زمانٌ فى مكان، مكانٌ فى زمان - بوابة الشروق
السبت 14 يونيو 2025 7:15 ص القاهرة

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

زمانٌ فى مكان، مكانٌ فى زمان

«الصرخة» الجزء الثانى من سيرة رضوى عاشور الذاتية
«الصرخة» الجزء الثانى من سيرة رضوى عاشور الذاتية
الشروق
نشر في: الثلاثاء 2 يونيو 2015 - 9:07 ص | آخر تحديث: الثلاثاء 2 يونيو 2015 - 9:40 ص

اليوم الأول من يناير 2014. أنا فى عمان. وصلتُ قبل أقل من أسبوعين لأن والدة مُرِيد، السيدة سكينة البرغوثى رحلت. جاءنا الخبر فى القاهرة فى الثانية عشرة لى، اليوم الاثنين السادس عشر من ديسمبر. رتب مُرِيد للسفر عبر التليفون وغادر مع تميم فجرا قاصدين المطار. بعد يومين لحقتُ بهما. لم تتح لى المشاركةُ فى الجنازة وطقوس الدفن، ولكننى تمكنت من حضور الليلة الثانية للعزاء فى مقر رابطة آل البرغوثى، ثم شاركتُ الأسرة فى استقبال المعزِين فى البيت على مدى الأيام العشرة التالية، أعنى بيت السيدة التى رحلت والتى بنت هذه الدار وعمرتها وغرست ما فى حديقتها من نباتات، واستقرت فيها، بعد تنقلاتٍ متعددة فى شقق مستأجرة فى عمان التى انتقلت للإقامة فيها لأن أحدا من أولادها الأربعة لم يكن متاحا له العودة إلى رام الله بعد احتلالها.

اليوم استيقظتُ فى السابعة والنصف صباحا وبى رغبةٌ فى الجلوس إلى الكمبيوتر والكتابة عن السيدة التى فقدناها. غسلتُ وجهى وفركتُ أسنانى، واتجهت إلى المطبخ لإعداد قهوتى الصباحية.

حملتُ القهوة وجلستُ للكتابة. غرفةُ المكتب مُرَبَعَة تكاد نوافذُها تحتل حائطين من حوائطها الأربعة. حين أجلس إلى المكتب تكون الواجهة التى أمامى وتلك التى إلى يسارى مفتوحتين على الشجر، تجعل منه امتدادا للغرفة، لأن الشقة فى الطابق الأرضى، فى مستوى الحديقة، لها باب يفتح عليها وعلى درج حجرى يقود إلى الطابق الأول من البيت، وإلى حديقة أخرى عُلْوِيَة صغيرة.

تصعد الدرج، ترى عن يمينك حوضا من أزهار الجُهَنَمِية، وعن يسارك حوضا آخر من أزهار الجيرانيوم. ويمتد بين الجهتين قوسٌ من القضبان الحديدية الدقيقة، تتسلق عليه فى الربيع والصيف ورودٌ حمراء صغيرة تُعرف باسم «روز بومبون». ما أن تنتهى من الصعود حتى تستقبلك عن يسارك ثلاثُ شجيرات متجاورة بحذاء سور البيت، اثنتان من الياسمين البلدى وثالثةٌ مستقرةٌ بينهما من الياسمين العراقى. فى ليالى الصيف ينشرُ الياسمين رائحتَه، وينثرُ أزهاره المُنمَنمَةَ البيضاء تحته ومن حولهِ. يتسلق الياسمين الحائط الشرقى ويترك للسَرْو.

الحوض، خمس سروات عالية وكبيرة واثنتان صغيرتان مُشَذَبتان بجوارهما شجيرة ورد بلدى وشجيرة ليمون، حمل مُرِيد لأمه شتلتها من مصر، كما حمل لها منها زهرةَ عصفور الجنة، وغرسها ورعاها فصارت تكرمه كل عام بزهرتها الفريدة.

حوضُ السَرْوات يمتد إلى السياج الحجرى الفاصل بين البيت والشارع ويميل معه ثم يتوقف عند المدخل ليتيح حيِزا لبوابته الحديدية الصغيرة التى تفضى إلى باب الشقة الخشبى. ينتهى الحوض الأول ليبدأ بعد الباب حوضٌ ثانٍ إلى يسار الداخل. فى زاويته الغربية شجرةُ غار عالية كثيفة الأوراق، يجاورها تعريشةُ عنب يسمونها فى البيت التعريشة العُلوية. يحيط بهذا الحوض إطارٌ مُشَذَب من الخُزامى طيبة الرائحة. أما حوض السروات فيحيط به إطار من حصى البان الأكثر كِتْمانا من الخُزامى، لأنه لا يبوح لك برائحته إلا لو فركتَ أوراقَهُ الدقيقة بين يديك أو سقيتَه بالماء أو سقاه المطر.

حين نأتى إلى عمَان فى العُطلة الصيفية، نقيم فى هذه الشقة بالطابق الأرضى، وهى شقة صغيرة مكوَنة من غرفتين، غرفة نوم متصلة بحمام، وغرفة مكتب، بها، فضلا عن المكتب والمكتبة، أريكة ومقعدان وثيران. وبها مطبخ صغير ودورة مياه. تتيح لنا هذه الشقة درجة من الاستقلالية وتسمح لمن يريد أن يكتب أن يجلسَ إلى المكتب ويُنجزَ ما يريد، لأن بيت والدة مُرِيد كبيت جدى فى حُلْوَان بيتٌ مفتوح يأتيه الضيوف على مدى اليوم بلا موعد. وقد تدوم الزيارة النهار بأكمله وقد تمتد لأيام، وأحيانا أسابيع.

فتحتُ السواترَ الخشبية للنوافذ وجلستُ إلى المكتب. لون السماء حليبى. يمتد الضباب كثيفا وواطئا يكاد يصل الأرض، ويملأ الفراغات بين البيوت. أمامى مباشرة شجراتُ الزيتونِ الأربع، لا تحمل الآن زيتونا لأن موسم جمع الزيتون انقضى قبل شهرين. فى نهاية الصيف أو بداية الخريف تكون هذه الأشجار مُحَمَلة بالثمار. وشجرُ الزيتون يا عزيزى القارئ إن لم تكن على معرفة به وبحكايته، شجرٌ مُعَمِر يعيش مئات السنين، يحمل ثمرا وفيرا فى عام، وفى العام التالى لا يحمل إلا القليل من الثمر، كأنه يستريح أو يستجمع طاقته لحمل السنة اللاحقة. وصف القرآنُ شجرةَ الزيتون بأنها شجرةٌ مباركة، ووصفها سوفوكليس على لسان أوديب بأنها مصدرُ خوفٍ لجيوش الأعداء. ولذلك ربما يعمل الإسرائيليون بلا كللٍ على اقتلاعها. يأتون بجنودهم وجرافاتِهِم ومناشيرِهِم الكهربائية ويُعملونها فى الجذوع المُعَمرة، وتكون المذبحة. ولا أدرى إن كانت سَكينة فكرت فى أى فعلٍ مقاوِم وهى تزرعُ الزيتونَ عِوَضا عن الزيتون المُقتلع أو المُفتقد فى بلدها المحتل، أم أنها كانت بعفوية وبساطة تزرع الزيتون لأنها رأت أهلَها يفعلون ذلك وعاشت كما عاشوا فى ظل مواسمِه، تأكلُ من ثمرِه وزيتِه على مدى العام.

لا، لم تغرس سكينة الشجراتِ الأربع التى أشرت إليها فحسب، بل غرست إحدى عشرة شجرة، ستا منها أمام البيت، فعليا فى الشارع على الرصيف، زاد عليها شجيرة صغيرة نمت وحدها بقدرة قادر، ونقص منها شجرةٌ ماتت، كما يموت للمرأة التى تنجب عددا من الأولاد والبنات، طفلٌ من أطفالها فيبقى غائبا حاضرا، لأنه مات وإن لم يغب عن الذاكرة القريبة أو البعيدة.. كذلك شجرة التين الخضارى) أى الأخضر (التى فى الزاوية ماتت قبل عدة سنوات).

يقول مُرِيد: قتلتها شجرة الزيتون.. الزيتونة معمِرة جذورُها قوية وتمتد، التينةُ أضعفُ منها.
ماتت التينة. لم يبق منها إلا جذعُها المقطوع شاهدا أنها كانت ذات يوم خضراء ومثمرة. فى الزاوية بعيدا عن الزيتون، شجرة لوز يجاورها شجيرة مِيرَمِيَة. لا أغلى أوراقَها وأشربُ منقوعَها إلا لمعالجة آلام فى المعدة أو الأمعاء.. أما سكينة فكانت على طريقة أهل القرية، تشرب الشاى كل صباح بالمِيرَمِيَة. وأحيانا بعد الظهر تشربه بأوراق النعناع. شهدت الأردن فى الأسبوع السابق على وصولنا عاصفة ثلجية عاتية دمرت الأشجار وقطعت الغصون وسدَت الطرقات، وعطلت وصول سيارة الإسعاف لحمل سكينة إلى المستشفى، فحملها ابنها مجيد وحفيدها غسان، ثم عادا بها إلى البيت بعد أن قام الأطباء بعمل اللازم. ولكنها رحلت فى الليلةِ ذاتِها. آثارُ العاصفة واضحة فى حديقة سكينة، ولكن أشجار الزيتون التى أنصفها سوفوكليس ووصفَها بأن أحدا من الشيوخ والشباب لا يستطيع تدميرها، بقيت على حالها ناهضة مكتملة. ليس الكلام عن الزيتون وغيره من أشجار الحديقة استطرادا يا صاحبى القارئ والقارئة إذ يصعب الحديث عن سكينة البرغوثى دون الكلام عن أمور ثلاثة هى فى رأيى أكثر ما يُمَيِزُها: مهارتُها فى التطريز والحياكة، ونجاحُها اللافتُ فى تربيةِ أولادها الأربعة، وفى رعايةِ النباتات والشجر.

هى زرعت هذه الحديقة بطابقيها. حديقة صغيرة فى الحالتين. لا تتجاوز مساحة الحديقة السفلية، الكبرى، قيراطا من الأرض. فى الجهة الغربية من هذه الحديقة السفلية، أنشأت سكينة تعريشة للعنب، ثم تعريشة أخرى فى المستوى الأعلى (التعريشة المجاورة لشجرة الغار). فى الصيف يكون الكَرْمُ استوى وتدلى عناقيدَ حمراءَ داكنة أو خضراء يضرب أخضرُها الفاتح إلى خمرى أصفر رائق وشفاف. تتأملها، تقول أنصف الرحبانية فى الغناء عن «ثُرَيَات العِنَب». قبل أيام القطاف تُرَتِب سكينة لتغليف العناقيد فى أكياس ورقية لحمايتها من العصافير. لكلِ عنقودٍ كيس. تستمع إلى محمد المزارع الذى يأتيها مرة فى الأسبوع، أو تنصحه بأن يفعل كذا وكذا. وحين يستوى العنب، تُرفع الأكياس لقطف العناقيد، نأكل منها ونشرب من عصيرها. تأتى سكينة بسلال كبيرة من البلاستيك وتوزِع من كَرْمِها على الأهل والجيران. تقع تعريشةُ العنب فى الجهة الغربية من الحديقة السفلية. يجاورها شجرةُ أسكادينيا ثمارها صغيرة برتقالية لامعة، وشجرةُ سفَرْجَل فاكهتها أكبر، أشبه بالكمثرى، لا تستبدل أخضرها الليمونى إلا عند نضوجها فى الخريف فيغدو أصفر شمسيا. وشجرةُ برقوقٍ أحمر يضرب إلى البنفسجي، يسمونه «بُوز العِجْل»، شجرةٌ كبيرةٌ عالية ثمرُها وفير يتساقط الناضج منه حولها فتسبِقُكَ إليه العصافيرُ والدود. وفى الحَيِز الطينى الممتد من التعريشة إلى الحائط الشرقى، الفاصل بين البيت والجيران، زرعت سكينة ثلاثَ شجيراتِ ليمون. خلفها، أقرب إلى السور، شجرةُ كمثرى (رأيتها تكبر سنة بعد سنة، ودائما ما تطرح ثمرا وفيرا)، وثلاث شجيراتٍ تُفَاحُها بلديٌ صغير.

وإلى يمين شجيرات الليمون، فى الحَيِز الأقرب إلى نافذة غرفة المكتب، شجرة فستق بقيت لسببٍ أو آخر صغيرة لا تُثمر، تجاورها شجرة مشمش. وأنا أجلس إلى المكتب أحاول وصف الحديقة، لمحت مجيد، شقيقَ مُرِيد يروى الحديقة. قلت له عبر النافذة: صباح الخير، قال صباح النور. قلت لنفسى: ربما يتواصل مع أمه بسقى أشجارِها. أردت أن أسأله عن ذلك، ولم أفعل. قال لى مجيد: إن المُزارع الذى أتى لرفع الغصون التى سقطت وقص ما انكسر منها، سيأتى ليتخلص من الأوراق الجافة ويقلِب التُربة، ويُسَمِدها، ويُقَلِم الأشجار ويرشها لحمايتها من الدود والمواد السامة. قال مجيد: أخبرنى المزارع أنه سيأتى يوم 25 يناير ليُنجز تلك المهام. لم أُعَلِق. لم أسأله إن كان المزارعُ مصريا، ولكننى لسبب ما كنت موقنة أنه مصرى.

أنظر أمامى وأنا جالسةٌ وراء المكتب. خلف شجرات الزيتون الأربع عمارة من عدة طوابق بُنيت قبل بضع سنوات. كانت الأرضُ التى بُنيت عليها ملكَ مجيد. ولأن سكينة البرغوثى كالطبيعة لا تقبل الفراغ، فقد اتفقت مع مقاول نقَل لها تُربة محملة على سيارتى نقل.

غطت الأرض بالتربة وبدأت فى مشروعها: زرعت الأرض بشتلات اشترتها وغرستها وواظبت على رعايتها. بعد أقل من ثلاثة أعوام تحولت الأرضُ القفر إلى بستانٍ أشجارُه مثمرة: تين وزيتون ولوز ومشمش وخوخ وتفاح. وفى الفراغات بين الأشجار زرعت زعتر ومِيرَمِيَة، وكوسة وطماطم وفلفل رومى. وكانت سكينة حين فلحت هذه الأرض، بمساعدة مزارع أحيانا، تقترب من الثمانين من عمرها، أى والله، الثمانين! كنا فى بيتنا فى القاهرة حين اتصلت بنا وأخبرتنا أن الأرض ستباع!.. قالت: ألا يمكنكم شراؤها؟ تميم، ألم تتخرج وتحصل على الدكتوراه؟ ألا تستطيع شراء الأرض؟ لم نقدر على ذلك وبدا لنا سؤالُها لتميم طريفا. لم نتخيل معنى هذه الأرض بالنسبة لها. تم بيع الأرض. ورأت سكينة بعينيها اقتلاعَ الأشجار التى غرستها. تابعت الجرافات وهى تُمَهِد الأرض للحفر عميقا فيها. الآن وأنا أسترجعُ الواقعة أشعر بالخجل من نفسى لأننى وأنا الكاتبة افتقدت الخيال، ولم أفهم حين قالت لتميم ألا تستطيع «انتشال العائلة»؟ إن اقتلاع أشجارِها كان أشبه بالغرق! تحتاج ولدا من أولادها أو أحفادها لانتشالها منه.

• جزء من الفصل الحادى عشر من «الصرخة» الجزء الثانى من سيرة رضوى عاشور الذاتية ــ دار الشروق 2015

إقرأ أيضًا :

رضوى عاشور.. زهرة الستينيات

عن رضوى عاشور

تميم ومريد البرغوثى يوقعان أول رواية لرضوى عاشور بعد الرحيل



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك