• طارق البشرى يرصد كيف تغيرت الأوضاع العربية فكريًا واجتماعيًا وسياسيًا عبر مواقف وكتابات شخصياته
• سعد زغلول ومصطفى النحاس وأحمد حسين والرافعى.. 4 رموز أثرت بقوة فى الحراك السياسى لمصر فى تارخها الحديث
بأسلوب يمزج بين البساطة والتحليل العميق لفترة مهمة فى تاريخ مصر الحديث، يقدم المستشار طارق البشرى، فى كتابه «شخصيات تاريخية»، حياة أربعة من رموز الحركة السياسية والوطنية بمصر، كانت لهم بصمة مؤثرة فى مجرى الأحداث خلال فترة الحراك السياسى الكبير الذى شهدته مصر فى النصف الأول من القرن العشرين.
«سعد زغلول، مصطفى النحاس، عبدالرحمن الرافعى، أحمد حسين»، أربع شخصيات اختارها «البشرى»، فى كتابه الصادر عن «دار الشروق»، ليحلل الخلفية الفكرية لكل منهم، وتأثيرهم فى الحياة السياسية، مستخلصًا من مواقفهم الواقعية حركة المجتمع فى ذلك الوقت، ومستشرفًا المستقبل، ليضعه أمام القارئ، على وعد بتقديم شخصيات أخرى فى كتب قادمة.
هذه ما يدور حوله الكتاب الذى تنشر «الشروق» بعض صفحاته فى السطور التالية:
دراسات أربع، كتبتها فى فترات متباعدة، وبين أول دراسة منها عن سعد زغلول، وآخر دراسة فيها عن مصطفى النحاس، بينهما ربع قرن من الزمان، وما أدراك ما ربع فى القرن العشرين، هو الدهر فى العصور السالفة، من حياة الأمم، وعلى من عايشوا هذه الفترة، أن يقارنوا بين أولها ونهايتها ليتأملوا كيف انتقلت الأوضاع من حال إلى حال، فما أبعد سنة 1969 عن سنة 1994، فى الظروف الدولية، والأوضاع العربية والشئون المصرية، وفى توازن القوى على صعيد منها، وفى الحركات السياسية والاجتماعية والفكرية.
وأنا لست من كُتَّاب السِّير الشخصية لزعماء أو مفكرين، لا لموقف خاص ولا لاختيار ذاتى، ولا لانصراف مقصود عن هذا الدرب، من دروب الدراسات، فما أكثر ما قرأت منها، وما حرصت على متابعته من شخصيات التاريخ والفكر، وما أمتع ما لقيت من هذه المتابعات، وما أغنى فكرى ووجدانى منها، لست من كتاب السير الشخصية، لأننى أهتممت بحركة المجتمع، وبالحركات الشعبية أكثر ما اهتممت بالأفراد ودورهم، ولأننى وجدت الاحتياج الأكثر لهذه الدراسات لقلتها النسبية ولأن القصور يرد منا فى هذا المجال أكثر من غيره.
جذبتنى أكثر دراسة «الحركات» و«المؤسسات» سياسية أو اجتماعية، وهناك صلة وثيقة بين الحركة والمؤسسة، هى صلة المضمون بوعائه، وصلة الماء بشواطئه ومجراه ارتفاعًا وانخفاضا. فليس من حركة ولا تيار إلا وله نوع تنظيم يجرى به أو يسير فى قنواته، وليس من تنظيم إلا وقد تفتق عن احتياج حركى معين وإلا وقد تحكَّم فيه أيضًا، وأن علاقة الحركة بالتنظيم، تأثيرًا وتأثرًا، لا أقول إنها علاقة قائمة على أو علاقة كبيرة، ولكننى أتجاسر بالقول إنها علاقة مصير، صلاحًا أو فسادًا.
عندما أطالع هذه الدراسات الآن اتسأل مع القارئ، ما الجامع الذى يجمع بينها، هم جميعًا شخصيات سياسية، ويحتلون درجات متفاوتة من درجات الزعامة أو القيادة السياسية، وهم جميعًا من مصر ومن النصف النصف الأول من القرن العشرين، ولكن كل ذلك يشكل دلالات قريبة المنال، لا تقود إلى جوهر ما.
كما أن مناسبات نشر الدراسات لا يصلح أى منهما لاستخراج دلالة جوهرية، دراسة سعد زغلول مثلًا نشرت فى مجلة الطليعة فى مارس 1969، بمناسبة مرور 50 عامًا على ثورة 1919، ثم أعيد نشرها فى صحيفة الوفد فى مارس 1994، بمناسبة مرور 75 سنة على تلك الثورة، ودراسة عبدالرحمن الرافعى سياسيا، نشرت فى مجلة الطليعة فى ديسمبر 1971، بمناسبة مرور خمس سنوات على وفاة مؤرخنا الوطنى الكبير، ودراسة أحمد حسين نشرت فى مجلة المصور فى 8 أكتوبر 1982، بمناسبة وفاته ثم أعيد نشرها فى عدد خاص لصحيفة الشعب، فى 29 ديسمبر 1993.
أما عن دراسة مصطفى النحاس، فقد جاءت بمناسبة ظهور المذكرات التى أعدها محمد كامل البنا عن النحاس، وكانت هذه المذكرات قد تعاقد معدها على نشرها فى دار الحرية ضمن كتبها الشهرية، التى كانت تنشرها فى أوائل التسعينيات، وقد حدثنى عنها الأستاذ الدكتور محمود محفوظ وزير الصحة الأسبق، ثم حدثنى عنها الدكتور سعد الدين إبراهيم، ثم الأستاذ الدكتور يحيى الجمل، وهما من أعضاء مجلس إدارة دار الحرية، وذلك لأعد دراسة عن هذه المذكرات، تنشر معها فى شهريات كتب الدار، وأعددت هذه الدراسة ثم حدث أن تغيرت إدارة دار الحرية، فلم ينشر شيء من ذلك فى كتبها، وإنما نشر فى صحيفة المصرى السياسى بدءا من شهر أغسطس سنة 1994، وكانت بدايتها الدراسة التى أعددتها وقد نشرت على خمسة أعداد من 21 أغسطس إلى18 سبتمبر، 1994.
ومن ذلك يظهر أن كلا من هذه الدراسات كان قد أعد فى مناسبة خاصة، وهى مناسبات لا تشكل جامعا واحد لهذه الدراسات، إنما الجامع الذى أتفطن إليه عند إعادة مطالعتى لهذه المذكرات، فى ضوء ما أعرفه عن نفسى، هو أن مزاجى البحثى ينجذب أكثر لدراسة الفكر السياسى فى صورته الحركية أى بالتعبير الحركى لى، وهذا من الناحية الفكرية يشدنى إليه شغفى بدراسة الحركات والمؤسسات، والفكر السياسى والاجتماعى، إما أن نقرأ فى كتب المؤلفين ومقالات المحترفين لصناعة الفكر، وإما أن نلتقطه من حركة الواقع ومن مواقف الرجال من العاملين فى مجالات النشاط السياسى والاجتماعى، النوع الأول هو فكر أفراد علماء ودعاة نطالعه صريحًا وننظر فى أثره فى الواقع، وأثر الواقع فيه بالاستنباط والقياس والاستنتاج، ولكن النوع الثانى هو فكر الحركة ذاتها مستخلصًا من قادة لها أو زعماء أو عاملين، ويستخلص من مواقفهم الواقعية والحركية من نوع استجابتهم للأحداث وأسلوب رد الأفعال والأفعال، الأولون فكرهم نظرى يؤخذ من كتابتهم ومعانيهم وتستفاد من ظاهر عباراتهم، والآخرون فكرهم تجريبى، يؤخذ من مواقفهم وكتابتهم هى موقف وعمل سياسى فى المحل الأول، ومعانيهم تستخلص من سياق حركتهم فعلا ورد فعل.
وبهذا التصور حاولت أن أعالج كلا من الشخصيات التى يضمها هذا الكتاب، وسعد زغلول ومصطفى النحاس ساسة ورجال سياسة يقف كل منهم على رأس حركة سياسية، وفكرهم يستخلص من مواقفهم، وعبدالرحمن الرافعى إن كان مؤرخًا وله دراساته التاريخية التى تعطى العصر الحديث فى مصر من بداية القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين، إلا أنه كانت له حياة سياسية متميزة فى الحزب الوطنى، ولم يلق عليها الضوء، وعرفه جيلنا كمؤرخ فحسب، فكان من النافع أن يلقى عليه الضوء فى إطار الحركة السياسية، التى كان يعمل فيها، وأحمد حسين هو أيضا من رجال السياسة فى الفترة ذاتها، ورغم أنه أصدر العديد من الكتب بعد اعتزاله السياسة، فإننى حرصت على تبين مسيرته الفكرية فى إطار حركته السياسية فى حزب مصر الفتاة، مستخرجًا فكره من مواقفه.
هذه الشخصيات الأربع يجمعها أنهم كانوا جميعًا رجال الحركة الوطنية، وهم منها فى الفصيلين الأساسيين لها، الفصيل الذى تكون منه حزب الوفد، وكان أكثر اعتدالا فى وسائله ومرونة حركته، والفصيل الآخر الذى بدأ بالحزب الوطنى لمصطفى كامل ومحمد فريد، وتوالد من أروقته فى الحركة الوطنية المصرية حركات أخرى منها الإخوان المسلمون، ومصر الفتاة، والحزب الوطنى الجديد وأثر بارز فى الضباط الأحرار، الفصيل الأول فيه سعد زغلول والنحاس، والفصيل الثانى فيه عبدالرحمن الرافعى من الحزب الوطنى القديم، وأحمد حسين من مصر الفتاة.
ويبدو لى من مطالعة هذه الدرسات، أنه يشملها أيضًا النظر إلى الجماعة الوطنية لتكوين جامع وكوحدة اجتماعية متماسكة، بحسبان أنها فى مجال النشاط الوطنى تشكل وحدة الانتماء الرئيسية، هذا النظر مبنى على مطلب الاستقلال الوطنى الذى يشكل عمود الارتكاز للحركات السياسية الشعبية لدينا على مدى التاريخ الحديث، وهو يتنوع ويغتنى على مر الزمان والتجارب، أو بدأ فى الأعوام الأولى للقرن العشرين بالدعوة إلى جلاء القوات الأجنبية عن مصر، ثم استطرد فى العشرينيات إلى تحرير الإرادة الشعبية باسترداد الأصالة الإسلامية ومرجعيتها الشرعية، ثم اغتنى فى الأربعينيات بالمطالبة بالاستقلال الاقتصادى عن المؤسسات الاقتصادية الأجنبية. ثم اتسع فى الخمسينيات إلى شمول البلاد العربية كلها استقلالًا ونهوضا ووحدة.
على شجرة هذه الجماعة الوطنية، أضع أمام القارئ هذه الأفرع الأربعة، وأرجو أن أكمل عليها أفرعًا أخرى.. بإذن الله.