خالد فهمى يكتب لـ«الشروق» عن: البى بى سى وسايكس ــ بيكو.. ومؤامرة تقسيم العالم العربى - بوابة الشروق
الأربعاء 8 مايو 2024 9:25 م القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

خالد فهمى يكتب لـ«الشروق» عن: البى بى سى وسايكس ــ بيكو.. ومؤامرة تقسيم العالم العربى

خالد فهمى المؤرخ
خالد فهمى المؤرخ

نشر في: الجمعة 3 يوليه 2015 - 11:12 ص | آخر تحديث: الجمعة 3 يوليه 2015 - 11:37 ص

• لم يكن المقصود من الحلقة نفى وجود مؤامرة أو تواطؤ وإنما طرح أسئلة جديدة عن الحرب وعن أثرها على المنطقة

• لا ينتبه من يعتنق «نظرية المؤامرة» إلى حقيقة أن السير مارك سايكس لم يكن على دراية بمفاوضات السير هنرى ماكماهون مع الشريف حسين

• أحلام تشيرشل تحولت إلى كابوس.. ومُنى الحلفاء بهزيمة مروعة فى جاليبولىو خسروا ربع مليون قتيل

• الأستراليون فقدوا أغلب الجنود الذين اشتركوا فى هذه الحملة الكارثية.. وبالرغم من هذا اعتبروا ٢٥ أبريل ١٩١٥ عيدا وطنيا

• الاتفاقية لم ترسم حدودا للمنطقة وإنما وضعت تصورا عاما لكيفية تقسيم المنطقة بعد انتهاء الحرب

• «سايكس بيكو « طُرحت فكرة هامة مؤداها أن ما يصبو إليه العرب الآن ليس محو هذه الحدود المصطنعة بقدر ما هو إعادة رسم السياسة داخل هذه الحدود

• فى مقابل الفكرة الشائعة التى تقول إن العرب غُدر بهم وإن القوى الأوربية تآمرت عليهم.. ذهب بعض إلى أن ما حققه الهاشميون لم يكن شيئا هينا

• صحيح أن الشريف حسين لم يُتوج ملكا على مملكة عربية واحدة.. لكن ثلاثة من أبنائه انتهى بهم الحال على عروش ثلاث مملكات

منذ أسبوعين كان لى حظ المشاركة فى حلقة إذاعية نظمتها البى بى سى فى عمان بالأردن بمناسبة الذكرى المئوية للحرب العالمية الأولى. الحلقة تناولت مجريات الحرب فى منطقتنا وكيف انهارت الدولة العثمانية، وكيف ظهرت إلى الوجود خمس دول جديدة: فلسطين والأردن والعراق ولبنان وسوريا، بدلا من ظهور دولة عربية موحدة، كما كان العرب يطمعون أثناء الحرب.

وبما أن الحلقة كانت مفتوحة للجمهور الذى حضر لمركز «هيا الثقافى» بحى الشميسانى ولم تسجل فى ستوديو مغلق، فقد دارت مناقشات شيقة حول تفاصيل كثيرة تتعلق بالحرب، منها دور العميل الإنجليزى، تى إى لورانس، وعما إذا كان فضل قيادة الثورة العربية الكبرى ضد الحكم العثمانى يعود إليه أم إلى عودة أبوتايه زعيم قبيلة الحويطات، ودور الهاشميين فى الثورة، ومؤتمر السلام فى باريس عام ١٩١٩، ووعد بلفور، ومفاوضات الإنجليز مع الهاشميين، تلك المفاوضات المعروفة باسم مراسلات حسين ــ ماكماهون.

خالد فهمى وضيوف حلقة بى بى سى فى مركز هيا

 

على أن أكثر موضوع حاز اهتمام الجمهور كان اتفاقية سايكس ــ بيكو والمؤامرة الأوروبية الاستعمارية لتقسيم العرب والحؤول دون انظوائهم تحت لواء دولة موحدة. وجرت منقاشات مهمة (التى أدارتها باقتدار لِيس دوسيت، كبيرة المراسلين الدوليين فى البى بى سى) فيما بين أفراد الجمهور وبين الجمهور وأعضاء المنصة (التى كانت تتشكل منى، وعلى محافظة من الجامعة الأردنية ومعين ربانى من مركز الدراسات الفلسطينية) حول دور القوى الاستعمارية فى فرض حدود مصطنعة على منطقتنا، والنجاح الذى تحققه «داعش» الآن فى اللعب على مشاعر الحنق من تلك الحدود المصطنعة، وإذا كانت ما تطرحه «داعش» من إقامتها لدولة تتعدى هذه الحدود هو ما يصبو إليه العرب الآن.

وبدا لى من متابعة النقاش أن فكرة المؤامرة مازالت مهيمنة على عقلنا الجمعى، وأننا وإن كنا قطعنا شوطا بعيدا فى التعامل مع تلك المؤامرة بشكل نقدى، إلا أنه مازال أمامنا الكثير لتحقيقه. فسايكس ــ بيكو، لا شك، تعتبر واحدة من أكثر المؤامرات الاستعمارية خسة، حتى بمعايير وقتها، بل يمكن اعتبارها أنها أم المؤامرات قاطبة. ولكن ما الذى يمكن إضاقته إلى هذا الرأى؟ كيف يمكن لنا، كعرب، أن نتعامل بشكل نقدى مع ذكرى هذه المؤامرة الخسيسة؟

•••

قبل طرح محاولتى للإجابة عن هذا السؤال قد يكون من المفيد الإشارة إلى تجارب دول أخرى فى التعامل مع ذكرى الحرب العالمية الأولى. ليس الغرض هنا مقارنة أثر هذه الحرب الضروس على المجتمعات العديدة التى تأثرت بها تأثرا عميقا، بل الغرض هو دراسة تعامل هذه المجتمعات مع ذاكرتها التاريخية عن هذه الحرب ومع معانيها المختلفة.

هذا بالظبط ما حاولت أن تتلمسه البى بى سى. فهذه الحلقة التى شاركتُ فيها كانت الحلقة العاشرة وقبل الأخيرة من سلسلة من الحلقات بعنوان «الحرب التى غيرت العالم» والتى تناولت الذكرى المئوية للحرب. وقبل التطرق لهذه السلسلة وقبل تقديم عرض مختصر لبعض الحلقات الأخرى فيها، تجدر الإشارة إلى المجهود الضخم الذى تبذلة البى بى سى للاحتفاء بذكرى الحرب العالمية الأولى التى امتدت، كما هو معلوم من أغسطس ١٩١٤ إلى نوفمبر ١٩١٨. فعلى مدى أربع سنوات، بدأت فى السنة الماضية وتستمر لثلاث سنوات أخرى، ستقوم البى بى سى بمحطاتها المتعددة بإذاعة ١٣٠ برنامجا جديدا، ويبلغ عدد ساعات بث هذه البرامج الإذاعية والتليفزيونية ٢٥٠٠ ساعة. وتشمل الخريطة التى بدأ الإعداد لها منذ سنوات برامج درامية، وأفلام تسجيلية، ومواد موسيقية وفنية، بالإضافة إلى ندوات تاريخية.

أما سلسلة «الحرب التى غيرت العالم» فجرى الإعداد لها بدقة وبمهنية عالية. فالمعد، تشارلى تايلور، اتصل بى تليفونيا قبل تسجيل حلقتنا بشهر كامل، وأجرينا حوارين عن طريق سكايب كل منهما استغرق أكثر من ساعة، ثم أعقبت هذين الحوارين مكالمات تليفونية عديدة، ثم لقاءين شخصيين بعد وصولى لعمان. وكان الغرض من هذه اللقاءات والمكالمات تعريفى بالاتجاه العام للحلقة وما يجب أن أتوقعه عند التسجيل (دور الجمهور، وطريقة إدارة الحوار،.. إلخ) بالإضافة إلى المحاور العريضة التى أفضل التركيز عليها فى مداخلاتى. كل هذا دون أن نغوص فى التفاصيل أو أن أردد الكلمات عينها التى سألقيها فى التسجيل حتى لا نفقد عامل التلقائية والعفوية.

ولم استغرب عندما اكتشفت أن المعد على دراية دقيقة بتفاصيل موضوع الحلقة: دور الحرب فى رسم خريطة الشرق الأوسط، والتحركات الدبلوماسية العديدة التى واكبتها وأعقبتها، فهو قارئ نهم، واسع الاطلاع، عميق المعرفة. وتبين لى أنه هو الذى أعد الحلقات التسع السابقة. وهو صاحب فكرة تخطيط الحلقات بحيث يشارك الجمهور فى المناقشات ويلعب دورا أساسيا فى توجيه دفة الحديث. وهو، أخيرا، الذى اختار ضيوف الحلقات.

خريطة اتفاقية سايكس بيكو عام 1916

 

الحلقات السابقة فى هذه السلسلة الشيقة سُجلت فى المدن التالية: لندن وباريس ودرسدن واسطنبول وسيدنى ودار السلام ودلهى وسان بطرسبورج وسارييفو (الحلقة الأخيرة التى لم تذع بعد ستكون من واشنطن). الغرض من هذا التنوع الجغرافى لم يُقصد منه التأكيد على أن تلك كانت حربا عالمية بحق، ولكن القصد كان عرض التنوع الكبير فى معانى الحرب، ليس فقط فى كل مجتمع على حدة بل داخل كل مجتمع على مدى السنين.

فحلقة باريس مثلا تناولت تغيير مفاهيم البطولة والشجاعة أثناء الحرب، واندثار المعنى القديم للبسالة الذى كان يفتخر به الجندى بتلقيه الرصاص فى صدره.

أما حلقة درسدن، فكانت تدور حول رؤية المجتمع الألمانى الآن عن مسئولية ألمانيا فى اندلاع الحرب، وعن ذكريات الجمهور الحاضر فى القاعة عن الدروس التى تلقونها فى مدارسهم عن هذا الموضوع.

حلقة دلهى دارت حول الدور الذى لعبه نحو مليون ونصف مليون هندى تطوعوا للانخراط فى الحرب، وبالتالى تمحورت المناقشة فى الحلقة حول تفسير هذا العدد الضخم من الرجال الذين شاركوا فى حرب لم يكن لهم فيها لا ناقة ولا جمل.

أما أكثر الحلقات تشويقا وإثارة فكانت تلك التى سُجلت فى سيدنى، والتى تناولت طريقة تعامل المجتمع الأسترالى مع ذكرى الحرب. فأستراليا بعثت بعشرين ألف جندى فى حملة كارثية خطط لها ونستون تشيرشل بنفسه (وكان وقتها قائد الأسطول البريطانى) وكان يطمع من وراء تلك الحملة لفتح جبهة جديدة ووضع نهاية للحرب التى كانت قد اندلعت فى العام السابق. ولكن أحلام تشيرشل تحولت إلى كابوس، ومُنى الحلفاء بهزيمة مروعة فى جاليبولى، فالقوات العثمانية بقيادة مصطفى كمال (أتاتورك) استطاعت صد الهجوم والتشبث بشبح الجزيرة وتكبيد الحلفاء زهاء ربع مليون قتيل.

اللافت فى النظر هو أن الأستراليين فقدوا أغلب الجنود الذين اشتركوا فى هذه الحملة الكارثية، ولكن وبالرغم من هذا فإن أستراليا تعتبر يوم جاليوبولى (٢٥ أبريل ١٩١٥) عيدا وطنيا تحتفى، بل تحتفل، فيه الأمة بذكرى ضحاياها. حول هذا السؤال ــ كيف ولماذا وقع الاختيار على هزيمة عسكرية مروعة لتكون عيدا قوميا؟ ــ دارت حلقة سيدنى. وكغيرها من الحلقات، دارت المناقشات فى تلك الحلقة ليس فقط حول سرد الوقائع التاريخية محل البحث، ولكن، وهو الأهم، حول طرق استعادة ذكرى تلك الأيام والشهور العصيبة. وتحديدا طرحت فى هذه الحلقة أسئلة عن: المسكوت عنه فى الذاكرة الجمعية الأسترالية (وتحديدا حول إسهامات السكان الأصليين، الأبوريجينيين، فى الحرب)، الدور الذى لعبته حملة جاليبولى فى تميز الأستراليين عن سادتهم الإنجليز وبالتالى فى إزكاء الشعور الوطنى الأسترالى، وعما إذا كان المجتمع الأسترالى الآن يبالغ فى الاحتفال السنوى بهذه الذكرى الوطنية.

•••

مما سبق يتضح أن الغرض من سلسلة حلقات «الحرب التى غيرت العالم» التى تذيعها البى بى سى ليس إعادة إنتاج الماضى وتمثيله، ولكن التعامل معه بشكل نقدى ومحاولة الوقوف على المعانى المختلفة التى يحملها ذلك الماضى. فكل حلقة من حلقات السلسلة لا تعيد سرد رواية تاريخية محددة عن الحرب العالمية الأولى بقصد ما ترمى إلى الوقوف على طريقة المجتمعات المختلفة التى تأثرت بالحرب فى تعاملها مع ذكرى الحرب ومعانيها المختلفة. وكل الحلقات تنطلق من هذه النقطة: الماضى ليس ثابتا مصمتا، بل يتحول ويتحور حسب تطور الحاضر ورؤاه.
من هنا كان اهتمامى بالمشاركة فى تلك الحلقة المعنية بتاريخ منطقتنا إبان الحرب العالمية الأولى.

فعلى مدى العشرين سنة الماضية وأنا أدرّس تفاصيل تلك الحرب لطلابى وأكاد أبدأ كل فصل دراسى بمحاضرة أو محاضرتين عن الحرب العالمية الأولى. على أن ما كنت أتطلع إليه هو معرفة رد فعل الجمهور العربى الذى حضر التسجيل الحى للحلقة فى الأردن لما سيقال عن مجريات الأمور أثناء الحرب وتحديدا عن التعهدات المتناقضة التى أعطتها بريطانيا لحلفائها المختلفين.

ففى عام ١٩١٥ شرع المعتمد السامى البريطانى فى مصر، سير هنرى ماكماهون، فى التفاوض مع شريف مكة، الشريف حسين، لحثه على رفع راية العصيان ضد الدولة العثمانية فى مقابل وعد صريح باعتراف بريطانيا باستقلال الأقاليم المتحدثة بالعربية فى الدولة العثمانية بعد انتهاء الحرب.

هنرى ماكماهون

 

وبعد ذلك بوقت قصير أصدرت بريطانيا وعد بلفور المشئوم الذى تعهدت فيه بمؤازرة الحركة الصهيونية فى مساعيها لإقامة وطن لليهود فى فلسطين، مع العلم أن الجميع كان يدرك أن فلسطين تقع داخل نفس الأقاليم التى تعهدت بريطانيا للشريف حسين بإعلانها دولة مستقلة تحت لوائه. ومما زاد الطين بلة أن بريطانيا كانت تتفاوض مع فرنسا، فيما عرف لاحقا باسم «اتفاقية سايكس ــ بيكو»، على نفس تلك الأقاليم، أى أقاليم الدولة العثمانية التى كانت تتحدث بالعربية.

وبالتالى فنحن أمام ثلاثة تعهدات متناقضة أصدرتها بريطانيا لحلفائها الثلاثة، العرب واليهود والفرنسيين، وقد بذلت الديبلوماسية البريطانية جهدا كبيرا فى السنوات التى أعقبت الحرب فى محاولة يائسة للتوفيق بين هذه التعهدات المتضاربة. وقد كان من أهم نتائج تلك الجهود الدبلوماسية أن نفذ البريطانيون وعودهم للفرنسيين وللصهاينة، فأعطيت سوريا ولبنان للانتداب الفرنسى، وألحقت شروط وعد بلفور بالانتداب البريطانى على فلسطين، بينما نكث البريطانيون بوعودهم للعرب الذين خرجوا خاليى الوفاض.

الصورة الأصلية لوعد بلفور

 

ومنذ نشر جورج أنطونيوس كتابه الشهير، يقظة العرب، عام ١٩٣٩ مذيلا إياه بنصوص مفاوضات حسين ــ ماكماهون وموضحا التضارب الكامن بين هذه المراسلات وبين وعد بلفور واتفاقية سايكس ــ بيكو، ومنذ ترجمة الكتاب للعربية عام ١٩٤٦، تعمقت أكثر فى الوعى الجمعى العربى فكرة مؤامرة الاستعمار على العرب وتحديدا خيانة الإنجليز ونفاقهم ونكوثهم بعهودهم التى أعطوها للعرب.

•••

من متابعتى للنقاش الذى دار فى مركز هيا الثقافى أثناء تسجيل الحلقة تكوّن لدى انطباع إيجابى أن الحضور، وخاصة الشباب منهم، لم يتوقفوا كثيرا عند نقطة المؤامرة بل تعدوها للاهتمام بجوانب أخرى من الموضوع وطرحوا تساؤلات جديدة عن هذه المرحلة المفصلية من تاريخ العرب الحديث. صحيح كان هناك من ركز على تواطؤ الإنجليز مع الصهاينة، وهناك من رأى أن المؤامرات مازالت تحاك ضد العرب، وهناك من ذهب إلى القول بأن الثورات العديدة التى اجتاحت منطقتنا منذ عام ٢٠١١ ما هى إلا مؤامرات أجنبية مقصود منها تفتيت الدول العربية إلى دويلات أصغر، ولكن الجانب الأكبر من الحضور كان مهتما بجوانب أخرى من تاريخ الثورة العربية الكبرى وكان على استعداد لطرح أفكارا ورؤى جديدة تتعدى نقطة لوم الاستعمار على ما نحن فيه وتحميله مسئولية وهدتنا الحالية. فكان هناك من أشار لدور هارى سانجين فيلبى، الذى أعقب لورانس كممثل لبريطانيا فى إمارة شرق الأردن والذى ساعد السعوديين على تأسيس دولتهم لاحقا.

تى إى لورانس

 

وهناك من تطرق لمسئلة الحدود المصطنعة وشكك ليس فى إمكانية محوها بل فى جدوى ذلك، وهناك من بنى على هذه الفكرة وقال إن ما تمثله «داعش» فى محاولاتها إقامة خلافة إسلامية تتعدى هذه الحدود المصطنعة هو تشويه للحلم العربى بالوحدة وليس تجسيدا له.

أما السبب فى وصفى لهذا الاتجاه النقدى لدى جمهور الحلقة بالـ«إيجابى» فنابع من تحفظى العميق على نظرية المؤامرة التى تهيمن على كثير من مثقفينا. سبب هذا التحفظ العميق ليس شكى فى وجود مؤامرات، بل فى قدرة «نظرية المؤامرة» على فهم تلك المؤامرات والتعامل معها.

فالمحتفون بنظرية المؤامرة يظنون أن مهمتهم تبدأ بلفت النظر لوجود مؤامرة، ثم تنتهى عند.. نفس تلك النقطة، وكأنهم بلفتهم النظر لخطورة المؤامرة ولطبيعتها السرية يعفون أنفسهم من عناء البحث والتحليل والدراسة. فالمؤامرة، تعريفا، شىء سرى، ولذلك فلن نستطيع سبر أغوارها ومعرفة تفاصيلها مهما حاولنا. كل ما يمكن رصده هو وجود دوافع ما لأطراف بعينها لكى تتصرف بشكل مريب. وإذا غُلف التحليل بستار من الغموض، وإذا كثُرت الأسئلة وقلت الأجوبة عندها يعتقد «المفكر» صاحب نظرية أنه نجح فى مهمته.

ولنأخذ اتفاقية سايكس ــ بيكو نموذجا. فكثيرا ما نقرأ أن هذه الاتفاقية هى خير مثال على المؤامرات التى يحيكها الغرب ضدنا وعلى تواطؤ القوى الأوربية علينا، وأن الاتفاقية كانت تهدف إلى تفتيت عضد الأمة العربية وتشتيت قواها، وأنها نجحت فى رسم حدود مصطنعة فصلت بين شعوب الأمة الواحدة، وأن تلك الشعوب تواقة الآن لمحو هذه الحدود والانضواء مرة أخرى تحت راية دولة واحدة (يرى البعض أنها يجب أن تكون الخلافة الإسلامية).

على أن عددا قليلا جدا ممن يؤمن بهذه النظرية كلف نفسه عناء البحث الجاد فى تفاصيلها، وباستثناء عمل بعض الأكاديميين المتخصصين لا نرى أثرا لأى مجهود بحثى يحاول إماطة اللثام عن هذه الاتفاقية التى صُدق عليها فى يونيو من عام ١٩١٦. فالعدد الهائل من الكتب العربية عن هذه الاتفاقية المشئومة تخلو قائمة مراجعه من الكتاب الوحيد الذى ألفه سير مارك سايكس (أحد طرفى الاتفاقية) والذى نشره عام ١٩١٥ بعنوان «التركة الأخيرة للخليفة» (The Caliph’s Last Legacy)، كما لم يتطرق أحد ممن كتبوا عن هذه الاتفاقية لكيفية وصول هذا الرجل الإنجليزى الذى كان يجهل كلا من العربية والتركية والذى انحصرت معرفته بالمنطقة فى سياحته فيها مع والديه الأرستقراطيين ــ كيفية وصوله لمنصب مستشار كيتشنر لشئون الشرق الأوسط.

وبالمثل، لا نعلم من الأدبيات العربية الكثير عن فرنسوا جورج ــ بيكو، الفرنسى الذى تفاوض مع سايكس لتقسيم المنطقة لمناطق نفوذ لبلديهما، بالرغم من أنه كان حتى عام ١٩١٥ يشغل منصب قنصل فرنسا فى بيروت وأن سياساته هناك تركت أثرا كارثيا على العرب القوميين فى الشام.

 

فرنسوا جورج بيكو

 

ولكن، وهو الأهم، لا يعرف الكثيرون أن هذه الاتفاقية لم ترسم حدودا (فالحدود الحالية رسمت فى مؤتمر سان ريمو عام ١٩٢٠ ثم عن طريق وثائق الانتداب التى أقرتها عصبة الأمم عام ١٩٢٢)، وإنما وضعت تصورا عاما لكيفية تقسيم المنطقة بعد انتهاء الحرب، وأن الإنجليز كانوا ينتوون التخلص منها فى أقرب فرصة (الأمر الذى انعكس فى تفصيلة صغيرة: توقيع سايكس على الخريطة المرفقة بالاتفاقية كان بالقلم الرصاص بينما توقيع جورج ــ بيكو كان بالحبر)، وأنهم رأوا فيها وسيلة لإرضاء فرنسا التى شهدت أراضيها أدمى معارك الحرب، أكثر من كونها تعبر عن نية مبيتة لحرمان العرب من نيل استقلالهم. وبالمثل لا ينتبه الكثيرون ممن يعتنق «نظرية المؤامرة» منهاجا للبحث إلى حقيقة أن السير مارك سايكس لم يكن على دراية بالمفاوضات التى كان السير هنرى ماكماهون يجريها مع الشريف حسين، وأنه فوجأ بتصريح وزير الخارجية آرثر بلفور فى نوفمبر ١٩١٧، وأن علاقاته بلورانس كانت عدائية. واختصارا، لا يتطرق معتنقو نظرية المؤامرة لنقطة بسيطة وهى أن الإمبراطورية البريطانية لم تكن شيئا بسيطا، وأن طرق اتخاذ القرار فيها كانت متضاربة، ومعقدة، وملتبسة ليس بغرض إخفاء نوايا الساسة هناك عنا وبالتالى حبك المؤامرة، بل لأن صناع القرار كثيرا ما كانوا يجهلون ما يفعله زملاؤهم (أو منافسوهم) بل كانوا فى بعض الأحيان يناصبونهم العداء. فسياسة بريطانيا تجاه منطقتنا كان يشكلها خليط من الرجال (وبعض النساء، أشهرهن جيرترود بِل) فى لندن ودلهى والقاهرة والبصرة والمدينة وعمان ودمشق وبغداد، وأن هولاء الساسة والخبراء والمستشارون لم يكونوا دوما متناغمين مع بعضهم البعض أو حتى على دراية بما يفعله كل منهم.

مارك سايكس

 

•••

فى حلقة البى بى سى التى سجلناها عن الحرب العالمية الأولى وإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط استطعنا، إلى حد ما، أن نثير بعضا من هذه الأسئلة وأن نقيّم المعانى المختلفة لتلك الحرب وما صاحبها من أعمال سواء فى المنطقة (الثورة العربية الكبرى) أو فى أوربا (التحركات الدبلوماسية المختلفة). ولم يكن المقصود من الحلقة نفى وجود مؤامرة أو تواطؤ، فتلك حقيقة تاريخية لا يمكن التشكيك فيها، وإنما كان الغرض طرح أسئلة جديدة عن الحرب وعن أثرها على المنطقة.
فإضافة إلى القول بأن إتفاقية سايكس ــ بيكو ساهمت فى رسم خريطة المنطقة بعد انتهاء الحرب، طُرحت فكرة مهمة مؤداها أن ما يصبو إليه العرب الآن وما عبرت عنه الثورات الأخيرة ليس محو هذه الحدود المصطنعة بقدر ما هو إعادة رسم السياسة داخل هذه الحدود بحيث تخدم هذه الدول مواطنيها لا تُكرس لمجد حكامها.

آرثر بلفور

 

كما جرى التشكيك فى المقولة الشهيرة التى تذهب إلى أن وعد بلفور كان تعبيرا عن رغبة بريطانيا فى خدمة المشروع الصهيونى، وعوضا عن ذلك طرحت فكرة أن هذه الوعد كان تعبيرا عن حاجة بريطانيا الماسة، فى خضم الحرب العالمية الأولى، لتأمين قناة السويس، شريان المواصلات الإمبراطورية، وتخيل بعض الساسة البريطانيين فى وزارة الخارجية أن استجلاب بعض اليهود من خارج المنطقة وتوطينهم على تخوم سيناء سيساعدهم فى تأمين الجانب الشرقى من القناة.
وفى مقابل الفكرة الشائعة التى تقول إن العرب غُدر بهم، وإن القوى الأوربية تآمرت عليهم، ذهب بعض المتحدثين إلى أن ما حققه الهاشميون لم يكن شيئا هينا. صحيح أن الشريف حسين لم يُتوج ملكا على مملكة عربية واحدة كما كان يحلم، لكن ثلاثة من أبنائه انتهى بهم الحال على عروش ثلاث مملكات، زالت منها اثنتان وبقيت الثالثة.

الشريف حسين

•••

بعد الانتهاء من تسجيل الحلقة سعدت بالامتنان لأن أتيحت لى فرصة الاشتراك فى هذه المناقشة الدسمة التى أدارتها البى بى سى وللاستماع إلى رأى الجمهور الأردنى، وخاصة الشباب، الذى عبر الكثير منهم عن قدرته على طرح أسئلة جديدة، وعلى التحلى بحس نقدى عند التعامل مع أحداث الماضى، وعلى التعامل مع التاريخ ليس كشىء مصمت بل كواقع حى. وأتطلع إلى اليوم الذى أتمكن فيه من الاستماع إلى مناقشات على نفس مستوى الجدية تديرها الإذاعة المصرية أو ينتجها التليفزيون المصرى.

 

 



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك