أحلام فترة النقاهة فى تقديرى هى واحدة من أهم النصوص فى الأدب العربى المعاصر، لأنها بقدر ما تبدو نصوصا تخييلية على تخوم الأساطير والحكمة والعجائبية، فإنها تبصر الواقع وتراه بشكل يكشف مدى قوة البصيرة التى يمتلكها نجيب محفوظ. ففى هذه النصوص المكثفة المتوازنة بدقة بين مضمونها ودلالاتها، يبدو أنه يتغول فى غابات خياله بعيدا إلى ذكريات الطفولة والصبا فيما هو يغزل لنا ممرا سرديا بديعا بين رؤاه وبين حيواتنا نحن، لكى نرى بها واقعنا.
انظر مثلا ما يقوله عم نجيب فى واحدة من أحلامه:
«الشارع الجانبى لا يخلو من مارة وأناس فى الشرفات، والسيدة تسير على مهل، وتقف أحيانا أمام معارض الأزياء. يتعرض لها أربعة شبان دون العشرين، تتجهم فى وجوههم وتبتعد عن طريقهم، ينقضون عليها ويعبثون بها، تقاوم والناس تتفرج دون أى مبادرة. الشبان يمزقون ثوبها ويعرون أجزاء من جسدها. السيدة تصوت مستغيثة. راقبت ما حدث، فتوقفت عن السير، وملكنى الارتياع والاشمئزاز، وودت أن أفعل شيئا أو أن يفعله غيرى، ولكن لم يحدث شىء. وبعد أن تمت المأساة وفر الجناة، جاءت الشرطة، وتغير المكان، فوجدت نفسى مع آخرين أمام مكتب الضابط، واتفقت أقوالنا. ولما سئلنا عما فعلناه كان الجواب بالسلب، وشعرت بخجل وقهر، وكانت يدى ترتجف وهى توقع بالإمضاء على المحضر».
كأنه شهد معنا الوقائع المخزية التى صحبت الثورة وربما قبلها وصولا لما يحدث اليوم من وقائع تحرش مخزية بالمرأة المصرية تعبر عن حال من البؤس النفسى والانحطاط (لا يوجد وصف آخر لفعل التحرش بالمناسبة)، الذى بلغه قطاع لا يستهان به ممن يطلق عليهم رجال أو شباب فى مصر. كأن محفوظ يعرف أن سلبية الشعب المصرى أمام مسئولياته تجاه نفسه وشرفه وحقه لا يمكن إلا أن تسفر عن وقائع انتهاك كهذه.
وصحيح أنه تم الاحتفاء بالأحلام عبر نشرها مسلسلة مطولا فى نصف الدنيا والكتابة الاحتفائية عنها بعد نشرها فى كتب، لكنى لا أظن أن هناك دراسة نقدية موضوعية خاضت فيها بشكل عميق يتناسب مع أهميتها. وأظن أن دراسات من هذا النوع ستكون قادرة على كشف الكثير من حيث المضمون والدلالات الرمزية من جهة، ومن حيث الأسلوب أيضا خصوصا وأننى فهمت أن عم صبرى الذى كان الأستاذ نجيب يقوم بإملائه هذه النصوص بعد أن فقد القدرة على الكتابة يقول إن محفوظ كان يحفظها ثم يمليها عليه.
بالتالى فإن قرار الشروق نشر مجموعة الأحلام الجديدة، خبر جيد، لأنه بالإضافة لأنه سيضم نصوصا جديدة من المهم أن يطلع القارئ المصرى والعربى عليها خصوصا أن الأستاذ نجيب كان قد أعدها للنشر، فإنه قد يكون فرصة جيدة لاهتمام النقاد بدراسة هذه النصوص بشكل فيه من الجدية ما يتناسب مع جدتها وإضافتها لمسيرة السرد العربى المعاصر.
الصديق سيد محمود رئيس تحرير صحيفة القاهرة قال لى مرة ونحن نتحدث عن سيدة الغناء العربى أم كلثوم إنها لا تنتهى، وأنا بدورى أقول إن نجيب محفوظ لا ينتهى، ليس لأن أعماله لم تقر أجيدا رغم كل هذا الصخب والضجيج، بل لأن جيلا جديدا واعدا سوف يقرأها بروح مختلفة ويضيف لنا دلالات جديدة لم ننتبه لها، كما أن مثل هذه النصوص الجديدة التى اكتشفت بعد ما يناهز عشرة أعوام على رحيله تأكيد آخر لأنه لا ينتهى، طابت روحه أينما كان.