حكايات الغلابة «المسمومين» على ضفاف نيل أسوان - بوابة الشروق
الثلاثاء 16 أبريل 2024 11:36 م القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حكايات الغلابة «المسمومين» على ضفاف نيل أسوان

تصوير : السيد عبدالقادر
تصوير : السيد عبدالقادر
تحقيق ــ عزة مغازى وإسماعيل الأشول:
نشر في: الأحد 1 مارس 2015 - 11:14 ص | آخر تحديث: الأحد 1 مارس 2015 - 11:22 ص

- «الشروق» تكشف تلوث مياه الشرب بالمحافظة بسبب إلقاء مخلفات المصنع بالنهر

- 75% من سكان أبوالريش يعانون الفشل الكلوي والكبدي.. وطبيب في مستشفى أسوان: نستقبل مريضًا جديدًا كل أسبوع

- مهندس في محطة المعالجة: المحطات ضعيفة ولا نستطيع التعامل مع هذه الكميات من الملوثات

- تبادل الاتهامات بين «البيئة» وشركة كيما.. و«المياه» وكلية العلوم تححبان نتيجة تحليل العينات

- تجميد مشروع «العلاقى» للتخلص من المخلفات رغم رصد 80 مليون جنيه لتدشينه

- العضو المنتدب لشركة السماد: لا علاقة لنا بإلقاء المخلفات في النهر.. وتقارير: مواسير الصرف الصحي وكيما وكوكاكولا سبب الكارثة

- الصيادون: الأسماك في المنطقة نفقت بسبب السموم المنتشرة في المياه

بين أبناء خمسة، بينهم أربع إناث، وزوج فقير، عاشت السيدة أنيسة منصور (51 عاما)، لثلاثة عقود مضت، كغيرها من ربّات البيوت الفقيرة بقرية أبوالريش قبلى بأسوان، فى أقصى صعيد البلاد، لكن حياتها تبدلت قبل خمسة أعوام إلى الأسوأ، بعد إصابتها بالفشل الكلوى، نتيجة مياه الشرب الملوثة كما تقول، طلقها زوجها، وانتقل إلى سوهاج وتزوج من أخرى، ليتركها تواجه محنتها القاسية، وسط أبنائها، الذين تتراوح أعمارهم بين السابعة والعشرين والثانية عشرة.

أنيسة، التى تواجه المرض، ملتحفة أغطية بالية، فوق فرن بلدى، خمدت نيرانه من زمان بعيد فى حجرة صغيرة من بيت، ارتفاعه طابق واحد بالطوب اللبن، ليست وحدها من أبناء قريتها الفقيرة، ضحية الفشل الكلوى، الذى يكاد يكون القاسم المشترك الأبرز بين عموم المواطنين هناك، بحسب تقارير طبية، يحتفظ بها المرضى وذووهم، يخرجونها بأيادٍ مرتعشة أمام كل من يظنونهم باب أمل، ولو ضعيف، لوقف معاناتهم المستمرة.

لا تستطيع التحدث بسبب تآكل كبدها، شاحبة عيناها لا تستطيع الرؤية بهما نتيجة تضرر وظائف الكبد والكلى بعد أن أصيبت بفشل كلوى وكبدى، وهى الآن طريحة الفراش تنتظر الموت.

مئات من الأهالى مصابون بأمراض الفشل الكلوى وفيرس سى والكبد الوبائى بسبب تلوث المياه، مجرد أن تطأ قدماك مدخل مدينة أسوان تشم رائحة كريهة للغاية فوق هذه الروائح المنبعثة من فوق كوبرى المدخل الرئيسى ترى لافتة كبيرة باللون الأخضر مكتوبا عليها: «مصنع كيما يؤكد أنه ليس لا علاقة بهذه المياه الملوثة، التى تصب فى نهر النيل يوميا، رغم أن الروائح تؤكد وجود عناصر كيماوية بها، وليس مياه صرف صحى فقط».

بدأت "الشروق" فى التحقق والتقصى عن السبب الحقيقى وراء إصابة الأهالى بالفشل الكلوى خاصة قرية "أبوالريش" التى تقع على امتداد 3 مرشحات للمياه. زرنا القرية، والتقينا عددا من السكان فى منطقة وصلت نسبة الإصابة بالأمراض فيها إلى 75%.

فى أحد المنازل بالقرية يرقد على سرير نحاسى شاب عشرينى يدعى "رمضان محمود"، الذى تظهر عليه علامات الإجهاد، معصوب الرأس بشال صعيدى، أكد أنه يعانى من فشل كلوى بسبب المياه الملوثة التى أجروا لها عليها تحاليل أكدت أن نسبة الرصاص والأمونيا عالية مما أدى إلى إصابة العديد من السكان بالقرى المجاورة.

يجلس أحمد نبوى على أريكة خشبية أمام منزله، وملامح وجهه يعلوها الحزن، بعد أن توفى أبوه قبل 5 أيام من لقاء "الشروق" معه، وروى أن والده توفى بعد أن أصيب بالفشل الكلوى لمدة سنتين، مضيفا: اكتشافنا للمرض فى مرحلة متأخرة ومع قلة إمكاناتنا المادية منعنا من علاج أبى فى أحد المستشفيات المتخصصة مما أدى إلى تدهور حالته الصحية حتى ووافته المنية.

منزل بسيط من طابق واحد، حيث يرقد الحاج "شعبان" على سريره، لم يتمكن من التحدث بعد أن التهم المرض كل أجزاء جسمه، وأصيب بشلل فى العمود الفقرى وجلطة ورفضت مستشفى أسوان العام استقباله نظرا لتدهور حالته الصحية.. يبكى شعبان، وتحاول زوجته تفسير كلماته بعد أن عجز عن النطق، يطالب الرئيس السيسى بالتدخل لإنقاذ حياته بعد أن تسبب تلوث المياه فى مرضه.

من جانبه، أكد أحد أطباء وحدة الغسيل الكلوى بمستشفى أسوان ــ طلب عدم ذكر اسمه ــ أنه كل أسبوع تأتى حالة جديدة للوحدة للغسيل الكلوى، وأنهم تقدموا بطلبات عدة وشكاوى لكل من مسئول البيئة والمحافظ لإيقاف التلوث المتعمد من إلقاء مياه الصرف الصحى غير المعالج إلى النيل مباشرة مع وجود ترعة كيما، التى تصرف كل مخلفاتها عبر ترعة تصب فى النيل مباشر.

"الشروق" حاولت الوقوف على الحقائق وراء ما يقال حول مصنع كيما للصناعات الكيماوية.. أول الخيط بدأ من ترعة كيما التى كانت مخرا للسيول سابقا، ثم استغلها مصنع كيما فى صرف مخلفاته فى النيل مباشرة، بالاشتراك مع هيئة الصرف الصحى، التى تلقى كل مخلفات محافظة أسوان فى النهر.

فى عهد المحافظ السابق، سمير يوسف، تمت تغطية أجزاء كبيرة من الترعة للتجميل فقط، بتكلفة 23 مليون جنيه، وأقيم مشروع ضخم هو ممشى أسوان الدولى. مياه هذا المصرف تسير موازية للشاطئ بمسافة عشرة كيلو مترات تقريبا، مما يعنى أن كل قرى أبو الريش قبلى تشرب مياه صرف، وهو ما أدى إلى إصابة كثير من أهلها بالفشل الكلوى والكبدى.

حاولت "الشروق" تتبع مصرف كيما، وتم توثيق "فيديو" بطول الترعة التى قامت الشركة بتغطيتها حتى مصبها فى النيل، وتوجد مواسير موصولة من مصنع كيما لتصب كل مخلفاتها الصلبة فى نهاية الترعة المغطاة.

من المفارقات المدهشة على طول مجرى الترعة أنه توجد لافتة لمصنع كيما تقول: "حافظوا على مدينتكم نظيفة جميلة" وأسفل اللافتة حيوانات نافقة، وأكوام من الملوثات على مجرى الترعة حتى نهر النيل.

الدكتور محمود حسين، رئيس جهاز شئون البيئة لجنوب الصعيد، رافقنا خلال جولتنا لمنطقة العلاقى، أوضح أن المشروع الذى أعلنت المحافظة سيتم تصريف مياه مصنع كيما، وأيضا مياه الصرف الصحى الخاصة بمعالجة الغابات الشجرية فيه.

وكان محافظ أسوان مصطفى يسرى، أكد فى تصريحات سابقة عام 2012 أنه سيتم افتتاح المشروع فى منتصف يناير 2015، بتكلفة 80 مليون جنيه، وهو ما لم يتحقق.

أكد رئيس جهاز شئون البيئة لجنوب الصعيد أنه تم تقديم بلاغات ومحاضر ضد كل من ساهم فى تلوث مياه الشرب بأسوان ولم يتم اتخاذ أى قرارات حاسمة حتى الآن.

وقال حسين: إن جميع المسئولين على علم بصرف مياه الصرف الصحى غير المعالج بنهر النيل مؤكد، واتخذت قرارات سابقة بحضور ممثلى مصنع كيما، ومحافظة أسوان وجهاز شئون البيئة بإغلاق جميع مواسير تصريف المخلفات، التى تصب بالترعة.

لكن "الشروق" وجدت أن المخلفات ما زالت تصرف فى الترعة، عندما اصطحبت مسئولى البيئة إلى المصرف.

الصيادون الموجودون بالقرب من مصب الملوثات فى النيل أكدوا أن جميع الأسماك ميتة فى هذه المنطقة بسبب المواد الكيماوية التى تتغذى عليها مما يؤدى لنفوقها.

ذهبنا لأخذ عينات من المصب والمرشحات ومحطات معالجة المياه التى تقع على مجرى النهر، وقال المهندس رفعت بسيونى أحد العاملين بمحطات المعالجة للصرف الزراعى إن مياه محافظة أسوان ملوثة بسبب تصريف المخلفات فى نهر النيل مباشرة ومحطات المعالجة ضعيفة ولا تستطيع معالجة هذه الكميات الكثيفة، التى تلقى فى النيل يوميا.

وبعد أخذ عينات من مياه المحطات الخاصة بمعالجة المياه وجدنا أن هذه المحطات نفسها تلقى بمخلفاتها فى نهر النيل مع وجود صدأ بالمواسير التى تنقل المياه إلى محطات الشرب.

خلال البحث على مدى ثلاثة أشهر لم نجد أية جهة لتحليل العينات، ولكن «الشروق» ذهبت إلى مقر شركة مياه الشرب والصرف الصحى بأسوان، لتضعها أمام روايات أهالى قرية أبوالريش قبلى بالمحافظة، والتى تضع المسئولين عن مياه الشرب بمنازلهم الفقيرة، داخل دائرة الاتهام بالمسئولية عن إصابة كثيرين منهم بأمراض مستعصية.

بعد أكثر من مكالمة هاتفية مع رئيس الشركة المهندس جمال أحيد، سمح الأخير لمحرر "الشروق" بزيارته بمكتبه، ثم أوصله إلى المهندس عادل عطية، مدير مركز المعلومات بالشركة.

"إحنا عاملين رسائل دكتوراه عنها".. هكذا رد المهندس عطية على سؤالنا بشأن المعلومات المتوفرة لديه عن مشكلة تلوث مياه الشرب، خاصة فى قريتى أبوالريش قبلى وبحرى، وحين طلبنا منه نسخة مما لديه، أجاب غاضبا، وبصوت مرتفع: "هو أى حد يطلب حاجة ياخدها، فيه حاجة اسمها أمن معلومات يا أستاذ"، أنهى عبارته، ثم غادر مكتبه إلى المكتب المجاور، حيث مقر رئيس الشركة.

لم يمضِ المهندس عطية وقتاً طويلاً داخل مكتب رئيس الشركة، حتى خرج بصحبة الأخير، الذى صرح بنبرة واثقة، ردا على السؤال الخاص بتلوث مياه الشرب بقريتى أبوالريش قبلى وبحرى، قائلاً: "طالما مرّت المياه بالمحطات وأضيف لها الكلور، أصبحت نظيفة"، وهنا سألناه مباشرة: هل الشركة مستعدة لتحليل عينة من مياه الشرب بقرية أبوالريش قبلى، بنفسها، وإفادتنا بالنتائج، فرحب على الفور، وتدخل المهندس عادل وهيب، وهو أحد مسئولى تحليل عينات المياه بالشركة، وقال إنه مستعد لتلبية مطلبنا على الفور، إلا أن أحدا استوقفه، وطلب إجراء التحاليل فى الغد.

فى الحادية عشرة من صباح اليوم التالى كان محرر "الشروق" إلى جوار المهندس الكيميائى أحمد بدرى، فى سيارته، وهو من العاملين بمعمل التحاليل التابع لشركة مياه الشرب والصرف الصحى بأسوان، حيث صحبنى لأخذ ثلاث عينات مياه من "المأخذ" أى من مياه النيل مباشرة التى تغذى محطة مياه أبوالريش قبلى، ومن "الطرد" أى من حيث تخرج المياه بعد معالجتها، ومن الشبكة ذاتها أى من داخل منازل أحد المواطنين بالقرية، وتحديدا من منزل مكرم عزيز بشادة، الذى استقبلنا بصحبة زوجته، وتابعا باهتمام عملية أخذ العينة.

اصطحبت "الشروق" المهندس بدرى إلى مقر الشركة مرة أخرى، حيث سلّم العينات إلى معمل التحاليل، سألته عن توقيت إفادتى بالنتائج، فأجاب إنها لن تستغرق أكثر من ثمانية وأربعين ساعة، تركت له بريدى الإلكترونى ورقم هاتفى، لمتابعة النتيجة.. مرّت المهلة، ومر بعدها شهران، حتى اليوم، لم يجب خلالها أى من مسئولى شركة مياه الشرب والصرف الصحى بأسوان عن تساؤلاتنا المتكررة بشأن نتيجة تلك التحاليل.

كلية العلوم بجامعة أسوان وافقت على تحليل عينات المياه، وحتى الآن لم ترد علينا بالنتائج رغم إرسال خطابات رسمية من الجريدة حسب الاتفاق مع الكلية، ورغم مرور أسابيع.

من جانبه، أكد المهندس جمال إسماعيل، العضو المنتدب لمصنع كيما للأسمدة أن الشركة لا علاقة لها بالمخلفات التى يتم القاؤها بنهر النيل، مؤكدا أن ما يتم تصريفه بالنيل هو مياه صرف صحى غير معالج وليس للشركة أية علاقة به.

وأضاف: الشركة أنشأت محطة 10 لمعالجة كل المواد التى يتم تصريفها منها، مشيرا إلى أن هذه المحطة تقع تحت مسئولية الشركة القابضة لمياه الشرب والصرف الصحى، وهى المسئولة عن معالجة كل ما يخرج من كيما لرفعه إلى مشروع العلاقى وليس لنهر النيل.

من جانبه، أكد خالد كلاب، عضو اللجنة الشعبية لحماية النيل بأسوان، أن المحافظة خصصت 80 مليون جنيه لمشروع الحل العاجل، مع وعد بانتهاء الصرف الملوث المسمم لمياه النيل فى شهر يناير 2012.

وأشار كلاب إلى أن المشروع يهدف إلى سد جميع منافذ الصرف فى مخر السيل وربطها بشبكة الصرف التابعة لهيئة الصرف الصحى الحكومية، ثم تحويل مياه الصرف المعالجة فى المحطات المجهزة لذلك ورفعها إلى منطقة هضبة العلاقى شرقى أسوان، حيث تتم الاستفادة منها – بعد معالجتها – فى استزراع غابة شجرية ونباتات ذات قيمة استثمارية عالية ولا تدخل فى المكونات الغذائية.

وكان مركز هشام مبارك قد رفع دعوى قضائية فى يوليو 1996 أمام دائرة الأمور المستعجلة فى محكمة أسوان الابتدائية، اختصم فيها كلاً من: محافظ أسوان، ورئيس الوحدة المحلية، ووزير الصحة، ووزير الموارد المائية والرى، ورئيس شركة الصناعات الكيماوية المصرية "كيما أسوان".

وصدر الحكم التمهيدى فى الدعوى المستعجلة يوم 26 نوفمبر 1996، مستندا إلى تقرير الخبير الهندسى الذى رأسَ لجنة المعاينة، وشمل التقرير الواقع فى خمس صفحات تفاصيل إلقاء الملوثات والسموم فى مخر السيل، الذى تم إنشاؤه فى الخمسينيات من القرن الماضى بهدف حماية أسوان من مخاطر السيول بتصريف مياه الأمطار مباشرة فى مجرى النيل.

ورصدت معاينة اللجنة القضائية عدة مواسير بأقطار كبيرة عند كل من الكيلو 6.5 والكيلو 5.6 والكيلو 3.1، تصرف مياه الصرف الصحى من شبكات صرف ومحطات معالجة المياه، وتنبعث منها الروائح النتنة، وكذلك ماسورة صرف مصنع كيما عند الكيلو 4.4 التى تنبعث منها رائحة النشادر الفظيعة كمؤشر على سموم النيترات القاتلة، وكذلك ماسورة صرف مطحن ناصر عند الكيلو 1.3، وماسورة صرف مصنع "كوكاكولا" على بعد 150 مترا من المصب.

فى النهاية، أثبت التقرير أن كل الصرف الصحى والزراعى والصناعى المذكور أعلاه، بما يحمله من مخلفات صلبة وقاذورات وجثث حيوانات وحشرات وقوارض وهوام، ينتهى به الحال مصبوبا فى مياه النيل مباشرة.



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك