منازل شهداء ومصابي «28 يناير».. جدران تحمل ذكريات مشوار لم يكتمل

آخر تحديث: الأربعاء 28 يناير 2015 - 6:11 م بتوقيت القاهرة

هالة قنديل

لم تتوصل لقاتل نجلها الأكبر ولكن آثار جريمته طُبعت على جسده الضعيف.. ظل يصارع الكسور التي أصابت أجزاءه داخل غرفة العناية المركزة بقصر العيني الفرنساوي، حتى الموت، بعدما دهسته عجلات "السيارة الدبلوماسية" بشارع قصر العيني مساء "جمعة الغضب" 28 يناير 2011.

والدة محمود خالد، الذي لم ينل خلال حياته القصيرة (23 عامًا) سوى بعض الحظ من اسمه الذي خُلد ضمن قائمة "ورد الجناين"، لأربع سنوات ظلت تشعر بنفس الألم الذي راودها لحظة مفارقة محمود للحياة على سريره الذي حمله لخمسة أشهر، عانى خلالها ضمورًا بالعضلات وتشوهات بأنحاء جسده بالكامل بعدما دهسته السيارة البيضاء التي ظلت لغزًا لم يكشف مُرتكبه حتى يومنا هذا.

 

آفة النسيان تنمو مع مرور السنوات، فالذكرى الأولى لثورة يناير ليست كالرابعة، ونبرة التشدق بحقوق الشهداء وأرواحهم التي ذهبت هباء من أجل عيش وحرية وكرامة إنسانية لم ينالوها، تخفت مع مضي الوقت لكن تظل النار المتقدة بقلب وعقل السيدة رحمة الخمسينية التي لم تصبها "الآفة"، ورفضت بشكل قاطع أن ترتدي الأسود على ابنها لتكرر بإصرار جملة واحدة: "أنه حي يرزق".

صباح الذكرى الرابعة لجمعة الغضب، كانت استكمال لشلال حزن داهمها قبل ثلاثة أيام مع حلول 25 يناير، تذكرت صلاة الجمعة التي أداها محمود ظهر هذا اليوم، ثم خرج متوجها لميدان التحرير، مخالفا تعليماتها حين شددت عليه بعدم الخروج للتظاهروعناده الشديد الذي جعله يطمئنها ظاهريًا ليتوجه بعد ذلك في مسيرات الغضب ضد نظام مبارك وكهنوته.

بحسرة ارتسمت على قسمات وجهها، دون تطرقٍ ليأس بأن دم ابنها "ذهب هدر" فهي تثق أن حقه محفوظًا في السماء، فبعد سنوات على ثورة كانت روح وليدها جزء من الوقود الذي أشعلها، لم تحصل إلا على درع تكريم حمل اسمه ومعاش شهيد قدر بألف جنيه شهريًا لا تكفي لسداد إيجار شقتها البالغ 1200 جنيه، حصلت عليهم بعد رحلة استمرت ثلاثة أشهر من تقديم المستندات والأوراق للمجلس القومي لرعاية أسر الشهداء ومصابي الثورة.

حصلت الأم على وعود لم تتم بالسفر للحج أو العمرة، وتعويضًا نالت أقل من نصفه بسبب نزاع والده المنفصل عنها على الأحقية في الحصول عليه، صرفته على تسديد ديون محمود الذي كان يستعد للزواج قبل أحداث يناير بثلاثة أشهر.

الاتصالات المنقطعة في هذا اليوم، حالت دون الوصول إليه، تقول السيدة رحمة الخمسينية التي جلست إلى جانب صورة محمود إنها شعرت بـ"نغزة في قلبها" بحلول المساء وفقدان الأمل في عودة خطوط الاتصالات، وتصاعد مشاهد الأدخنة المسيلة للدموع وأصوات الطلقات التي نقلتها شاشة الجزيرة في هذا الوقت.

أحست بأن ابنها أصابه مكروه، لتسير خلف قلبها بصحبة شقيق محمود الأصغر (إسلام) إلى مستشفى دار الهلال، فتشت بعينيها المتعبتين من البكاء وسط وجوه المصابين لتجده وقد تشوهت ملامح وجهه وانبعج وجحظت إحدى عينيه وتهدلت أطرافه الأربعة وكأنما عبرت عليها عجلات قطار، لتتعرف عليه من ملابسه.

"أم محمود" كما تحب أن يطلق عليها، قضت قرابة الخمسة أشهر نائمة إلى جانبه مفترشة بلاطات الغرفة، تعلمت أن تجدد الغيار على جراحه، وتطعمه وتقلبه بحرص تفاديا لقرح الفراش التي أنهكت جسده البالي.

"يوم ما نطق مات" تقولها متفادية دموعا ظهرت بعينيها عنوة متذكرة حين ناداها، وطلب منها أن تسامحه، ظنت للوهلة الأولى أنه عاد للكلام وسيخرج من العناية المركزة، فسارعن بالاتجاه إلى الأطباء تخبرهم ليأتي أحدهم ويخبرها بأن "البقاء لله" بعد إجراء الكشف عليه.

تلحفت بالبياض بصالة منزلها المتواضع بمنطقة غمرة، بعدما تركت شقتهم القديمة برمسيس حين لم تستطع تحملا لمكوث وسط جدرانها التي تذكرها بضحكات محمود التي لن تسمعها مرة أخرى.

جلست إلى جانب صورة له، تتصدر مدخل المنزل بجوار مصحف، ملابسه المعلقة بأحد أركان الغرفة، لا تزال تحمل كمًا من رائحته، وكل ما تبقى بضع صور وذكريات لابن أكبر يعول أمه وأخوته الثلاثة، إسلام وندى وشروق الصغيرة التي لم تع وفاته حين كان عمرها ثلاثة سنوات لكن تسربت دموعها رغمًا عنها وهم يستعرضون صور وفيديوهات له بغرفة العناية المركزة أثناء محاولة أمه إطعامه.