قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» هيكل: «السياسة» تكشف خطوط «السلاح» بعد 20 ساعة قتال (6)

آخر تحديث: الإثنين 27 أكتوبر 2014 - 1:47 م بتوقيت القاهرة

عرض ــ خالد أبو بكر

رسالة سرية من السادات لـ«كيسنجر» صباح 7 أكتوبر: «لا نعتزم تعميق مدى الاشتباكات أو توسيع مدى المواجهة»

هيكل: هذه ربما تكون أول مرة فى التاريخ يكشف فيها محارب لعدوه عن نواياه كاملة

اختارت إسرائيل الواثقة من نوايا مصر التركيز على الجولان لتعود بعد ذلك إلى سيناء لتصفية بقية الحساب

ديان انهار يوم 7 أكتوبر وجولدا مائير كانت فى حالة ذهول مما تسمعه عن الخسائر الإسرائيلية

كيسنجر: إسرائيل تلقت هزيمة استراتيجية بصرف النظر عما يمكن أن يحدث بعد ذلك

إسرائيل تصرخ مستنجدة بواشنطن بعد أن خسر جيشها خمس طائراته وربع دباباته فى أربعة أيام

صباح يوم 7 أكتوبر 1973 وصلت العلاقة بين «السلاح» و«السياسة» إلى قمة الدراما على الجبهة المصرية، ففيما كان السلاح ورجاله «يتقدمون على الجسور كما لو أنهم يقومون بعملية تدريب»، والعدو عاجز عن تحديد مناطق جهودهم الرئيسية، أو الكشف عن نواياهم الحقيقية، كانت «السياسة» فى إدارة هذه الحرب تتطوع بكشف هذه النوايا وكشف «خطوط السلاح» قبل أن يمضى على اندلاع القتال 20 ساعة فقط. ففى الوقت الذى كانت الفرق المصرية الخمس بطول جبهة قناة السويس تنتهى من تحقيق مهمتها المباشرة بعبور القناة، واقتحام خط بارليف وتكبيد العدو أكبر خسائر ممكنة فى الأفراد والسلاح والمعدات، وقبل أن تندفع لتحقيق مهمتها التالية بتوسيع رءوس الجسور شرق القناة وصد ودحر الهجوم المضاد الرئيسى للعدو، كان الرئيس أنور السادات قد أرسل إلى وزير الخارجية الأمريكى، «هنرى كيسنجر» عبر قناة «سرية» رسالة يقول له فيها «إننا لا نعتزم تعميق مدى الاشتباكات أو توسيع مدى المواجهة»، و«كانت هذه أول مرة ــ ربما فى التاريخ كله ــ يكشف فيها طرف محارب لعدوه نواياه كاملة»، بتعبير الأستاذ محمد حسنين هيكل.

ننوه فى البداية إلى أن الكاتب الكبير فى هذا الجزء الثانى (على طريق الحرب) من كتابه «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» قد حشد الكثير من المعلومات والوثائق التى توضح حقيقة ما جرى على جبهات «السلاح» وجبهات «السياسة» على مدى 20 يوم قتال (من 6 أكتوبر ــ 26 أكتوبر) يوما بيوم، بشكل يجعل من يتصدى لعرض هذا الكتاب فى مأزق حقيقى، ذلك أن المساحة المتاحة مهما كبرت لن تستطيع أن تلم بكل هذه التفاصيل، ولذلك اضطررنا للتوقف أمام محطات رأيناها مفصلية خلال هذه الأيام العشرين، ونشدد على أنها لا تغنى ــ بحال من الأحوال ــ عن العودة للنص الأصلى.

يقول «الأستاذ» على الرغم من عبور القوات المسلحة لقناة السويس إلا أن السادات لم ينم طوال ليلة العبور، ويفسر ذلك بأنه عاش معجزة، وكان هو الذى أعطى الإشارة فوقعت المعجزة (وشاهد ذلك ما تكرر على لسانه كثيرا فيما بعد عن «جيشى» و«طيرانى» و«أسطولى»، وكثير غير ذلك منسوب إليه شخصيا).

وإنه يريد أن يحتفظ بنسب المعجزة إليه وحده (وشاهد ذلك قوله فى هذا الوقت المبكر إنه لا يريد زحاما حوله.. حتى من مستشاره للأمن القومى الذى أرسله ليعمل من قصر الأمير السابق محمد عبدالمنعم). وهو نتيجة لذلك كله مطالب فى تقديره بضرورة التحرك بسرعة لتثبيت المعجزة واستمرار بقائها فى حوزته وإحكام السيطرة عليها قبل أن يحدث أى شىء. وقاده ذلك بالطبع إلى التفكير فى إسرائيل، وقاده التفكير فى إسرائيل إلى التفكير فى الولايات المتحدة الأمريكية (وشاهد ذلك ما فعله صباح يوم 7 أكتوبر)».

غلاف كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» للكاتب الصحفى الكبير محمد حسنين هيكل

ما حدث صباح الأحد 7 اكتوبر ــ بحسب «الأستاذ» ــ أنه لم يكن قد مضى على بدء المعارك أكثر من 20 ساعة وبعث الرئيس السادات برسالة إلى هنرى كيسنجر، ووقعها حافظ إسماعيل، مستشار الرئيس السادات للأمن القومى (منشورة بكاملها فى الكتاب)، ويقول البند رقم (6) فيها «إننا لا نعتزم تعميق مدى الاشتباكات أو توسيع مدى المواجهة».

ويعلق الكاتب الكبير على هذه الرسالة قائلا: «كانت هذه الرسالة شكلا وموضوعا علامة خطيرة تجعلها بداية تحول لا شك فيه فى إدارة الصراع كله، من ناحية الشكل فإن هذه الرسالة جرى توصيلها إلى كيسنجر عن طريق القناة الثانية، أى القناة السرية التى تمر عن طريق وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وربما كانت هناك حاجة إلى هذه القناة عندما كانت الرغبة فى تجنب وزارة الخارجية والاتصال من وراء ظهرها بكيسنجر فى البيت الأبيض، ولكن كيسنجر أصبح الآن وزيرا للخارجية خلفا لوليم روجرز، وبالتالى فإن الاتصال به عن طريق القناة السرية لم يعد يخدم الهدف المقصود من الأصل، وكان واضحا أن كيسنجر يدرك طبيعة هذا الاختلاف فى الصورة، فهو لم يبعث برسالته عن طريق القناة الثانية، وإنما بعث بها عن طريق وزارة الخارجية».

يتصل بجانب ذلك من ناحية الشكل أمر على درجة شديدة من الخطورة. ذلك أن العودة إلى هذه القناة السرية فى هذا الوقت، والتذكرة بالاتصالات السابقة وما دار فيها كان من شأنه على الفور أن يستعيد بطريقة كاملة أجواء هذه المحادثات والموضوعات والتفاصيل التى تم بحثها من خلالها. ولما كان ذلك كله قد جرى قبل الحرب وقبل الصورة المعجزة للعبور فى اليوم السابق، فإن الجانب المصرى سواء وعى ذلك أو غاب عنه عاد إلى استئناف الحديث مع كيسنجر من حيث تركه آخر مرة فى فبراير 1973، مع أن الصورة العامة بعد القتال اختلفت تماما عما قبله».

ويواصل هيكل «أما من ناحية الموضوع فإن بعض العبارات كانت ــ ولا تزال ــ مثيرة للاستغراب: إن العبارة التى وردت فى الرسالة والتى جاء فيها بالنص فى البند رقم 6 من الرسالة (إننا لا نعتزم تعميق مدى الاشتباكات أو توسيع مدى المواجهة) كانت أول مرة ــ ربما فى التاريخ كله ــ يقول فيها طرف محارب لعدوه بنواياه كاملة، ويعطيه من التأكيدات ما يمنحه من حرية الحركة السياسية والعسكرية على النحو الذى يراه ملائما له وعلى كل الجبهات وذلك أن التعهد بـ«عدم تعميق مدى الاشتباكات أو توسيع مدى المواجهة» معناه بالنسبة لإسرائيل ــ وقد كانت الرسالة فى خاتمة المطاف واصلة إليها ــ أنها تستطيع أن تعيد ترتيب موقفها بأعصاب هادئة، وتستطيع تنظيم أولوياتها. وقد كان ذلك ما حدث فعلا، واختارت اسرائيل الواثقة من نوايا الجانب المصرى أن تركز كما تشاء على الجبهة السورية، ثم تعود بعد ذلك إلى الجبهة المصرية لتصفية بقية الحساب».

النجاح يتوالى

انتقل بعد ذلك الكاتب الكبير للحديث عن الأوضاع فى ميادين القتال يوم 7 أكتوبر، فأكد أن القوات المصرية والسورية تواصل نجاحاتها منذ بداية القتال، وذلك من واقع «تقرير موقف» مقدم من مكتب الرئيس للشئون العسكرية إلى الرئيس السادات، ومنشور كاملا فى الكتاب. وأشار إلى أن أصداء المعارك كانت قد بدأت تصل إلى كل مكان فى العالم العربى، وتحدث ردود فعل أشبه ما تكون بسلسلة ردود فعل انفجار نووى بما يتبعه من شائعات وتساقطات. مشيرا إلى أن الهجوم المصرى ــ السورى «كان منسقا بدرجة عالية الكفاءة. وقد نجحت القوات العربية فى تحقيق مفاجأة استراتيجية وتكتيكية حققت نتائج لم تكن فى تقديرات إسرائيل».

 

شارون وديان وكبار القادة يخططون للهجوم المضاد

ثم عرض لسلسلة اجتماعات مجلس الوزراء الإسرائيلى بكامل هيئته، كانت قد بدأت من ليلة 7 أكتوبر وطوال نهاره، وأثناء الاجتماعات اختلفت الآراء بين موشى ديان وزير الدفاع، ورئيس الأركان «دافيد إليعازر»، كان رأى الأخير: أن الموقف تحت السيطرة رغم الخسائر الكبيرة وصدمة المفاجأة.

وكان رأى «ديان»: أن الموقف أسوأ بكثير مما عرضه رئيس الأركان. وتقديره أنه لابد من إجلاء بقية النقاط الإسرائيلية الحصينة على قناة السويس، والتراجع إلى خط دفاعى جديد على بعد 20 كم من قناة السويس على أن يتم التمسك بهذا الخط بأى ثمن. ولاحظ الوزير الإسرائيلى «جاليلى» أن ديان كان منهارا، كما أن جولدا مائير كانت فى حالة ذهول مما تسمعه.

واستقر الرأى فى الاجتماع على أن يتوجه رئيس الأركان فورا إلى الجبهة الجنوبية لتقييم الموقف ويحدد إمكانيات قيام إسرائيل بهجوم مضاد. وتقرر فى الاجتماع أيضا أن يتخلى «رحاييم بارليف» عن واجباته كوزير للصناعة والتجارة. وأن يعود إلى الخدمة العسكرية مؤقتا برتبته السابقة عندما كان رئيسا لهيئة أركان الحرب، ويتوجه فورا إلى الجبهة الشمالية لإجراء تقدير جديد للموقف وبحث إمكانية هجوم إسرائيلى مضاد.

وانتهى المجلس فى نهاية المطاف إلى قرار يطلب إلى الولايات المتحدة إمداد عاجلا من السلاح، خصوصا من الطائرات والدبابات. وكانت «جولدا مائير» بعد الاجتماع شديدة العصبية وهى تعطى الأوامر بطلب النجدة الأمريكية سريعا وبدون إبطاء.

تحركات كيسنجر

يعرض بعد ذلك الكاتب الكبير لتحركات وزير الخارجية الأمريكية بقوله «كان كيسنجر» يتحرك بكل قوة. وقد كان همه الأول ليلة 7 أكتوبر (صباح 7 أكتوبر بتوقيت القاهرة) الإمساك بزمام التحركات فى الأمم المتحدة بحيث يمنع بحث الأزمة أمام الجمعية العامة. لأنه كان يخشى من أغلبية دول العالم الثالث الموجودة فيها، ويعتبرها موالية للعرب. ونجح أيضا فى تعطيل اجتماع طارئ لمجلس الأمن. وكان اعتقاده الراسخ أن إسرائيل سوف ترد الهجوم المصرى وسوف تحوله بسرعة إلى هزيمة ساحقة.

وكانت تعليمات «كيسنجر» لمساعديه فى تلك الفترة هى إعداد مشروع قرار «يقضى بعودة جميع القوات إلى مواقعها السابقة قبل بدء العمليات». وعندما تلقى «هنرى كيسنجر» رسالة الرئيس «السادات» بتوقع «حافظ إسماعيل»، فقد زاد اقتناعه بموقفه.

وفى الساعة 9:40 من صباح يوم 7 أكتوبر (بتوقيت واشنطن) اتصل «شاليف» القائم بأعمال السفارة الإسرائيلية بمكتب وزير الخارجية الأمريكى ينقل إليه رسالة «جولدا مائر» وكانت تحوى نقطتين: نحن نواجه الأمور بكل شجاعة وحزم حتى تتم دعوة الاحتياطى من القوات والسلاح، ومن ثم يبدأ هجومنا المضاد. وتطلب على وجه الاستعجال تعويضا عن الخسائر التى تكبدتها خلال الـ24 ساعة الماضية، خصوصا فى الطيران.

وقام «كيسنجر» على الفور بدعوة مجموعة العمل الخاصة فى مجلس الأمن القومى الأمريكى لبحث الموقف الخطير المتفجر فى الشرق الأوسط. وقد دخل قاعة الاجتماع ومعه طلب «جولدا مائير»، وبدأ بعرضه ملحقا به توصيته بضرورة الاستجابة وتعويض إسرائيل بسرعة عن خسائرها من الطائرات.

وفقد كيسنجر أعصابه فى هذا اليوم وقال بحدة: «إن إسرائيل قد تلفت هزيمة استراتيجية، بصرف النظر عما يمكن أن يحدث بعد ذلك، ولا ينبغى للولايات المتحدة أن تسمح لهذه الهزيمة بالوصول إلى مداها».

 

جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيلية خلال حرب أكتوبر 1973

8 أكتوبر

صباح 8 أكتوبر كانت القوات المصرية تواصل ملحمة الانتصار، ويقول الكاتب الكبير إن تقرير الموقف الذى أعده مكتب الرئيس للشئون العسكرية «كان يعطى صورة رسمية بأكثر من اللازم عما يجرى فى جبهة القتال، بينما الواقع أن الصورة الحقيقية كانت أكثر إثارة وحيوية. فقد كانت التعزيزات الإسرائيلية تهرع مسرعة إلى خطوط القتال وتصطدم مع المواقع المصرية وتتكبد خسائر لم تكن فى حساباتها. وواقع الحال أن القيادة الإسرائيلية كانت تتعجل تحقيق شىء ما على الجبهة المصرية يكون من شأنه احتواء الهجوم المصرى، ومن هنا فإنها كانت ترسل قواتها إلى القتال دون قدر كاف من الحشد والتركيز. وكان ذلك يؤدى بها إلى خسائر يتسارع إيقاعها إلى درجة أحدثت ارتباكا شديدا فى تحركات وأوضاع القوات الإسرائيلية.

ويواصل: عرف السادات تفاصيل الصورة على نحو أكثر دقة من اتصال تليفونى أجراه مع الفريق أحمد إسماعيل. وفى هذا الاتصال، رغم الصورة الداعية إلى التفاؤل، فإن السادات طلب إلى وزير الحربية تأجيل تطوير المرحلة الثانية من الهجوم المصرى، والتى كانت تستهدف الوصول إلى المضايق، وذلك لسببين أبداهما له.. أولهما انتظار رد كيسنجر على رسالته فى اليوم السابق، وقد تعهد له فيها بأن «مصر لا تعتزم تعميق مدى الاشتباكات أو توسيع مدى المواجهة»، وكان الفريق أحمد إسماعيل على علم بها، باعتبار أنه هو نفسه الذى أنشأ القناة الثانية (السرية) وأشرف على الاتصالات من خلالها أثناء عمله فى المخابرات العامة، ثم ظل يتابعها حتى عندما أصبح وزيرا للحربية.

وكان السبب الثانى الذى أبداه الرئيس السادات للتأجيل هو أنه «لا مانع من ترك الإسرائيليين يخبطون رءوسهم فى حائط المواقع المصرية، ويتكبدون أكبر قدر من الخسائر فى حالتهم العصبية هذه».

ينتقل بعد ذلك الكاتب الكبير للحديث عن الأوضاع فى واشنطن وتل أبيب يوم 8 أكتوبر «كانت الصورة فى إسرائيل يوم 8 أكتوبر رمادية قاتمة، فالموازين فى معارك الدبابات بين القوات الإسرائيلية والقوات المصرية كانت كلها لصالح القوات المصرية. وفى نفس الوقت فإن الجيشين الثانى والثالث المصريين أكملا عبورهما، وراحا يعززان مواقعهما على الضفة الشرقية، وكان الطيران الإسرائيلى الذى نقل جزءا واضحا من تركيزه إلى الجبهة المصرية يتعرض لخسائر مؤثرة».

وفى نفس هذا الصباح (8 أكتوبر) كان «كيسنجر» مشغولا بمحاولات التعطيل على جبهتين: جبهة مجلس الأمن، وكان المجلس على وشك أن يجتمع وليست هناك بعد مشروعات قرارات يناقشها، ومن ثم يصدرها. ولما كان اجتماع المجلس مقررا ويصعب على أحد تأجيله فى هذه الظروف، فقد اقترح السكرتير العام للأمم المتحدة «كورت فالدهايم» أن يبدأ اجتماع مجلس الأمن الأول بمناقشة عامة. وكان كيسنجر يشجع على ذلك، وتقديره وقد شاركته فيه وكالة المخابرات المركزية ومخابرات وزارة الدفاع هو «أن بطء الإجراءات فى مجلس الأمن يعطى لإسرائيل فرصة مواصلة هجومها المضاد فى مرتفعات الجولان». وكانت توقعاتهم جميعا أن تتم هذه العملية فى يوم أو يومين. وبعد ذلك يركز الجيش الإسرائيلى جهده على الجبهة المصرية.

مع السفير السوفيتى

ويروى بعد ذلك «الأستاذ هيكل» تفاصيل يوم 8 أكتوبر مساء، وأهم ما جاء فيه لقاء فى قصر الطاهرة بين الرئيس السادات والسفير السوفيتى «فلاديمير فينوجرادوف»، خرج على إثره السادات غاضبا لأنه فهم منه أن السوريين قد طلبوا من موسكو وقف إطلاق النار بعد توجيه العدو مجهوده الرئيسى على جبهتهم، وهو ما نفاه الرئيس السورى حافظ الأسد فى برقية رسمية قال فيها إنه لم يطلب من السوفيت ذلك وأن قواته تقاتل بشراسة وتلحق بالعدو أكبر الخسائر، وأن خسائر الجانب السورى فى معدلاتها الطبيعية.

وقبل أن يغادر فينوجرادوف قصر الطاهرة كان قد دعا هيكل لزيارته فى بيته فى أى وقت من الليل، وفى الساعة الثانية عشرة إلا الربع وصل هيكل إلى بيت السفير السوفييتى، واشتكى السفير من معاملة السادات له، وشكوكه الدائمة فى السوفييت.

وقال إنه إزاء تطورات الموقف على الجبهة السورية بعد ظهر أمس، (خسرت سوريا نحو 500 دبابة) خطر لنا أن نسأل مجرد سؤال هل الوقت الآن مناسب لقرار بوقف إطلاق النار، ولم يعطنى الرئيس فرصة لأشرح وجهة نظرنا. ولكنه قاطعنى سائلا بحدة عما إذا كان الأسد طلب منا تقديم قرار لوقف إطلاق النار. وحين حاولت أن أشرح له خلفية هذا الموضوع خبط يده على المائدة وقال «إذن فأنتم ترتبون مع حافظ الأسد من وراء ظهرى».

وأضاف السفير السوفيتى لهيكل بأن «التنسيق بين الجبهتين المصرية والسورية غير قائم»، ثم أخذ هيكل إلى غرفة الخرائط وكان هناك جنرال سوفييتى قدمه «فينوجرادوف» باسم جنرال «سماخودسكى» راح يشرح أوضاع القوات على الجبهة. وكان مؤدى ما قاله «إن الاحتياطى الإسرائيلى الذى كان فى المؤخرة، وضمن مسئولياته حماية المضايق، قد خرج من مكامنه واشترك فى معارك الدبابات خلال الساعات الأخيرة وتكبد خسائر كبيرة. ونتيجة لذلك فإن حجم القوات الإسرائيلية فى المضايق، أو على مشارف الطرق المؤدية إليها، أو على نقاط الاقتراب منها قوات ضئيلة لا تتجاوز فى هذه الساعة مجموعة لواءين». وهذه قوة يمكن أن تكتسحها القوات المصرية فى ساعتين أو ثلاث ساعات وتسيطر على أهم موقع استراتيجى فى سيناء، بما يسمح لها بأفضل الأوضاع لرد أى هجوم إسرائيلى مضاد».

واعتبر «هيكل» أن هذا اللقاء فى غرفة الخرائط فى مكتب الجنرال السوفييتى «سماخودسكى» أهم ما سمعه فى تلك الليلة. وبعد أن نجح فى تحقيق اتصال مع الرئيس السادات وقص عليه نصيحة الجنرال السوفيتى بالاندفاع نحو المضايق، قال له تحدث فى ذلك مع الفريق أحمد إسماعيل، فاتصل على رقمه المباشر فرد عليه الفريق سعد الشاذلى رئيس الأركان، لأن إسماعيل كان نائما، ولما عرض عليه مسألة التطوير إلى المضايق لم يبد حماسة لها.

ولأهمية الموضوع، عاد «هيكل» فاتصل بالفريق «أحمد إسماعيل» فى الساعة السادسة والربع صباحا. وكان واضحا له أن الوزير ليس متحمسا لفكرة التقدم إلى المضايق.

الرئيس الراحل محمد أنور السادات

يوم 9 أكتوبر

بدأ الرئيس «السادات» يومه متأخرا، فهو لم ينم فى اليوم السابق إلا فى الفجر لكنه حينما استيقظ كانت الأخبار التى وجدها فى انتظاره طيبة. وفى واقع الأمر فإن يوم 9 أكتوبر كان هو اليوم الذى بلغ فيه الموقف العربى ذروة نجاحه.

ونتيجة هذا النجاح العربى الكبير على جبهات القتال يقول الكاتب الكبير «فى الساعة 1:45 طلب السفير الإسرائيلى فى واشنطن سيمحا دينتز إيقاظ وزير الخارجية الأمريكى كيسنجر من نومه، وفاجأة بسؤال عن مدى إمكانيات المسارعة أكثر بإرسال مدد عسكرى لإسرائيل. وفوجئ كيسنجر بالسؤال، وخصوصا أنه تذكر تطمينات «دينتز» له قبل ساعات. وسأله بصوت نصف نائم «ما هى المشكلة، وما هو سبب العجلة؟» ورد عليه دينتز بأن «هناك حاجة ماسة إلى طائرات وذخائر وبعض المعدات الإلكترونية». وقد أبدى «كيسنجر» لـ«دينتز» أن كل الطلبات تمت الموافقة عليها، وأنه فى الصباح سوف يقوم باستعجال عمليات الشحن، وسوف تتم بسرعة.

وفى الساعة الثالثة صباحا عاد دينتز إلى إيقاظ كيسنجر من نومه للمرة الثانية فى نفس الليلة. وبدأ كيسنجر يحس أن الموقف لابد أن يكون أخطر مما يتصور. ودعا دينتز إلى مقابلته فى البيت الأبيض فى الساعة الثامنة صباحا.

ووصل «دينتز» إلى البيت الأبيض ومعه الملحق العسكرى الإسرائيلى الجنرال «موردخاى جور». وطلب الاثنان أن يدور الحديث فى غرفة الخرائط، حيث يستطيع الجنرال «جور» أن يشرح لوزير الخارجية الأمريكى تطورات الموقف أمام خريطة.

وتم ذلك بالفعل. وكان تعقيب الجنرال «جور» فى نهاية عرضه للموقف هو قوله:

«إن خسائر إسرائيل حتى هذه اللحظة مروعة. وجاءت غير متوقعة بالمرة فلقد أسقطت لنا حتى الآن 49 طائرة. بينها 14 طائرة من طراز «فانتوم»، إلى جانب 500 دبابة». (أى أن الجيش الإسرائيلى فقد خمس طائراته وربع دباباته فى أربعة أيام من القتال). وكان كيسنجر يسمع صامتا وإن لم يخف دهشته بتقاطيع وجهه. وكان أول ما نطق به كيسنجر هو تساؤله «كيف حدث ذلك؟» وراح جور يقدم تفسيره. ولكن كيسنجر كان، إلى جانب دهشته، مملوءة بالغضب، وقد توجه إلى دينتز يسأله: «أين ذهبت توقعاتك بالانتصار الساحق وقد عدت لتأكيدها لى قبل ساعات؟» ورد «دينتز» بأسى: (لقد اختلت الأمور).

طائرة فانتوم إسرائيلية محطمة

ووجد «كيسنجر» نفسه إلى جانب الدهشة والغيظ واقعا فى حالة من الحيرة سببها أن تقديراتهم العسكرية، ومن ثم تحركاتهم الدبلوماسية، خصوصا فى اتصالاتهم مع الاتحاد السوفييتى كانت قائمة على أساس انتصار نصر إسرائيلى سريع، وساحق!

ووجه الجنرال جور بسؤال إلى كيسنجر قال فيه: «هل يمكن أن تعطعينا وكالة المخابرات المركزية والمخابرات العسكرية الأمريكية كل ما لديكم من معلومات عن أوضاع الجبهة؟ «وقام «كيسنجر» باستدعاء مساعده الجنرال «سكوكروفت» وطلب منه أن تستجيب الوكالات المختصة بالمخابرات كل الطلبات الإسرائيلية.

وكان «كيسنجر» يتابع الاتصالات التى راحت تجرى فى مجلس الأمن بحثا عن مشروع قرار يصدره المجلس. ورأى قبل أن ينام أن من المناسب له أن يقوم بعملية تأخير وإلهاء للجانب المصرى. وهكذا بعث عن طريق القناة الثانية السرية برسالة جديدة إلى السادات موجهة بالاسم إلى حافظ إسماعيل، ومنشور نصها فى الكتاب.

الحلقات السابقة..

قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لـهيكل : روايتى عن حرب أكتوبر تدور أساسا حول السادات (1)

قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل:مأزق السادات بعد رحيل عبدالناصر(2)

قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل: معركة السادات مع «مراكز القوى» والرهان على واشنطن للوصول للحل السلمى (3)

قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل: مصر عاشت نوعا من الانفصام بين السياسة والسلاح عام 1972 - (4)

قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل: معجزة البشر على جبهتى سيناء والجولان في أكتوبر 1973 - (5)

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved