قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل:كشف حساب عن الأداء المصرى فى «20 يوم قتال» (11) - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 10:33 م القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل:كشف حساب عن الأداء المصرى فى «20 يوم قتال» (11)

الكاتب الصحفى الكبير - محمد حسنين هيكل
الكاتب الصحفى الكبير - محمد حسنين هيكل
عرض ــ خالد أبوبكر
نشر في: السبت 1 نوفمبر 2014 - 9:26 ص | آخر تحديث: السبت 1 نوفمبر 2014 - 10:22 ص

• الإيجابيات: اتخاذ السادات قرار الحرب.. كسر نظرية الأمن الإسرائيلى.. تفجير طاقات الجندى المصرى

تحقيق انتصار استراتيجى عبر عمل عسكرى باهر تمثل فى العبور.. وإقامة تحالف واسع على الناحية العربية للمعركة

السلبيات: غياب التنسيق بين مصر وسوريا.. إخطار العدو بالنوايا المصرية عبر رسالة السادات لـ«كيسنجر» يوم 7 أكتوبر

إضاعة الفرصة المتاحة للتقدم للمضايق يوم 9 أكتوبر.. الوقفة التعبوية.. ثغرة الدفرسوار.. الإدارة السياسية المرتبكة للحرب

بما يمكننا أن نتجاسر على وصفه بـ«الوقفة التعبوية»، التى استهدف منها إعادة تقييم الحوادث والفرص بعد تفنيد ما دار على جبهات «السلاح» و«السياسة» على مدار 20 يوم قتال، استهل الكاتب الصحفى الكبير، محمد حسنين هيكل الجزء الثالث والأخير (منحنيات على الطريق) من كتابه «أكتوبر 73 السلاح والسياسة»، والذى تعرضه «الشروق» فى هذه الحلقات.

وإذا كان المقصود بـ«الوقفة التعبوية» فى العلم العسكرى أنها «توقف مؤقت لأعمال القتال»، وإذا كان أفضل التوقيتات لها «عندما تلوح فى الآفاق احتمالات تغيير شكل الصراع المسلح، وتحوله إلى القنوات السياسية»، وإذا كان من أهم أهدافها «الاستفادة من خبرات القتال المكتسبة أثناء العملية الأولى، وتطبيقها أثناء العملية التالية، مع خلق توازن فى مسرح العمليات، بين التشكيلات التعبوية فى تحقيق المهام».. فإنه بتطبيق كل هذه المفاهيم نجد أن «وقفة الأستاذ» جاءت فى توقيتها المناسب الذى يؤمن لها تحقيق أهدافها، بعد أن تحول الصراع بقوة من المسرح العسكرى إلى المسرح السياسى اعتبارا من يوم 27 أكتوبر.

لذلك كانت أولى كلماته فى هذا الجزء من الكتاب «عندما تم تثبيت خطوط وقف إطلاق النار ــ إلى حد ما ــ فى الأيام الأخيرة من أكتوبر، كانت كل الضرورات تدعو إلى إعادة تقييم للوضع من أوله إلى آخره استعدادا لمرحلة أخرى من الصراع.. كانت الإيجابيات ظاهرة وكذلك كانت السلبيات. وكان الواجب تدعيم الإيجابيات وتعميقها، وعلاج السلبيات وتجاوزها».

فى الفصل الأول (متغيرات من كل اتجاه) من هذا الكتاب ـ الصادر عن دار «الشروق» ـ راح يعدد الكاتب الكبير الإيجابيات والسلبيات التى شابت الإدارة المصرية للصراع مع إسرائيل من 6 إلى 26 أكتوبر، وبدأ بالإيجابيات، التى أورد على رأسها «أن هناك رجلا استطاع أن يملك شجاعة القرار، وهو أنور السادات، وبصرف النظر عن المنحنيات الكثيرة التى مرت بها عملية اتخاذ القرار فإن هذا الرجل حينما وصل إلى اللحظة التى واجهته فيها الظروف بالسؤال الحاسم كان رده أن أعطى أمر القتال وأطلق شرارة الحرب.

وثانى الإيجابيات أن «مستوى التخطيط العلمى والعملى للمعركة كان دقيقا وكان ممتازا، واستطاع فى الأيام الأولى من القتال أن يحقق هدفا استراتيجيا لا يختلف أحد، وأولهم هنرى كيسنجر، وزير خارجية الولايات المتحدة على أهميته، وهو: كسر نظرية الأمن الإسرائيلى، التى تقوم على عدة مرتكزات: تفوق كيفى (أمام كم عربى) يعطى نفسه حق التصرف فى جرأة وقسوة. مع وضع عربى عام (يعتمد على الكم بدون قيمة كيفية) والخوف دائما مزروع فى عقله وأعصابه، ونتيجة ذلك وهن فى اتخاذ القرار العربى يحجم دائما ويقدم نادرا، ويقدم رجلا ويؤخر الثانية عندما تجىء المواجهة.

أما الإيجابية الثالثة فيقول فيها الكاتب الكبير «إنه كان هناك حد من السلاح لم يسبق له أن توافر فى أيد عربية. فالإمداد السوفييتى تدفق بمعجزة بعد قرار طرد الخبراء السوفييت فى يوليو 1972، وكان المتوقع أن يتوقف تماما بعد هذه الإهانة. ولكن الذى حدث أن الاتحاد السوفييتى أفاق إلى أنه يوشك أن يفقد مركزه العالمى كله، ومن ثم فتح مخازنه، وربما كانت لدى الاتحاد السوفييتى دواع أخرى جعلته يفتح المخازن، ولكن المهم أن هذه المخازن تفتحت عن آخرها.

والرابعة هى أن «تغييرا هائلا ظهر فى المعارك منذ اللحظة الأولى، وهو مستوى الجندى المصرى بالذات، والجندى العربى بصفة عامة؛ فالحرب فى الظروف التى نشبت فيها تفجرت عن طاقة إنسانية لم يكن أحد يحسب لها حسابا، أو يخطر بباله أنها موجودة على هذه الدرجة من الاقتدار».

وخامسة الإيجابيات «أنه إلى جانب هذا الانتصار الاستراتيجى فإن انتصارا آخر على مستوى العمل العسكرى المباشر تحقق متمثلا فى عملية العبور الرائعة التى اكتسحت مانعا مائيا ضخما، وأطاحت فى ساعات بخط دفاعى حصين على حافة الماء، ثم دخلت لعدة أيام فى معارك بالمدرعات والطيران، وأمنت لنفسها عدة رءوس كبارى داخل سيناء، وألحقت بالعدو خسائر وصلت إلى ربع طائراته وثلث دباباته تقريبا فى ظرف أسبوع واحد من القتال».

والسادسة أنه «نتيجة لهذا النجاح، فإن تحالفا واسعا على الناحية العربية للمعركة قام وراء جبهة القتال تمثل فى عدة خطوط تساند بعضها بطريقة تستطيع تعويض جزء كبير من الانحياز الأمريكى لإسرائيل.

وأنهى الكاتب الكبير الإيجابيات بقوله «إن تداعيات ذلك كله وتفاعلاته كانت وعدا بعصر عربى جديد تتبدى على الأفق علامات تومئ إليه.. عصر كان يمكن أن يضع العرب فى موضع يرضونه لأنفسهم، ويرضاه لهم تاريخ عادوا إليه الآن بعاصفة من الدم والنار».

اقرأ ايضاً :

قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل : روايتى عن حرب أكتوبر تدور أساسا حول السادات - (1)

قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل:مأزق السادات بعد رحيل عبدالناصر - (2)

السلبيات فى إدارة الصراع

وحول سلبيات ما جرى من يوم 6 أكتوبر إلى يوم 26 أكتوبر قال الكاتب الكبير ما يلى:

1 ـ لم يكن هناك تنسيق كامل بين الجبهة الجنوبية فى مصر والجبهة الشمالية فى سوريا. وإنما اقتصر التنسيق على التخطيط المبدئى للمعركة، وعلى يومها وساعتها، ولكن الأمر توقف عند هذا الحد رغم أن القائد العام للجبهتين كان واحدا وهو وزير الحربية المصرى. ومع التسليم المعتاد من حرص العرب على أن يكون لكل قبيلة منهم مراعيها الخاصة ومضارب خيامها إلا أن الظروف كانت تقتضى هذه المرة نوعا آخر من الممارسات. والحاصل أنه لا القائد العام استعمل سلطته فى التنسيق مع الجبهة الشمالية، ولا الجبهة الشمالية طلبت رأى القائد العام فى توجيه معركتها. ولم يقتصر «استقلال» الجبهتين على الجانب العسكرى، وإنما امتد إلى الجانب السياسى.

2 ـ إن الرسالة التى بعث بها السادات إلى كيسنجر يوم 7 أكتوبر عن أن مصر «لا تنوى توسيع مدى أو عمق العمليات الحالية على الجبهة المصرية» كانت خطأ على مستوى مأساوى. فهذه الرسالة فى ذروة الانتصارات العربية، كانت عودة إلى أنواع الحلول المطروحة قبل الحرب وصياغاتها بطريقة غير مبررة وغير مناسبة مع حجم ما تحقق بالسلاح على رقعة ميدان القتال. ثم إنها كانت إخطارا للعدو بالنوايا المصرية، غير مقبول فى ظرف حرب، وقد ساعدته على وجه اليقين كى يعيد ترتيب جدول أعماله وأولوياته، وتنظيم أفكاره وخططه، ويتحرك عارفا ومطمئنا إلى أنه يملك الفرصة والوقت. وتكفى مراجعة الطريقة التى تلقى بها كيسنجر هذه الرسالة والانطباعات التى خرج بها نتيجة لها لكى تتضح فداحة الآثار التى ترتبت عليها.

3 ـ إضاعة الفرصة المتاحة للتقدم نحو المضايق يوم 9 أكتوبر، رغم أن ذلك ما كانت تقتضيه الخطة الأصلية لعملية «بدر» كما تم الاتفاق عليها وجرى توقيعها مع الطرف السورى (...) ولو أن التقدم إلى المضايق تم فى موعده المقرر فى الخطة، لكانت القوات المصرية قد بلغت مواقع طبيعية تستطيع التمركز فيها والدفاع عنها ومنع اجتيازها باختراق مضاد إلى الغرب من قناة السويس كما حدث فيما بعد. وبالطبع فإنه من الظاهر أن التردد فى هذا الأمر كان راجعا إلى التعهد الذى تم تقديمه لكيسنجر دون مقابل فى رسالة يوم 7 أكتوبر المشئومة.

4 ـ ويلحق بهذه السلبيات ذلك القرار الذى صدر (تأسيسا على رسالة 7 أكتوبر لـ«كيسنجر» أيضا) بأن تتخذ القوات المصرية «وقفة تعبوية» يوم 9 أكتوبر، ثم تقوم مصر بإعلان هذا القرار رسميا يوم 10 فى ذروة انتصارات القوات المصرية، ودون تشاور مع الجبهة الشمالية، ومفاجأة للكل بمن فيهم عناصر فى القيادة المصرية ذاتها.

5ــ ثم يجىء ذلك التضارب فى القرارات: تقدم، ثم توقف، ثم عودة مفاجئة إلى التقدم تحت ضغوط الجبهة الشمالية، واستجابة متأخرة وبعد فوات الفرصة لفريق من القادة العسكريين المصريين فاجأتهم حكاية «الوقفة التعبوية». فقد صدر القرار بتطوير الهجوم المصرى شرقيا والتقدم إلى مشارف المضايق يوم 12 لكى يتم تنفيذه يوم 13، ثم تبدت استحالة التنفيذ فى ذلك اليوم، فتأجل الهجوم إلى يوم 14، وكانت الفرصة قد أفلتت تماما، وتعرضت القوات المصرية المهاجمة إلى صدمة لم تكن تستحقها، وإن كان بعض القادة قد توقعوها واحتجوا مبكرا عليها.

6 ـ دفع الفرقتين الواحدة والعشرين والرابعة المدرعتين إلى الشرق فى سيناء يومى 12، 13 أكتوبر لكى تشتركا فى تطوير هجوم فات وقته، ويكون من شأن ذلك أن يحرم الجيش المقاتل من احتياطيه الاستراتيجى، خصوصا أن هذا الاحتياطى الاستراتيجى كان مكلفا من الأصل بتنفيذ الخطة 200 التى تحسبت لاختراق إسرائيلى مضاد، ورصدت القوات الكافية لضربة، وبذلك فإن عمق الجبهة المصرية انكشف دون مبرر معقول، كما أن قدرة القوات على المناورة وجدت نفسها مقيدة حين وقع ما سبق التحسب له.

7ــ عدم التنبه المبكر إلى الثغرة الإسرائيلية العبور المضاد (مساء يوم 15 أكتوبر) إلى الغرب فى الوقت المناسب، والميل إلى التقليل من خطورتها مما ترك لها الفرصة ليستفحل أمرها. ثم ما أعقب ذلك من خلاف حول أسلوب مواجهة هذا العبور المضاد، مما مكنه من تحقيق أهدافه ودفع قواته إلى العربدة فى الغرب، ومحاولة تدمير حائط الصواريخ المصرى، بالإضافة إلى احتلال أرض جديدة للمساومة عليها بعد وقف إطلاق النار. ولقد بدا القرار السياسى فى ذلك الوقت مرتبكا ومتعثرا، مما انعكس أثره على جبهة القتال، ومد تأثيره إلى الجبهة الداخلية دون داع أو ضرورة.

8 ـ القبول بقرار لوقف إطلاق النار وتحديد موعد له دون التشاور مع سوريا، وحتى دون إخطارها بالساعة. ولم يكن ذلك جائزا فى أوضاع حرب على جبهتين ومهما كان من شأن انعدام التنسيق فى العمليات قبل ذلك. فقرار بقبول وقف إطلاق النار أمر خطير تترتب عليه نتائج واسعة المدى، ولم يكن من حق القيادة العامة السياسية للحرب على الجبهتين أن تتصرف فيه منفردة، أو تترك للسوفييت مهمة إخطار السوريين به مهما كانت التبريرات.

9 ـ ثم تجىء بعد ذلك سلسلة التصرفات العصبية عندما بدا إصرار إسرائيل على مواصلة خرق وقف إطلاق النار: من الشكوى إلى كيسنجر إلى طلب مراقبين للإشراف على الخطوط إلى طلب قوة أمريكية سوفييتية على الأرض إلى التراجع عن هذا الطلب تحت ضغط كيسنجر ودون إخطار السوفييت (الذين فوجئوا بأمر واقع أهدر موقفهم الحازم بعد أن وصل بالأزمة كلها إلى مستوى مواجهة دولية على القمة). ثم انتهى ذلك كله إلى رسالة من الحكومة الإسرائيلية عن طريق كيسنجر تقترح مفاوضات عسكرية مباشرة «لا تقصد إلى إلحاق المهانة بمصر أو الاستسلام، وهو تحول غريب فى مسار حرب بدأت على مستوى ممتاز، وانزلقت إلى مأزق لا ضرورة له، ثم قبلت بما لم يكن هناك داع إلى القبول به.

اقرأ ايضاً :

قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل: معركة السادات مع «مراكز القوى» والرهان على واشنطن للوصول للحل السلمى - (3)

قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل: مصر عاشت نوعا من الانفصام بين السياسة والسلاح عام 1972 - (4)

الموقف لم يكن سيئا

وبعد أن استعرض «الأستاذ» إيجابيات وسلبيات الفترة ما بين 6 و26 أكتوبر قال «لو أن عملية إعادة التقييم - التى كانت ضرورية جرت بعد أن تم تثبيت خطوط وقف إطلاق النار فى الأيام الأخيرة من شهر أكتوبر 1973 لتبين منها أن الصورة العامة، فى المحصلة النهائية، لم تكن سيئة إلى الدرجة التى بدت بها لصانع القرار المصرى فى بداية مرحلة أخرى من الصراع العربى الإسرائيلى كانت على وشك أن تجىء بعد أن تسكت المدافع أو على الأقل تهدأ ولو مؤقتا على ميادين القتال. لكن هذه العملية لسوء الحظ لم تحدث، وراح القرار المصرى يواصل حركته العصبية المتعثرة فى اتجاهات متعددة ومختلفة، وأحيانا متعارضة ومتصادمة».

وحين كان السادات يسأل فى ذلك فقد كان رده باستمرار أنه يريد أن «يحافظ على حجم انتصاره» وكان ذلك حقا لا شك فيه وواجبا، لكن ذلك الحق والواجب كان يحتاج فى تلك الأيام إلى قدر كبير من ضبط النفس وهدوء الأعصاب وحسن الاستعداد لمرحلة مختلفة كانت بالتأكيد قادمة، بينما زيارة كيسنجر للمنطقة يجرى الإعداد لها والتحضير، والكل يتوقع بل ويعرف أنها علاقة فاصلة بين مرحلتين.

ولعل إسرائيل لم تكن تريد أن تترك للسادات فرصة يستعيد فيها زمام فكره ويعيد ترتيب أوراقه، واختارت أن تكون وسيلتها فى ذلك هى استمرار محاولتها لتطويق الجيش الثالث. وعادت القوات الإسرائيلية تتحرك وتمنع المراقبين الدوليين من الوصول إلى المواقع التى تكفل لهم متابعة ما يجرى على الأرض»، وهو ما تطلب العودة مرة أخرى إلى الاتصالات السرية ـ المرتبكة أحيانا والمتضاربة فى أحيان أخرى ـ بالرئيس الأمريكى ريتشارد نيكسون وزير خارجيته هنرى كيسنجر.

اقرأ ايضاً :

قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل: معجزة البشر على جبهتى سيناء والجولان في أكتوبر 1973 - (5)

قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» هيكل: «السياسة» تكشف خطوط «السلاح» بعد 20 ساعة قتال - (6)

العدو وقواتنا

من ضمن إجراءات ما أطلقنا عليه «الوقفة التعبوية» التى قام بها «الأستاذ هيكل» فى هذا الكتاب عند أحداث 27 أكتوبر ما يعرف فى العلوم الاستراتيجية بـ«تقدير الموقف»، وهى عملية ذهنية يقيم فيها القادة موقف العدو وموقف قواتنا وطبيعة الأرض والطقس، وبناء على تقييم هذه العوامل، التى تؤثر فى الموقف، يُتخذ القرار المناسب للمعركة.

وهو بالضبط ما قام به الكاتب الكبير بعد استعراض الاتصالات السرية بين السادات والأمريكان «الموقف لم يكن مقلقا فى حد ذاته إلى هذه الدرجة، ولكن الذى كان مثيرا للقلق هو العصبية الظاهرة فى التصرفات رغم أن حقائق الموقف على الأرض كانت تشير إلى تحولات جارية تأخذ من الموقف الإسرائيلى وتعطى للموقف العربى. وفند «الأستاذ» بعد ذلك حقائق الموقف على الجبهة الإسرائيلية (العدو) كالتالى:

1 ـ كانت نظرية الأمن الإسرائيلى قد انكسرت على المستوى الاستراتيجى، وهذه حقيقة لم يكن فيها شك. وأحدث هذا الانكسار حالة صدمة عسكرية وسياسية لم يسبق لها مثيل فى تاريخ إسرائيل، وقد أدى ذلك بدوره إلى أن تركيبة القيادة السياسية والعسكرية فى إسرائيل انفكت روابطها وتمزقت علاقاتها.

2 ـ كان انعكاس كسر نظرية الأمن الإسرائيلى أشد ما يكون على الجيش الإسرائيلى، فهذا الجيش عاش لسنوات طويلة أمل إسرائيل النهائى وموضع اعتزازها الأول، وكانت قوته وكفاءته واستجابته السريعة لمتطلبات أمن إسرائيل قد ارتقت به إلى مرتبة الآلهة. وهكذا فإن الجيش الإسرائيلى كان أول الأصنام التى ضاعت قداستها، كما أن أصناما أخرى بدأت تترنح وعلى وشك السقوط مثل المخابرات الإسرائيلية التى كانت موضع حسد قوى عظمى، ثم انكشفت بالتجربة العملية فإذا هى غائبة فى الوقت الذى كان حضورها فيه ألزم ما يكون. ولم يكن غيابها بالمعلومات فقط، لكنه كان أيضا فى التحليل والربط والاستنتاج.

3 ـ وأدى انكسار نظرية الأمن واهتزاز صورة الجيش الإسرائيلى، والمخابرات الإسرائيلية، إلى ثورة عارمة فى أوساط الرأى العام الإسرائيلى، وراح الكل يتنصل من المسئولية، وتطايرت الاتهامات، وبدأت تصفية الحسابات كل ذلك وأجواء الحرب مازالت محيطة بالآفاق. ولم يقتصر تبادل الاتهامات على سياسيين ضد سياسيين، وإنما امتد إلى عسكريين ضد سياسيين، وسياسيين ضد عسكريين، بل إلى عسكريين ضد عسكريين. وكانت الصورة العامة كئيبة.

وتضاءلت وذابت أساطير، ومنها أسطورة «جولدا» التى كان الظن أنها من فصيلة النمور المتوحشة، فإذا هى قطعة عاجزة بوقر السنين، وبينها أسطورة «موشى» («ديان») الذى كان الظن أنه «البطل الإسرائيلى المحارب» فإذا معدنه يسيح تحت حرارة نيران أكتوبر.

4 ـ وكان الموقف العسكرى الإسرائيلى على الأرض بالغ الخطورة. فإن قيادة هذا الجيش وهى التى رغبت فى نشره فوق أوسع رقعة من الأرض غرب قناة السويس، وبسرعة قبل سريان قرار وقف إطلاق النار، وبعد سريانه بأيام حققت له الاتساع فى الرقعة، ولكنها لم تستطع أن تحقق له أى توازن بالعمق.

وفى الحقيقة فإن انتشار الجيش الإسرائيلى مع سعسع قرب دمشق، إلى السخنة جنوب السويس، كان خطا طويلا (أكثر من خمسمائة كيلو متر) يعجز أكبر الجيوش فى العالم عن الاحتفاظ به طويلا والدفاع عنه بكفاءة.

(وكانت تلك أخطر مواضع الانكشاف فى موقف إسرائيل فى هذه الفترة، فالعنصر الحاسم فى أى خط عسكرى ليس مجرد طوله، ولكن عمقه بالدرجة الأولى وتوازن هذا العمق مع الطول).

5 ـ إن هذا الطول المخيف فى الخطوط الإسرائيلية، والذى كان يكشفها ويعرضها، كان يفرض فى نفس الوقت استمرار التعبئة العامة إلى أقصى درجاتها. وفى حين أن إسرائيل تعودت من تجارب الماضى أن تفك التعبئة العامة لقواتها بأسرع ما يمكن فإنها فى تجربة سنة 1973 وجدت نفسها مرغمة على الاستمرار فى عملية التعبئة العامة لدعم خطوط طويلة وهشة، وكان ذلك يعنى أن عجلة الإنتاج الإسرائيلى فى الزراعة وفى الصناعة وحتى فى الخدمات متوقفة تماما أو على وشك أن تتوقف.

6 ـ وكان انعكاس ذلك كله على الخارج شديدا، فالعالم الذى تعود على رؤية إسرائيل فى صورة، اكتشفها فى صورة مختلفة.

اقرأ ايضاً :

قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة».. لهيكل: تطوير الهجوم المتأخر يتسبب فى حدوث ثغرة الدفرسوار - (7)

قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل: غليان فى القيادة المصرية بشأن تصفية الثغرة - (8)

الموقف العربى (قواتنا)

انتقل بعد ذلك الأستاذ لشرح حقائق الموقف العربى (قواتنا) مشددا على أنه كان يتحسن بوضوح كالتالى:

1 ـ استطاعت القوات المصرية أن تعيد نوعا من التوازن إلى جبهتها. وبرغم الضغوط التى كانت إسرائيل تحاول تركيزها على الجيش الثالث، فإن هذا الجيش كان يقاوم ببسالة، كما أن أوضاعه الحقيقية كانت أفضل بكثير من الصورة التى تخيلتها السياسة من بعيد. هذا مع التسليم بأن إسرائيل حاولت بالفعل أن تجعل من الجيش الثالث رهينة تساوم عليها. لكن هذه المحاولات كانت غير قادرة على النجاح بسبب انتشار القوات الإسرائيلية وعدم قدرتها على تركيز مجهود رئيسى يقدر على تصفية موقف جيش بأكمله.

2 ـ ولقد زاد على ذلك أن الأعصاب فى القيادة هدأت عندما بدأت دواعى الخطر التى أقلقتها تتراجع الأرض. وعلى سبيل المثال، فإنه فى يوم 27 أكتوبر لم تكن هذه القيادة تملك على طول المسافة من خطوط السويس إلى القاهرة أكثر من 74 دبابة. لكن الذى حدث فى الأيام الأخيرة من أكتوبر، والأيام الأولى من نوفمبر 1973 أن مددا ضخما أصبح تحت تصرف هذه القيادة. فقد توجه السفير السوفييتى «فلاديمير فينوجرادوف» إلى مقابلة الرئيس «السادات» يوم 28 أكتوبر، وأبلغه بأن القيادة السوفييتية قررت تعويض الجيش المصرى عن بعض خسائره من الدبابات، وأهدته 250 دبابة واصلة فى ظرف 48 ساعة إلى ميناء الإسكندرية، وكلها من طراز «تى 62».

وفى نفس الوقت بعث الرئيس «تيتو» إلى الرئيس «السادات» يخطره بأن لواء كاملا من الدبابات فى طريقه إلى مصر.

وفى نفس الوقت أيضا فإن لواء دبابات جزائرى وصل إلى مصر. وفى المحصلة، فإن القيادة التى لم يكن لديها ما بين خطوط السويس والقاهرة يوم 27 أكتوبر غير 74 دبابة وجدت نفسها مع الأيام الأولى من نوفمبر وإذا تحت تصرفها ما يقرب من 800 دبابة.

3 ـ وكان العالم العربى بأسره كما لاحظ الرئيس «السادات» على استعداد لأن يستجيب لأى طلبات مصرية. فقد كانت تضحية الناس ظاهرة أمام الجميع. ولم يكن من السهل على أحد أن يتردد إزاء شىء يطلب منه، هو على وجه اليقين أرخص من الدم. وكان سلاح البترول لايزال مشهرا، فتخفيض الإنتاج كان يتم تلقائيا كل شهر بنسبة 5٪، كذلك كانت قرارات الحظر شبحا يهدد ويردع. وكان أمر الفوائض المالية العربية سؤالا معلقا على كل الأسواق التى راحت تسترضى العرب بكل وسيلة.

4 ـ واستطاع «السادات» تلطيف الأجواء فى العلاقات بينه وبين الرئيس «حافظ الأسد»، بسبب التوتر الذى شاب العلاقات بينهما أثناء المعركة.

5 ـ ومع هذه العوامل الإيجابية التى راحت تؤكد نفسها فى الموقف المصرى، فإن الاتحاد السوفييتى عاد من جديد يطارد أمله فى الحصول على مركز فى الأزمة يتساوى مع حجم مساعداته للعرب كما يراها من وجهة نظره (...) وهذا كان مفيدا للموقف العربى فى تلك الأوقات. فقد حافظ على بقاء أزمة الشرق الأوسط عند مستوى القمة الدولية.

6 ـ وكان موقف أوروبا الغربية مختلفا بشدة عما كان معهودا من قبل. وعلى سبيل المثال فقد ذهب السفير الألمانى فى القاهرة وقتها إلى مقابلة الأمين العام لجامعة الدول العربية محمود رياض، يشكو إليه من أن الإعلام العربى يحمل نبرة تهديد إزاء ألمانيا الغربية تلوح لها بشبح سلاح البترول. سأله: «ماذا تريدون من ألمانيا أكثر من أن تعلن فى كل مناسبة أنها متمسكة بتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 242 كاملا؟».. ورد عليه محمود رياض من واقع إحساسه بقوة الموقف العربى قائلا: «يا سعادة السفير، إن جامبيا، وهى دولة أفريقية صغيرة وفقيرة، لم تكتف بأن تقول إنها ملتزمة بتنفيذ قرار مجلس الأمن كاملا، وإنما وصلت إلى أبعد من ذلك، فقطعت علاقاتها مع إسرائيل».

اقرأ ايضاً :

 

قراءة في كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل: السادات يقبل قرار وقف إطلاق النار دون إبلاغ سوريا - (9)

قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل: العالم على حافة مواجهة بين واشنطن وموسكو لعدم التزام إسرائيل بوقف القتال (10)



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك