذه اللغات فى انحصار شديد، باستثناء الروسية المستخدمة بكثافة فى أحياء المهاجرين الروس اعتزازا منهم بأصولهم، وهى اللغة الأم للمتطرف وزير الخارجية السابق أفيجدور ليبرمان. لكن تبقى العبرية والعربية هما اللغتان الرسميتان، ولا تأثير لأى من بقية اللغات على الحيز اللغوى، إذ لا تتمتع بحيوية لغوية.

 

يسعى المتطرفون عبر الكنيست إلى إلغاء مكانة العربية كلغة رسمية.. فهل تتوقع نجاحهم؟ 

نعم.. فقد صدرت قوانين عنصرية ما كان أحد ليتوقع أن ترى النور. ونحن ننتقل من حكومة (بنيامين) نتنياهو اليمينية إلى أخرى أكثر يمينية، ويمكن فى أى لحظة أن يلغى الكنيست رسمية اللغة العربية.

 

لكن سيكون لهذا الإلغاء تأثيرات سلبية عليكم.. وعلى إسرائيل فى الخارج أيضا؟

لن نخسر كثيرا عن الوضع الحالى، وفى كل الأحوال لن نتخلى عن لغتنا، فهذه مسألة وجودية بالنسبة لنا. أما بالنسبة لإسرائيل، فبينما ننظر نحن إليها على أنها أصبحت أكثر راديكالية وعنصرية، فإنها تقنع الخارج، ولا سيما الغرب، بأنها تعزز يهودية الدولة، خاصة أن الغرب بات يتقبل تعريف إسرائيل لنفسها على أنها «الدولة اليهودية الديمقراطية». وعامة فالغرب، ولا سيما الولايات المتحدة وحتى تحت رئاسة باراك أوباما الذى علقنا عليه آمالا فى البداية، مؤيد لتل أبيب، أما ردود الأفعال العربية فلا تكترث بها إسرائيل.

 

فى الخمسينيات تصدى ديفيد بن جوريون، عندما كان رئيسا للوزراء، لأول محاولة داخل الكنيست لإلغاء رسمية العربية، ومنذ ذاك تعددت المحاولات، لكنها جميعا باءت بالفشل.. وهو ما يستشهد به إسرائيليون للقول بأن دولتهم ديمقراطية تؤمن بالتعددية؟

هذه الدولة أبعد ما تكون عن الإيمان بالتعددية، بل هى أبرز مثال على الهيمنة؛ فهى لا تحترم لغتنا ولا ثقافتنا ولا هويتنا.. اليهود وعبريتهم مهيمنون، فأين هى التعددية؟!.. هذا مجرد شعار وخداع للخارح، ولنقل: حنكة سياسية.

 

تقولون إن العربية مهمة لبقائكم والحفاظ على هويتكم، لكن التحديات الحياتية تحتم عليكم تعلم واستعمال العبرية.. فكيف توازنون بين الأمرين ربما المتناقضين؟

لا يوجد أى تناقض بين أن أحافظ على لغتى العربية وأن أتعلم وأتحدث العبرية. فللعربية وظائف محددة، فهى لغة المنزل الضرورية للتمسك بالهوية والثقافة العربية. بينما للعبرية وظائف مغايرة، أبرزها التواصل مع الآخر على أرضنا والعمل للوصول إلى موارد الدولة. أنا أجيد العبرية وأكتب بها كتبا ومقالات دون أن تتأثر لغتى العربية أو أتخلى عنها.

 

تعيشون صراعا بين الأسرلة والفلسطنة، إذ يحاول الاحتلال أن يرسخ فى أذهانكم أنكم «عرب إسرائيل»، بينما تحاولون أنتم جاهدين لتوثيق ارتباطكم ببقية الشعب الفلسطينى.. فما الدور الذى تلعبه العربية فى هذا الصراع؟

لقد حسمنا هذا الصراع داخل إسرائيل، إذ انتهينا إلى أن الهوية الفلسطينية، واللغة العربية أبرز معالمها، هى الأساس، أما الإسرائيلية فهى هوية وظائفية لا عاطفية، أى مجرد أداة لتحقيق أهدافنا والاستمرار على أرضنا. ومن ثم لا يوجد تناقض بين الهويتين الفلسطينية والإسرائيلية.

 

لكن هناك باحثون يرون أنكم تعيشون على هامش الهوية الإسرائيلية وأيضا على هامش الهوية الفلسطينية؟

بالفعل كنا كذلك.

 

وماذا تغير؟

 أراد اليهود وعملوا على تهميشنا، لكن المفارقة أنه بصمودنا وثباتنا أصبحنا مركز الخارطة.. فها هم بقية الفلسطينيين، وبعض العرب الآخرين يتحدثون عن دور مركزى لنا فى القضية الفلسطينية، وها هم بقية الإسرائيليين يعتبروننا نحن، وليس بقية الفلسطينيين والعرب، الخطر الأكبر، من حيث الديموجرافية، على ما يعتبرونها «دولة اليهود».

 

لا تعترف بكم إسرائيل كأقلية قومية كى لا تمنحكم حقوقا جماعية.. فما تأثير هذا الإنكار على اللغة العربية؟

هى تدرك جيدا أنها شبه جزيرة عبرية فى قلب محيط عربى يتحدث العربية؛ لذا فهى تحصر رسمية العربية فى الورق فقط، بينما تهمشها على أرض الواقع، فمثلا هى لا تفرض العربية كلغة أساسية على الطلاب اليهود، ولا ترسل فواتير الكهرباء والهاتف وغيرهما بالعربية، ولا تقبل مؤسساتها الحكومية أوراقا بالعربية، ولا تكتب السلطات أسماء المدن والقرى والمستوطنات بالعربية.

 

وكم عدد المتحدثين بالعبرية والعربية داخل إسرائيل؟

يتمتع ما بين ثلاثة إلى أربعة ملايين ونصف المليون إسرائيلى بكفاءة وظيفية فى العبرية، مقابل مليون و300 ألف عربى، منهم مسلمون ومسيحيون ودروز ويهود، يتمتعون بكفاءة وظيفة فى العربية.

 

وهل يتوافر إحصاء بعدد اليهود العرب الذين يجيدون العربية؟

لا يوجد إحصاء، لكن بعض اليهود يقولون إنهم لا يجيدون العربية بينما هم فى الحقيقة يجيدونها؛ حيث يخشون ردود أفعال سلبية من قبل الآخرين من اليهود.

 

وهل تخلى كل اليهود العرب عن العربية؟

الأغلبية تخلت عنها، أما البقية، فمنهم من يتمسك بها معتزًا ويردد أنها لغته، ومنهم من يتحدث بها؛ لأنه لا يجيد العبرية.

 

وما هى دوافع تعلم العربية بالنسبة لغير العرب داخل إسرائيل؟

معظم من يتعلمون العربية يتطلعون للعمل أو يريدون التقدم فى أجهزة المخابرات والأمن والجيش، حيث الأبواب مفتوحة لمن يجيدون لغة العدو العربى، ويمكنهم متابعة وسائل الإعلام وما يدور فى العالم العربى أو متابعة الفلسطينيين داخل الخط الأخضر. وهؤلاء يحصلون على رواتب مرتفعة.

 

بعد الحكم العثمانى لفلسطين عام 1917، وتحت الانتداب البريطانى، الذى بدأ عام 1920، تم إحياء العبرية، فى ظاهرة لغوية فريدة فى التاريخ البشرى، للمجتمع اليهودى، وتحولت إلى لغة رسمية بجانب العربية.. ومن يومها تشكون من استخدم الاحتلال لسلاح العبرنة.. فكيف يفعل ذلك؟ 

الأيديولوجية الصهيونية أحادية اللغة، تقوم على مبدأ «لغة واحدة ــ شعب واحد». وبينما العبرية هى اللغة ذاتها، فالعبرنة هى عملية إعطاء العبرية طابعا أيديولوجيا. ويتم ذلك عبر تعزيز العبرية بين اليهود أنفسهم، وتحويلها إلى اللغة الحاضرة والمهيمنة على المجالات الحياتية العامة: بدءا باللافتات، ومرورا بأماكن العمل، والمرافق الحكومية، والمحاكم، ووصولا إلى المؤسسات الأكاديمية، حتى باتت العبرية هى لغة المجالات العامة، فى مقابل تهميش العربية وطمس المعالم العربية.

 

وهل نجحت إسرائيل فى ذلك؟

بالطبع حققت نجاحا كبيرا فى أدلجة العبرية، حتى إن المهاجر الجديد إلى إسرائيل يغير اسمه ليتخذ اسما عبريا. فالعبرية قضية مركزية فى الفكر الصهيونى.

 

سمح الاحتلال بالحفاظ على العربية كلغة التعليم فى المدارس العربية، على أن تكون العبرية مادة إلزامية كلغة ثانية.. ومن يومها ينقسم المفكرون العرب بين من يرى دورا لتعلم العبرية فى الحفاظ على الهوية العربية وبين من يراها خطرا على العربية.. فإلى أيهما تميل؟

لا إلى هذا ولا إلى ذلك.

 

لماذا؟

أنا لا أنظر إلى العبرية على أنها لغة عدو ولا لغة صديق بالطبع. فهى مجرد لغة نتعلمها ونتحدث ونكتب بها لتحقيق أهداف محددة، تماما مثل أى لغة أخرى.. فلماذا نخاف منها؟!.

 

إذن.. برأيك ما هدف الاحتلال من إصراره على تعلم الطلاب العرب للعبرية؟

هى لا تعلمهم العبرية كأداة اتصال وحسب، وإنما لتعريفهم بثقافة اليهود على مدى تاريخهم، على أمل شرعنة الوجود اليهودى فى وطننا ماضيا وحاضرا.

 

وهل من تأثيرات سلبية لمحتوى مناهج اللغة العبرية على الطلاب العرب؟

إلزاميا، يبدأ تعليم العبرية للعرب كلغة ثانية من الصف الثانى الابتدائى مع إمكانية البداية فى الصف الأول، والهدف المعلن هو إتقان العبرية تحدثا واستماعا وقراءة وكتابة؛ لفتح الأبواب أمام إكمال التعليم فى الجامعة، حيث لا وجود للعربية فى المشهد اللغوى، ومن ثم تقلد مناصب رفيعة فى الدولة.

 

وماذا عن المناهج؟

ضمن سياسية «دولة قومية عرقية»، تتجاهل مناهج العبرية أى اعتراف بالثقافة العربية القومية، وتهيمن عليها الثقافة اليهودية عبر أدب دينى ــ حاخامى، مثل التوراة وآغادا (الأسطورة) ومدارش (التفاسير)، وقصص وقصائد مرتبطة بالشعب اليهودى، كوصف وضع اليهود فى الشتات، فضلا عن أشعار ذات طابع قومى بشكل واضح. ويلاحظ البعض أنه حين تتولى شخصيات من أحزاب يسارية وزارة التربية والتعليم يتم تعزيز بعض القيم الليبرالية فى مناهج اللغة العبرية مع تقليل القيم اليهودية ــ الصهيونية، وهى ملاحظة بحاجة لفحص منهجى.

 

وما الهدف؟

يرى بعض العرب أن الغرض من الاستخدام المبالغ فيه للثقافة اليهودية هو جعل هذه الثقافة هى المرجعية للعرب، ودفعهم للقبول بالرواية التاريخية اليهودية، وتربية العرب ليكونوا موالين للدولة اليهودية، بدلا من إيجاد مواطنة حقيقية.

 

ارتكز المشروع الصهيونى على عدة ركائز، منها: إحضار اليهود إلى فلسطين، والاستيطان، وإحياء العبرية بتحويلها من لغة تستخدم للصلاة إلى لغة محكية فى جميع مجالات الحياة حتى باتت بالفعل لغة مهيمنة.. فهل من تأثير لهذه الهيمنة العبرية على المخزون اللغوى لعرب 48 من حيث الاستعارة اللغوية كأحد مظاهر العبرنة؟ 

بالتأكيد، فالعبرية تتغلغل إلى قلب العربية؛ جراء الاتصال المكثف مع اليهود يوميا، فى العمل ومؤسسات التعليم العالى، والمكاتب الحكومية، والمؤسسات الصحية، وبدرجة أقل فى العلاقات الاجتماعية. وبصرف النظر عن العمر أو الجنس أو الثقافة، فإن معظم الفلسطينيين فى إسرائيل يعرفون العبرية ويستعملونها، حتى أصبحت لغة مركزية فى مخزونهم اللغوى. وهناك نزعة متزايدة بين الفلسطينيين للاستعانة بمفردات وشبه جُمل، بل وجُمل عبرية تامة، فأفواه أهلنا، سواء صغيرا وكبيرا، ذكرا وأنثى، شمالا وجنوبا، مليئة بمفردات عبرية. فلا تكاد تخلو جملة من مفردات عبرية، لحد أنك لا تعرف إن كانت هذه اللغة عربية أم عبرية، وهى ليست هذا ولا ذلك، بل «عربرية»، أى لغة هجين مثل «العرنسية» فى بعض دول الشمال الأفريقى العربية. وللأسف هذه دلالة عجز ومؤشر على وجود ثقافة عليا وأخرى دنيا.

 

ولماذا هذه الاستعارة؟

أحيانا للحديث عن شئون علمية متقدمة، أو محرمة، كالجنس، أو غير مستحبة كاستعمال الكلمة العبرية (שירותים) «شيروتيم»، أى مراحيض، وهى من ضمن مئات الكلمات العبرية التى أصبحت جزءا من المعجم اللغوى للفلسطينيين داخل إسرائيل.

 

وما هى أبرز المجالات التى تستعمل فيها هذه الاستعارات؟

فى كل مناحى حياتنا، لكن بالأكثر فى مجال البناء؛ لأن نسبة كبيرة من العرب تعمل كعمال ومقاولين فى المجتمع اليهودى، ومن ثم، وبكثافة، يحتكون باليهود، ومن الكلمات المتداولة فى هذا المجال: (חדר אוכל) «حدار اوخل»، أى مطبخ، و(תקרה) «تكراه»، أى سقف. وكذلك مجال الطعام؛ حيث تأثر العرب بنمط المعيشة الإسرائيلى، لا سيما وأن كثيرا من أنواع الأطعمة، كمنتجات الحليب، دخلت المخزون اللغوى الفلسطينى بأسمائها العبرية، مثل: (במבה) «بمبا»، و(בסל) «بسلى». إضافة إلى مجال الصحة، فجميع الفلسطينيين أعضاء فى صناديق المرضى (الخدمات الصحية) المختلفة، حيث يحتكون باليهود، ومن أبرز الكلمات المتداولة فى هذا المجال: «קופת ــ חולים» (كوبات حوليم) أى صندوق المرضى، و»אקמול» (اكمول) أى دواء لخفض الحرارة وتقليل الألم، و»רופא» (روفيه)، أى طبيب، و»בית ــ חולים»، (بيتحوليم)، أى مستشفى.

 

أليس من مزايا فى تعلم العبرية ضمن الصراع العربى ــ اليهودى؟

بالطبع، فتعلم العبرية يتيح لنا معرفة هذا الآخر. ثقافته وعقليته وكيف يفكر؛ ومن ثم يمكننا مواجهته، لا سيما وأننا نفهمهم وهم لا يفهموننا، نعرفهم وهم لا يعرفوننا. فنحن نتعلم عنهم كل شىء، وهم يتجاهلوننا، وينبذوننا.

 

عادة ما تُقسم المناطق العربية داخل الخط الأخضر إلى الجليل والمثلث والنقب.. فأيها أكثر استعمالا للعبرية؟

المثلث والنقب.

 

لماذا؟

لأنهما متاخمان لبلدات ومدن يهودية، أما الجليل فبعيد. وعادة يتحدث الكثير من العرب العبرية فى المدن المختلطة، حيث الاحتكاك أكبر بين العرب واليهود.

 

وأى الفئات العمرية بين العرب أكثر استعمالا للعبرية؟

الشباب والذكور.

 

لماذا هؤلاء؟

لأنهم الأكثر تعليما والأكثر احتكاكا باليهود. لكن مؤخرا، بدأ عدد الفتيات العربيات المتحدثات بالعبرية فى التزايد مع ارتفاع نسبة التحاقهن بالجامعة واندماجهن بسوق العمل.

 

للعبرية فى البلدات والمدن العربية حضور قوى على لافتات المتاجر ومحطات الوقود والصيدليات والبنوك، وغيرها.. فبماذا تفسر هذا الحضور؟

بعض العرب يريد جذب انتباه المستهلك، وآخرون يعجزون أحيانا عن استحضار المفردة العربية المراد التعبير عنها. فالمشهد اللغوى فى هذه البلدات والمدن يعانى فوضى لغوية، حتى باتت العبرية تهدد العربية بين أهلها؛ إذ تضرب كل مجالات المجتمع الفلسطينى من البيت إلى أماكن العمل، بينما لم ينج منها إلا شواهد القبور ومنابر المساجد.

 

يتبع الاحتلال خطة ممنهجة فى تهويد وعبرنة أسماء المناطق والأحياء والشوارع.. فما مخاطر هذه العبرنة؟

لكل شعب ذاكرة تاريخية، وعموما يلعب مصطلح مكان الذاكرة أو مواقع الذاكرة (places of memory) دورا مركزيّا فى بلورة هوية الفلسطينيين. ومن ثم تدل عبرنة أسماء المواقع على محاولة لترجمة الهيمنة السياسية اليهودية إلى هيمنة لغوية على المكان، بمعنى أن احتلال المكان لا يكتمل بدون احتلاله لغويا، أى احتلال الذاكرة، على أمل إضعاف ثم طمس الهوية الفلسطينية.

 

وهل من سمات مميزة لهذه الأسماء؟

هى أسماء ذات طابع قومى صهيونى، كتسمية مدينة «هرتزليا»، وأسماء معارك تاريخية للشعب اليهودى، وأسماء شخصيات أجنبية دعمت المشروع الصهوينى، فضلا أحيانا عن ترجمة الاسم العربى إلى العبرية (عبرنة) ليصبح جبل الزيتون «هار هزيتم». ثم انعكست عبرنة الأسماء على المناهج الدراسية، لمحو الأسماء الفلسطينية، تهويدا للتاريخ، وانسجاما مع الرواية الصهيونية التى باتت، بحسب الباحثة نوغا كيدمان، مهيمنة، وهى: «بلاد يهودية مع قليل من التراث والتاريخ والجغرافيا العربية، فر سكانها العرب وهم لا يعنوننا فى شىء».

 

ولماذا لا يؤسس العرب سلطة مثل «سلطة تسمية الأماكن اليهودية» لتسمية اللافتات وغيرها فى البلدات والمدن العربية، وإزالة الألفاظ العبرية من وسائل الإعلام العربية فى مواجهة غزو العبرية لكونها لغة الأغلبية والإنجليزية لكونها لغة العولمة؟

بالفعل بلدية الناصرة بدأت محاولة فى هذا المسار، لكن أتوقع أن تستعمل الدولة كل وسائلها لعرقلة هذا الجهد؛ فهى لا تتسامح مع كل ما ترى فيه تهديدا ليهوديتها وصهيونيتها.

 

إذا استمر هذا الغزو العبرى للمشد اللغوى العربى، فأى مصير تتوقعه للعربية؟ وما تأثير ذلك على هويتكم الفلسطينية؟

لست قلقا؛ فالعربية أقوى من هذه التحديات جميعا؛ لسببين، أولهما أنها لغة القرآن الكريم، ونحن نصلى ونذكر الله بالقرآن، وآخرهما لأنها أبرز مظاهر تمسكنا بالقومية العربية. ربما أخشى على العربية أن تضعف هنا أو هناك؛ جراء الإهمال فى زيادة حضورها، لكن لا أخشى أبدا سقوطها.. العربية تنزف، لكن لن تموت؛ فنهايتها تعنى نهايتنا كعرب، فهى الوعاء والعمدة الرئيسة فى ترسيخ هويتنا الفلسطينية؛ إذ تساعدنا على حفظ الرواية والذاكرة الفلسطينية.

 

وهل ترى لوسائل الإعلام الخاصة بعرب 48 دورا فعليا فى الحفاظ على العربية؟

طبعا لها دور كبير، وهذه بارقة أمل، فالمواقع الإلكترونية العربية، وهى بالعشرات، فى تزايد، ويزورها المواطنون العرب. ويوجد أيضا «راديو الشمس»، وهو يلعب دورا مهما فى معركة اللغة. مقابل وسائل الإعلام العبرية المهيمنة، فإن مجرد متابعتنا لوسائل الإعلامية العربية داخل الخط الأخضر يزيد من تمسكنا بلغتنا، هذا فضلا عما تتناوله من قضايا مهمة.

 

وماذا عن دور المؤسسات الثقافية ودور النشر والحركة الفنية ومنظمات المجتمع المدنى داخل الخط الأخضر فى مواجهة غزو العبرية؟

بدأت تأخذ حيزا أكبر فى السنوات الأخيرة، إلا أنه للأسف ما زال دورها متواضعا.

 

لماذا؟

بالأساس لغياب التشبيك والتنسيق بين هذه المؤسسات؛ ما يحرمها من توحيد جهودها نحو تحقيق نتائج أفضل للعربية.

 

فى مقابل استخدام زائد للثقافة والأدب اليهودى فى تعليم العبرية للعرب.. ما هو السبيل لجعل العربية لغة جوهرية فى جهاز التعليم العربى، بحيث تسهم فى بناء الهوية الجمعية العربية وتعزز الرواية التاريخية لأصحاب الأرض كأغلبية قومية أصلانية؟

إسرائيل تحاول عبر جهاز التعليم العربى فرض هيمنتها وسيادتها اللغوية لتفريغ العربية من مضامينها الهويتية. ومن آن إلى آخر نخرج بمبادرات داخل المدارس العربية لتعزيز تدريس العربية كلغة هويتنا، لكن إسرائيل دوما لها بالمرصاد.

 

كيف؟

حتى لو كتب أكاديميون عرب المناهج العربية، فإن وزارة التربية والتعليم تراجعها قبل إقرارها، وتفرغها من الهوية العربية والوعى القومى والدينى، ثم تراقب ما يتم تدريسه طيلة العام الدراسى. فضلا عن تحكمها فى تعيين المدرسين بالمدارس العربية؛ فتستبعد كل من لديه حتى مجرد ميول قومية عربية، وهنا يظهر دور المؤسسات الأمنية فى جمع المعلومات عن المدرسين.

 

هل تعتقد أن جهودكم لترفع سلطات الاحتلال يدها عن مناهج التدريس فى جهاز التعليم العربى يمكن أن تؤتى ثمارها؟

التغيير صعب للغاية؛ فهذه القضية تعتبرها إسرائيل خطا أحمر، ولا توجد رافعة للضغط على إسرائيل لتغيير المناهج العربية، فنحن مجموعة تأثير ضعيفة، وبقية عالمنا العربى فى حالة تغيير وانشغال، والغرب مع إسرائيل. وما أنجزناه حتى الآن هو مجرد تغييرات هامشية لسنا راضين عنها.

 

فى المقابل.. ما هى مساحة تعليم العربية فى المدارس اليهودية؟

رغم قرار وزير التربية والتعليم عام 1986، يتسحاق نافون، بتحويل العربية من مادة اختيارية إلى إجبارية، إلا أن 55% فقد من المدارس اليهودية (رسمية ورسمية دينية) تدرس العربية، حيث لم يتم تطبيق القرار فى كل المدارس؛ لنقص المعلمين، والانطباع العام السلبى عن العربية، فضلا عن عدم رغبة الطلاب والأهل فى تدريس العربية فى مدارسهم. وتعليم العربية إلزامى فى هذه المدارس من الصف السابع وحتى الحادى عشر، إلا أنها تُدرس العربية كأداة اتصال للتعرف على العدو؛ إذ ترى إسرائيل أن تعليمها كحالة مدنية ثقافية سيعوق عملية بناء الهوية الجماعية اليهودية. عامة قرار تعليم العربية هو قرار أمنى بالدرجة الأولى لخدمة الجيش وأجهزة الأمن والمخابرات.

 

تفيد إحصاءات بأن قطاع من الطلاب اليهود يفضلون تعلم الفرنسية والروسية على العربية.. فلماذا؟

الروسية يقبل عليها الطلاب فى تجمعات المهاجرين الروس، أما الفرنسية فيراها الطلاب لغة ذات مكانة مرموقة، بينما يعتبرون أن العربية لا تساهم فى التقدم الاقتصادى والاجتماعى لدارسها.

 

تبدو فروقا كبيرة بين أهداف تعليم العبرية فى المدارس العربية وتعليم العربية فى المدارس اليهودية.. فما هى؟

بل فجوة كبيرة، فتعليم العبرية فى المدارس العربية يركز على الجوانب الثقافية والأدبية وفهم الإنتاج العلمى اليهودى من خلال اللغة والاتصال والتواصل مع الشعب اليهودى والاندماج فى الدولة والتعايش مع اليهود، بينما يركز تعليم العربية فى المدارس اليهودية على الجوانب النفعية، كلغة اتصال، مع إهمال الجوانب الثقافية.

 

تطالبون بإنشاء جامعة عربية.. فإلى أين وصلت جهودكم؟  

قمنا بمحاولات كثيرة، لكن جميعها فشل.

 

لماذا؟

أفشلتها إسرائيل، فهى لا تريد جامعة عربية داخلها؛ خوفا من أن تصبح موقعا قوميا عربيا وشرارة للمقاومة ضد هيمنة لغته العبرية. عموما إسرائيل تخاف كل ما هو عربى.

 

وماذا عن دور الأحزاب العربية فى الحفاظ على العربية؟

لست راضيا عن دورها؛ فرغم النص فى برامجها وأدبياتها على الحق فى الحافظ على العربية كلغة للأقلية، إلا أن جهودها ليست على المستوى المطلوب. وحتى مواقع هذه الأحزاب على الإنترنت هى مجرد مواقع حزبية؛ ومن ثم لا يزورها إلا المهتمون بالعمل الحزبى. يجب أن تصبح هذه المواقع أكثر شمولية واجتماعية؛ لجذب مزيد من العرب؛ بما يمكنها من لعب دور ملمس فى الحفاظ على لغتنا. فيما تبذل الحركة الإسلامية جهودا كبيرة للحفاظ على العربية. وعامة فإن للإسلام، كلغة القرآن، وللتعليم العربى، الدور الأكبر فى صمود العربية.

 

لمجامع اللغة العربية دور فى الحفاظ على العربية وتطورها، بما يساعد على صمودها فى مواجهة العبرنة والعولمة.. فها تقييمك لجهود «مجمع اللغة العربية الرسمى»، الذى أقيم عام 2007، و«مجمع القاسمى للغة العربية وآدابها»، الذى ظهر فى العام التالى؟

أداؤهما متواضع للغاية.. المجمعان أهدافهما متشابهة تقريبا، مع اختلاف فى أولويات هذه الأهداف وأساليب العمل؛ ما يؤكد أن إقامة المجامع فى إسرائيل هى عملية سياسية وليست رؤيوية تفهم متطلبات الحاضر واحتياجات المستقبل اللغوية.

 

وعامة، المجمع يقام فى الدول القومية التى تعتبر فيها اللغة جزءا من الهوية الوطنية للدولة وعاملا فى تحديثها وحداثتها. أما فى إسرائيل فإن الدولة تعتبر العربية لغة رسمية، ولكن دون الاعتراف بدورها القومى والوطنى؛ فأصلا لا يعترف القانون الإسرائيلى بالعرب داخل إسرائيل كمجموعة قومية، بل كأقلية دينية وإثنية. وعلى العكس، تم إنشاء مجمع اللغة العبرية عام 1953 فى سياق الدولة القومية اليهودية التى تضع العبرية فى صلب مشروعها الصهيونى والثقافى والقومى.

 

إذن لماذا أصدر الكنيست قانونا لإقامة مجمع للغة أقلية لا يعتبرها قومية؟

مجرد استكمال مزعوم لصورة «دولة اليهود الديمقراطية». وهذا يدل على أن السقف الذى تطمح له الدولة من مجمع اللغة هو أن يكون مركزا بحثيا لغويا لا أكثر.

 

ماذا تعنى بذلك؟

المجامع عامة دورها محدود فى التحديث اللغوى، وفى حالتنا فهى أكثر محدودية، ولا تتعدى كونها مراكز أبحاث. فإذا لم تكن اللغة مهيمنة فى الحيز السياسى والرسمى والجماهيرى، فإن التعريب الأكاديمى ممكن، ولكن التعريب الجماهيرى، أى أن تكون العربية لغة جميع الناس، هى مهمة صعبة للغاية. وهذا ليس من مهام المجامع، وإنما من تصور النخب لدور اللغة القومى والثقافى.

 

وهل من دور لـ«اتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية» فى مساعدتكم للحفاظ على العربية؟

للأسف دوره هامشى، ونحن ننتظر منه دعما سخيا للغتنا العربية. نريد تنسيقا بين المجامع العربية وبيننا، وننتظر مساعدة من عالمنا العربى لتعريب المفردات العبرية التى يستخدمها الكثير من العرب داخل الخط الأخضر.

 

منتقدين تعدد المجامع للغة واحدة، يذهب البعض إلى أنه لا حاجة لكم بمجمع لغة عربية إذ يكفى مجمع واحد فى عاصمة عربية.. فهل توافقهم الرأى أم أن للحالة العربية داخل إسرائيل خصوصيتها؟

لا توجد حاجة إلى أكثر من مجمع واحد، وإذا توافرت النوايا الحسنة، فمجمع واحد، القاهرة أو دمشق، يكفى العرب جميعا. نحن 1.3 مليون عربى داخل الخط الأخضر ولدينا مجمعان لغويان، وهذه أعتبرها نكتة.

 

تُعقد فى العالم العربى سنويا العشرات، وربما المئات، من المؤتمرات فى جميع المجالات، فضلا عن تنظيم مؤتمرات ومسابقات فى مجال الإعلام. فما مساحة وجودكم فى هذه الفاعليات؟

محدود للغاية، وندعو السيد نبيل العربى (أمين عام جامعة الدول العربية) وكل المسئولين العرب إلى تخصيص حيز لنا فى كل فاعليات عالمنا العربى، دعما لصمودنا والمحافظة على لغتنا وهويتنا.

 

تتأثر مكانة اللغة العربية بتبعية الأقلية العربية لسوق عمل الأغلبية ولغته العبرية.. هل يعنى ذلك أن غياب التعاون الاقتصادى بينكم وبين العالم العربى يُضر بمكانة العربية داخل إسرائيل؟

بالطبع، فنحن منبوذون من إسرائيل ومنبوذون من الكثيرين فى عالمنا العربى.

 

إذن.. كيف يساهم العالم العربى فى حفاظكم على العربية دون الوقوع فى فخ التطبيع؟

لابد من إعادة تعريف مصطلح التطبيع.. التواصل بين أبناء الشعب العربى الواحد ليس تطبيعا. وحتى لو افترضنا جدلا أنه تطبيع، فيجب أن لا تؤخذ الأمور بشكل مطلق. لابد من استثناء يخدم القضية الفلسطينية العربية؛ فلتواصلهم معنا أهمية كبرى؛ إذ يعزز لغتنا ويثبت هوتنا. هذا فضلا عن أننا يمكن أن نخدم علمنا العربى، فلا أحد غيرنا يفهم بشكل دقيق كل ما يدور فى إسرائيل.  

 

على الصعيد الشعبى والرسمى فى العالم العربى، يعتبركم الكثيرون «إسرائيليين»؛ ما يترتب عليه عملية نبذ لكم.. فما تأثير هذا النبذ العربى على جهودكم للحفاظ على اللغة العربية داخل إسرائيل؟

هذا صحيح، فنحن غير مرحب بنا من قبل بقية عالمنا العربى ومن قبل إسرائيل أيضا، وهذه هامشية مزدوجة.. وبالطبع عدم تواصل عالمنا العربى معنا يضعف عربيتنا، فنحن مضطرون معظم الوقت لاستعمال العبرية.

 

فى معركة اللغة.. هل تتلقون أى دعم عربى، سواء من الجامعة العربية أو دول عربية أو منظمات مجتمع مدنى أو مثقفين أو غيرهم؟

لا. لا يوجد أى دعم من أى طرف عربى؛ ما يؤثر علينا سلبا بالتأكيد. لكننا موجودون على هذه الأرض منذ آلاف السنين، وسنبقى وستبقى لغتنا، وندعو عالمنا العربى إلى دعم صمودنا، ولا سيما اللغوى.

 

فى ظل العولمة كيف ترى العلاقة بين الإعلام فى العالم العربى واللغة العربية داخل إسرائيل؟

كنا مجبرين على الاستماع إلى الأخبار بالعبرية، أما الآن فللفضائيات العربية دور كبير فى الحفاظ على العربية، حيث يتابع المواطن العربى داخل إسرائيل هذه الفضائيات، ولا سيما تلك التى تستعمل العربية الفصحى على مدار الساعة، وعلى رأسها الجزيرة والعربية؛ ما يؤثر بالإيجاب على مخزوننا اللغوى.

 

وهل من جديد تنتظرونه من هذه الفضائيات؟

نعم.. ننتظر منها أن تضعنا دوما على أجندتها، وأن تولى قضاينا المزيد من الاهتمام.

 

نعيش مع إسرائيل حالة اللا سلم واللا حرب.. فهل يؤثر هذا على نمو اللغة العربية؟

بالطبع يؤثر سلبيا إذ ينظر اليهود إلى العربية على أنها لغة العدو.

 

وأى تأثير تتوقعه على العربية إذا تحقق سلام عادل وشامل؟

أنت متفائل.. حتى لو تحقق هذا السلام، فإن إسرائيل لا ترى نفسها جزءا من منطقتنا، بل جزءا من الغرب، ولا سيما أوروبا التى ترتبط بها فكريا وثقافيا؛ ومن ثم، وعلى عكس ما يتوقع كثيرون، لن تنفتح بشكل كبير على عالمنا العربى، وهو ما كان من شأنه دعم لغتنا العربية داخل الخط الأخضر.

 

تعتبركم الأدبيات السياسية خط الدفاع العربى الأول فى وجه الاحتلال.. فما مخاطر احتمال خسارتكم لمعركة اللغة على الصراع العربى ــ الإسرائيلى؟

إذا هزمتنا التحديات وفقدنا العربية.. فقدنا أنفسنا وخصويتنا، وأصبحنا أشلاء هوية.

 

وكيف يمكن التصدى لهذه التحديات التى تواجهها العربية؟

لابد من التحرك على ثلاثة محاور، هى الممارسات اللغوية، أى أن نفهم كيف نستخدم اللغة، مثل: هل هناك اختلاف فى استخدام العربية بمستوياتها المتنوعة بين المجالات العامة والخاصة؟، هل هناك مزج بين الفصحى والعامية فى المدارس العربية؟، هل هناك خليط من اللغات يستخدمه العرب؟. والمحور الثانى هو الأيديولوجية اللغوية، أى معتقداتنا حول اللغة وأدوارها، أى هل نريد القومية المحلية واللهجة العامية أم نريد التمسك بالقومية العربية؟. وأخيرا السياسات اللغوية، أى محاولة التأثير بشكل مباشر أو غير مباشر على الممارسات اللغوية للأفراد أو المجموعات.

 

بعد إنجاز هذه المحاور.. كيف يتحرك العرب لتحقيق المكانة الحقيقة للعربية كلغة رسمية؟

يجب إيصال مشكلات اللغة للمحاكم، والضغط على البلديات فى المدن المختلفة لاستخدام اللغتين الرسميتين فى الأماكن العامة، وربط مسألة اللغة بالحقوق الجماعية لأقلية قومية أصلانية، والمطالبة بجعل العربية إلزامية فى كل المدارس اليهودية، على أن يكون تدريسها من خلال اعتبارات مدنية ثقافية وليس أمنية - مخابراتية، والمطالبة بزيادة حضور العربية فى المكاتبات العمومية.

 

وكذلك تشجيع الجامعات الإسرائيلية على زيادة حضور العربية فى المشهد اللغوى عبر إقامة ندوات وتمكين المحاضرين من إلقاء محاضرات بالعربية، وعقد مؤتمرات سنوية حول العربية وآدابها بدعم من مؤسسات الحكم المحلى والمجتمع المدنى، وإلقاء محاضرات حول العربية فى المدن والقرى العربية وربطها بواقعنا، وبناء سياسة لغوية واضحة لاستخدام العربية فى المجالس المحلية ومؤسساتها، كإصدار مستندات الخدمات بالعربية، مثل فاتورة المياه والوثائق الرسمية الأخرى، والبريد والمصارف، وإصدار جريدة أسبوعية عن المجالس والبلديات المحلية تعنى بالعربية عبر ذكر أهمية اللغة فى الوجود والتمكين.

 

كما يمكن تعزيز الجانب البحثى للعربية فى المجامع، وإقامة مركز لإجراء الأبحاث حول الجوانب المختلفة لها، كى نطور وسائل تربوية جديدة لتدريس العربية، وإنشاء مكتبات عامة فى جميع القرى والمدن العربية، وإنشاء مواقع إلكترونية وإثراؤها بالنصوص الرقمية، وتكريم الأدباء والباحثين ومنح مكافآت مادية ومعنوية للعاملين على تطوير العربية، فضلا عن إقامة المسارح لتمثيل مسرحيات بالعربية الفصحى، وإقامة ندوات شعرية وثقافية تعنى بالعربية وأهميتها للفرد وللمجموعة داخل الخط الأخضر.

 

مع كل هذه المتطلبات.. هل أنت متفاءل أم لا بمستقبل العربية فى إسرائيل؟

بالطبع

 

كيف؟

لغتنا عملاقة، وأنا متفائل وأراهن على قدرة الإنسان العربى على تغيير واقعه السوداوى. فعالمنا العربى الآن على مسار التغيير والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان؛ وهو ما سيوفر لنا عمقا عربيا حقيقيا فى مواجهة إسرائيل، لكن هذا لن يحدث بعد شهور أو سنوات، بل بعد أجيال. إسرائيل الآن، ولكونها الطرف الأقوى، تدعى أمام العالم بأنها ديمقراطية مع كل مواطنيها، رغم أنها ديمقراطية بشكل أساسى مع اليهود فقط. لكن حين يغير عالمنا العربى مساره، ويصبح قويا، سيمكننا نشر روايتنا العادلة للصراع.



هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved