قراءة في كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل: تفاصيل اجتماع السادات وكيسنجر الذي قلب موازين الشرق الأوسط (13) - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 1:32 ص القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قراءة في كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل: تفاصيل اجتماع السادات وكيسنجر الذي قلب موازين الشرق الأوسط (13)

الرئيس السادات مع كيسنجر يوم 7 نوفمبر 1973
الرئيس السادات مع كيسنجر يوم 7 نوفمبر 1973
عرض ــ خالد أبوبكر
نشر في: الإثنين 3 نوفمبر 2014 - 9:26 ص | آخر تحديث: الإثنين 3 نوفمبر 2014 - 9:55 ص

جولدا مائير وضعت 6 نقاط لفض الاشتباك عرضها وزير الخارجية الأمريكى على الســـادات فوافق عليها

كيسنجر: السادات طلب من أمريكا تعهدات بحماية نظامه و شخصه فى فترة يتوقعها حافلة بالقلاقل

كيسنجر يتساءل عن اندفاع السادات نحو أمريكا: ما الأسباب التى كانت تدعوه إلى ذلك كله؟

الاستقبال الحار فى مصر أدهش كيسنجر باعتباره مَنْ مدَّ إسرائيل بالسلاح

تدخل بنا هذه الحلقة ـ قبل الأخيرة ـ من القراءة التى تقدمها «الشروق» لكتاب «أكتوبر 73.. السلاح والسياسة» للكاتب الصحفى الكبير، محمد حسنين هيكل، إلى المرحلة التى ملكت فيها «السياسة» زمام الحرب بالكامل،بعد زيارة وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية، هنرى كيسنجر للقاهرة بداية من يوم 6 نوفمبر سنة 1973، و بعد أن أدى «السلاح» دوره بأقصى ما يمكن تقديمه من تضحيات.

وإذا كان «السلاح» فى إدارته للمعركة ظل «محافظا على الغرض النهائى منها» على صعيد تحرير الأرض والحفاظ على استقلال القرار الوطنى، فإن «السياسة» فى هذه المرحلة قد تاه منها ذلك «الغرض» وانحرفت عنه نحو أغراض أخرى، لم تكن لها علاقة بما سالت من أجله دماء الرجال فى ميادين القتال.

يقول الكاتب الكبير فى الجزء الأخير من الكتاب الصادر عن دار «الشروق» إن هنرى كيسنجر «راح يستعد لرحلته الموعودة إلى الشرق الأوسط وهو يشعر بسعادة غامرة لم يكن قادرا على إخفائها عمن حوله، ولا حاول حجبها فى كل ما كتبه من وثائق فى هذه الفترة.

وبدأ يقرأ عددا من التقارير تصور أن يتعرف من خلالها على المنطقة. والملاحظ طبقا لروايته أن تقريرين بالذات لفتا نظره واستحوذا على اهتمامه وطلب وضعهما فى ملفاته التى حملها معه إلى الشرق الأوسط.

كان التقرير الأول بعنوان «الشيخ والخيمة»، تحدث فيه عن عملية صنع القرار التقليدية فى العالم العربى، وكيف أنها فى العادة فى يد شيخ القبيلة، سواء كان هذا الشيخ يضع فوق رأسه «عقالا» أو «قبعة» عسكرية؛ (...) وكانت العبرة التى استخلصها كيسنجر من هذا التقرير أن القرار العربى فى يد رجل واحد لا يلتزم بشىء إلا بما يهز به رأسه فى النهاية، وإذن فعليه أن يركز على «الشيخ» الجالس فى وسط الخيمة، ولا يضيع وقتا مع غيره.

وكان التقرير الثانى يحمل عنوان «السوق»، وتعرض لأسلوب التفاوض العربى، وكيف أنه فى معظم الأحيان مزايدات ومناقصات غير مترابطة وغير متسقة تبدأ فى المطالبة بالمستحيل المستمد من عوالم الأمانى والأوهام، ثم تروح «تفاصل وتساوم» بنفس أسلوب الصباح، ثم تصل فى خاتمة المطاف إلى البيع بنصف الثمن الذى بدأت به، وأحيانا بربعه.

وأضاف كيسنجر إلى هذين التقريرين عبارة التقطها من مقال لمحمد حسنين هيكل جاء فيها «أن الفارق بين الفكر الاستراتيجى الإسرائيلى والفكر الاستراتيجى العربى هو أن الإسرائيليين يلعبون الشطرنج، فى حين أن العرب يلعبون الطاولة».. وقد أعجبه التعبير طبقا لروايته.

استعداد مقابل

فى الوقت الذى كان فيه كيسنجر يعد للقائه المنتظر مع الرئيس السادات فإن الأخير كان بدوره يحاول أن يعد نفسه للقائه مع كيسنجر، ويوم 4 نوفمبر مساء دعا الرئيس السادات «محمد حسنين هيكل» إلى لقائه، وكان موضوع المناقشة المتفق عليه من قبل هو الإعداد لزيارة كيسنجر، وكان لدى الرئيس شاغلان بالتحديد: «من الذى يجلس معه على المائدة للتفاوض مع كيسنجر؟»، و«ما هو الأسلوب الأمثل للتفاوض معه؟».

كان الرد بالنسبة للتساؤل هو أنه «على أية حال لا ينبغى أن يكون الرئيس السادات بشخصه هو المفاوض الرئيسى مع وزير الخارجية الأمريكية». ودهش السادات من هذا الرأى، وأبدى شكا فى صوابه. وكان التفسير الذى قدم له هو: «إن كيسنجر يعرف مسبقا أن لديك سلطات واسعة. وسوف يركز قصارى جهده على الضغط عليك لتقديم تنازلات دون أن تملك فرصة للرد عليه بطلب فسحة للتفكير فيما يعرضه، أو بالرجوع فيه إلى سلطة أعلى كما يمكن أن يحدث مع أى مفاوض آخر». ولم يقتنع السادات بهذا المنطق، وكان رده عليه بعد مناقشة طويلة هو إصراره على أن يقوم هو بنفسه بالتفاوض مع كيسنجر.

وفيما يتعلق بالأسلوب الأمثل للتفاوض مع كيسنجر، فإن «محمد حسنين هيكل» قدم للسادات تقريرا كتبه الدكتور أسامة الباز تحت عنوان «كيف يفكر كيسنجر ويتحرك دبلوماسيا» (منشور بالكتاب)، ووجده هيكل من أفضل التقارير عن هذا الموضوع ومر الرئيس السادات بعينيه على سطور هذا التقرير، ولم يعلق عليه. وأحس هيكل أن السادات قرر لنفسه أسلوبا فى التفاوض مع كيسنجر بنفسه، ثم إنه لا يريد أن يناقشه مع أحد.

الساحر والسحر

وصل كيسنجر أخيرا إلى القاهرة. وكان وصوله إليها عند منتصف ليل يوم 6 نوفمبر، وأحس بحرارة الاستقبال من اللحظة الأولى، واستطاع تحفيظ نفسه جملة باللغة العربية قالها لممثلى الإعلام المصرى فور نزوله «اللى فات مات» وقصد بذلك التعبير عن رغبته فى بداية صفحة جديدة.

ويواصل «الأستاذ» بأن كيسنجر توجه ومعه إسماعيل فهمى، وزير الخارجية إلى فندق هيلتون فى القاهرة، ونزل فى الجناح الرئاسى الأيسر فى الدور الثانى عشر، وفى العاشرة من صباح اليوم التالى وصل قصر الطاهرة، وكان القصر شعلة من النشاط، ولقى كيسنجر استقبالا حارا من الجميع اعترف بأنه أدهشه «باعتباره الرجل الذى أعطى لإسرائيل كل السلاح الذى طلبته لتغيير الموازين لصالحها فى معركة ضد الجيش المصرى لم تتوقف آثارها حتى هذه الساعة».

ودخل مع ثلاثة من كبار مستقبليه وهم: حافظ إسماعيل وإسماعيل فهمى، وأشرف غربال، المشرف على مكتب شئون المصالح المصرية فى واشنطن إلى الصالون الرئيسى فى القصر.

وما كادوا يجلسون حتى دخل السادات مرتديا زيه العسكرى، وأقبل على كيسنجر مرحبا بحرارة شديدة، ومرة أخرى أبدى كيسنجر دهشته من «هذه الحرارة التى جاءت بعد أسبوعين اثنين من حرب قمنا فيها بتسليح جيش معادٍ لمصر».

وبدأ الجزء الرسمى من الاجتماع، فتوجه السادات ومعه ضيفه من الصالون إلى غرفة اجتماعات، وجلس السادات فى ناحية منها ومن حوله حافظ إسماعيل وإسماعيل فهمى وأشرف غربال واللواء محمد عبدالغنى الجمسى (باعتبار مسئوليته عن محادثات الكيلو 101)، وجلس فى المقابل كيسنجر ومن حوله جوزيف سيسكو وألفريد آثرتون وهارولد سوندرز، ودُعى المصورون لالتقاط صور الاجتماع بينما راح الطرفان يتبادلان بعض عبارات المجاملة لكى تظهر صورهما أثناء ما يبدو أنه حديث ناطق وحى، ثم طلب من المصورين مغادرة القاعة.

وبعد دقائق التفت السادات لأعضاء الوفدين، وقال لهم إنه سيأخذ الدكتور كيسنجر إلى اجتماع مغلق بينهما. وحدث، واستمر اجتماعهما معا ثلاث ساعات، وفى ربع الساعة الأخير منه انفتح باب الصالون الذى كانا فيه وحدهما، ودعى جوزيف سيسكو إلى المجىء ومعه حقيبة أوراقه، وفتح سيسكو الحقيبة بطلب من كيسنجر وأخرج منها ملفا صغيرا يضم مجموعة نسخ من مشروع فى صفحة واحدة، وكانت هى نقط ما عرف فيما بعد بـ«النقاط الست» لفك الارتباط. وألقى كيسنجر نظرة على الورقة. ثم ناولها للرئيس السادات الذى قرأها بدوره فى أقل من دقيقة، ثم هز رأسه إيجابا.

ثم دعى أعضاء الوفدين بهيئتهما الكاملة التى كانا عليها عندما جرى عقد الجلسة الافتتاحية وتصويرها. والتأم الشمل على جانبى مائدة الاجتماع، وقال كيسنجر للجميع إنه «ناقش مع الرئيس السادات مشروعا لفك الارتباط من ست نقاط، وأن الرئيس السادات وافق عليه، وأن مساعده جوزيف سيسكو سوف يذهب إلى جولدا مائير لعرضه عليها والحصول على موافقتها». ثم راح يتلو النقاط الست، وكانت نصوصها على النحو التالى:

1ــ توافق مصر وإسرائيل على الاحترام الدقيق لوقف إطلاق النار الذى أمر به مجلس الأمن.

2ــ يوافق الطرفان على مناقشة موضوع العودة إلى مواقع 22 أكتوبر فى إطار الموافقة على الفصل بين القوات المتحاربة، وذلك تحت إشراف الأمم المتحدة.

3ــ تتلقى مدينة السويس يوميا إمدادات من الغذاء والماء والدواء، وجميع الجرحى المدنيين فى مدينة السويس يتم ترحيلهم.

4ــ يجب ألا تكون هناك أى عقبات أمام وصول الإمدادات غير العسكرية للضفة الشرقية.

5ــ نقط المراقبة الإسرائيلية على طريق القاهرة السويس يستبدل بها نقط مراقبة من الأمم المتحدة. وفى نهاية طريق السويس يمكن لضباط إسرائيليين الاشتراك مع الأمم المتحدة فى الإشراف على أن الإمدادات التى تصل القتال تكون ذات طبيعة غير عسكرية.

6ــ بمجرد تولى الأمم المتحدة نقاط المراقبة على طريق القاهرة السويس يتم تبادل جميع الأسرى بمن فيهم الجرحى.

ويعلق الكاتب الكبير على هذه النقاط قائلا: «كان أسوأ ما فى هذه النقاط الست أنها تجمد الخطوط العسكرية عند اللحظة الراهنة، وتفتح الباب للمناقشة فى فصل القوات فى ظل هذه الظروف الضاغطة ثم إنها تعطى لإسرائيل كل ما تريده من فك التعبئة العامة إلى استعادة أسراها مضافا إلى ذلك ما لحق بالاتفاقية من تعهدات سرية وأهمها تخفيف ورفع إجراءات الحصار على باب المندب».

وفى موضع لاحق من هذا الكتاب أشار «الأستاذ» إلى أن «كيسنجر كتب فى مذكراته فيما بعد أن سيسكو أبلغه (بعد أن وصل إسرائيل) أن جولدا مائير لديها تحفظات على النقاط الست، وصرخ فيه كيسنجر عندما سمع ذلك وقال له: «ما الذى تريده الآن؟.. ألم تكن هى التى وضعت هذه النقاط الست»؟ ثم هدأ وقال لـ«سيسكو» بضيق: «غريبة»، إن إسرائيل كما هو ظاهر الآن فوجئت بقبول مصر لمقترحاتها، ومن ثم تريد أن تعيد التفاوض فيما سبق لها أن اقترحته بنفسها».

وبالعودة لاجتماع السادات وكيسنجر يقول الكاتب الكبير إن الروايات اختلفت، وستظل مختلفة إلى زمان طويل، فى حقيقة ما دار فى هذا الاجتماع الذى استغرق قرابة ثلاث ساعات بين الرجلين على انفراد عند هذه النقطة التى تحولت إلى منحنى على الطريق فى السياسة المصرية، فالاجتماع بين الاثنين كان مقتصرا عليهما، ولم يحضره طرف ثالث، ولا كان هناك تسجيل له بأية وسيلة. وروى كل من السادات وكيسنجر كثيرا من التفاصيل فى عديد من المناسبات عما دار فى هذا الاجتماع. كما أن كيسنجر سجل بعض النقاط الرئيسية فيه وأودعها فى ملف مجلس الأمن القومى، وعرض بعض ملامحها عندما كتب مذكراته. وهكذا فإن العثور على صورة شبه كاملة لا يمكن أن يتأتى إلا بمحاولة استعراض ومقارنة التفاصيل فيما كتبه أو رواه كل من السادات وكيسنجر.

وعرض «الأستاذ» لما كتبه السادات فى مذكراته (البحث عن الذات) بشأن مقابلته لكيسنجر، والتى لم تزد على صفحة واحدة (197 كلمة بالضبط)، وأضاف على ذلك حديثا تليفونيا مع «محمد حسنين هيكل» عقب انتهاء الاجتماع مع كيسنجر، كان السادات فيه أكثر استفاضة فى التفاصيل، وبعد المقدمة الافتتاحية للحديث التليفونى راح يدخل فى التفاصيل، فقال: «إنه دعا كيسنجر إلى اجتماع مغلق اقتصر عليهما وحدهما، وإن كيسنجر حاول أن يبدأ الحديث بموضوع العودة إلى خطوط 22 أكتوبر، وهنا قلت له (أى لكيسنجر) هنرى: لا تضيع وقتك الآن فى هذه التفاصيل، لقد توقعت منك ما هو أهم وأكبر من ذلك، أنت رجل استراتيجى وأنا استراتيجى مثلك، فدعنا لا نقف عند هذه الجزئيات، وكان هو ينظر إلى مبهورا، وطرحت عليه رؤية استراتيجية كاملة لمستقبل المنطقة، وقلت له إن المستقبل ليس فى خطوط 22 أكتوبر، ولكن المستقبل معلق بسؤال واحد: هل نستطيع أن نكون أصدقاء أو لا نستطيع؟.. إذا كنا نستطيع أن نصبح أصدقاء، وإذا أصبحت مصر صديقة لكم، فإن المنطقة كلها تصبح مفتوحة أمامكم، وأنا لا أريد أن يتكرر خطأكم الذى وقعتم فيه عندما لم تفهموا مبادرتى بطرد الخبراء السوفييت فى يوليو العام الماضى؛ فطرد الخبراء السوفييت كان رسالة موجهة لكم معناها أننى صديق، وأنتم تصورتموها مناورة، وأنا رجل لا أناور».

وقال له كيسنجر «عندى رجاء يا سيادة الرئيس، قبل أن ندخل فى أى تفاصيل فأنا أريدك أولا وقبل كل شىء أن تحكى لى كيف تمكنت من أن تضحك علىّ وتضحك على مخابراتنا وتضحك على إسرائيل وعلى مخابرات إسرائيل، وفى الواقع على العالم كله؟ كيف استطعت أن تفاجئنا بحرب لم نتوقعها؟ وكيف استطعت أن ترتب لهذه الحرب فى غفلة منا جميعا؟ هذه أول مرة فى تجربتى السياسية يستطيع أحد أن يفاجئنى بهذه الطريقة وإلى هذه الدرجة» وقضيت ساعة كاملة أحاول أن أشرح له خطتى منذ البداية، وكان يجب أن تراه وهو فاتح فمه من الذهول دون أن يقاطعنى مرة واحدة، لم يكن قادرا على تصديق ما فعلناه، وكان تعليقه فى النهاية أن ما فعلناه قمة». وقاطع السادات روايته بنفسه معلقا «ومع ذلك، فبعض «الحيوانات» من عندنا لم يفهموا بعد قيمة ما فعلناه»!

وعاد السادات إلى رواية تفاصيل مقابلته مع كيسنجر فقال: «الحقيقة أن هنرى طرح على بعد ذلك فكرته على فك الاشتباك، وقال لى إن الجهد الذى سوف تبذله أمريكا فى إرغام إسرائيل على العودة إلى خطوط 22 أكتوبر هو نفسه الجهد الذى سوف تبذله فى الضغط على إسرائيل لسحب كل قواتها من الغرب (غرب قناة السويس) لتحقيق فض الاشتباك، وإذا قاموا بهذا الجهد كله فى سبيل هدف محدود وهو العودة إلى خطوط 22 أكتوبر، فمعنى ذلك أنهم سوف يستهلكون جزءا كبيرا من قدرتهم على الضغط، والهدف محدود فلماذا لا يكون خيالنا أوسع ونستعمل هذا الضغط فيما هو أكبر؟ ووافقته على هذا الرأى».

وحاول هيكل أن يبدى رأيا مفاده أن «الانتقال مباشرة إلى فك الاشتباك تحت تأثير إحساس الرئيس بالضغط الواقع على الجيش الثالث يجعل مشكلة آنية تفرض ظلها على مساحة من الأزمة أكبر منها، وبالتالى فربما كان من الأفضل التركيز على خطوط 22 أكتوبر والتفاوض مع كيسنجر بعد ذلك لما هو أبعد.

وقاطعه السادات قائلا: «مرة ثانية أنت لاتزال تتكلم على قديمه، لأن دخول كيسنجر فى الأزمة بنفسه بداية مختلفة عن كل ما سبقها، كان يجب أن تراه وهو يتصرف، واسأل إسماعيل فهمى أو غيره ممن شاهدوا الطريقة التى أعطى بها النقاط الست لسيسكو لكى يذهب ويعرضها على جولدا مائير، كان يأمر وينهى كما يشاء، وقد سمعته.. سمعناه جميعا يقول لسيسكو «قل لجولدا إن هذه النقاط وافق عليها الرئيس نيكسون ولا يمكن لها أن تغير فيها حرفا...».

اسماعيل فهمى

رواية كيسنجر

وحول رواية كيسنجر عن اجتماعه المغلق مع السادات قال الكاتب الكبير إن كيسنجر فى مذكراته وصف هذا الاجتماع على النحو التالى: «(بعد الاجتماع المفتوح بين الوفدين، وقد استغرق دقائق) دعانى السادات وحدى إلى غرفة كبيرة فى قصر الطاهرة كان يستخدمها كمكتب خاص له، وفور أن دخلنا وحدنا فى الغرفة الكبيرة راح السادات يحشو غليونه بالتبغ ويشعله. ثم وجه حديثه إلىّ قائلا «كنت من زمن طويل أتشوق لهذه الزيارة.. إن لدى خطة سأحدثك عنها ونستطيع أن نسميها «خطة كيسنجر». ثم دعانى إلى جانب من الغرفة وضعت فيه بعض الخرائط وقد رسم عليها خط فك الارتباط كما يتصوره. وكان الخط يمتد فى سيناء من العريش شمالا إلى رأس محمد جنوبا، استغربت هذا الخط لأن الرئيس كان لابد أن يعرف أن انسحاب إسرائيل لهذا الخط مهمة مستحيلة. لقد كان يعرف صعوبة أن نقنع إسرائيل بالتراجع بضعة كيلومترات إلى خطوط 22 أكتوبر على الضفة الغربية من قناة السويس.

وإذا كان الأمر كذلك، فكيف يخطر بخياله إذن أن إسرائيل يمكن أن تتراجع فى الشرق إلى هذا المدى البعيد، فتترك قناة السويس ومنطقة الممرات ومعظم سيناء لتنسحب إلى قرب خط الحدود المصرية؟ وقد سألته «وما الذى ستحصل عليه إسرائيل فى مقابل هذا الخط؟» وكان رده عائما بما أقنعنى أنه كان يختبر نواياى، وبعد سؤالى له، راح يسحب أنفاسا متصلة من غليونه، ثم سألنى ما هو رأيى؟

ولم أكن أريد أن أبدأ معه برفض مقترحاته حتى مع اعتقادى بأنها غير عملية. وهكذا رأيت أن أغير الموضوع. وقلت له «قبل أن نتحدث فيما هو أمامنا الآن، فإننى أريد أن تروى لى كيف استطعت تحقيق مفاجأة السادس من أكتوبر؟

وكان سؤالى هذا نقطة التحول فى حديثنا. وقد ضاقت عيناه وهو يستعيد ذكرياته. وراح ينفث دخان غليونه. ثم ابتسم مدركا أننى أقدم له إطراء يعطيه قيمته وينقل إليه الإحساس بأنه لا يتفاوض من موقع ضعف، وإنما هو مفاوض كسب موقعه من مركز قوة وشرف واحترام للنفس.

وكانت روايته فى البداية بطيئة، ثم راحت التفاصيل تتسارع وتتدفق وهو يروى لى حكاية صناعته منفردا لقراره، فقال إنه توصل بعد فشل مبادرة روجرز إلى أنه لا يستطيع التفاوض مع إسرائيل بينما هى شاعرة بالتفوق العسكرى، ثم أسهب فى وصف خيبة أمله فى الاتحاد السوفييتى، ثم تطرق إلى ارتهان السوفييت للوفاق مع الولايات المتحدة. ثم روى لى كيف كان يريد أن يبدأ هجومه على إسرائيل فى نوفمبر 1972، لكن قادته العسكريين لم يكونوا على استعداد، واضطر أن يفصل وزير حربيته. ومضى فى التنسيق مع سوريا بجد حتى يكون قادرا على الهجوم إما فى ربيع أو خريف 1973. ثم فاجأ العالم».

ويمضى كيسنجر فيقول: «قاطعته بسؤال «لماذا لم تنتظر مبادرتى الدبلوماسية لحل الأزمة وقد وعدت بها» (يقصد وعده للدكتور الزيات)؟ ورد السادات «لكى أعلم إسرائيل درسا بأن الأمن لا يتحقق بالسيطرة». ثم قال لى السادات إن لديه بذلك «هدفين لا ثالث لهما: أن أستعيد أرضى وأن أصنع السلام». وقد روى لى كيف روض نفسه على الصبر لكى يحقق هدفه، وأنه تعلم الصبر فى السجن الذى وضعه فيه البريطانيون».

غلاف كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» للكاتب الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل

ثم علق كيسنجر قائلا: «لم أكن متأكدا وأنا أسمعه يتحدث عن الصبر بأن لديه رصيدا منه يكفيه لكى يجتاز مرحلة مفاوضات طويلة تصل به إلى حدود 1967 فى سيناء. وإلى سلام مع إسرائيل. ولهذا فقد تركت حديث الصبر إلى المشاكل التى تواجهنا فعلا. ورحت لمدة نصف ساعة أحدثه فى تصوراتى النظرية لحل المشكلة، وقد فهمنى تماما عندما قلت له إن السلام فى الشرق الأوسط لا يمكن أن يتحقق بهزيمة حلفاء الولايات المتحدة وأصدقائها (يقصد إسرائيل) بسلاح سوفييتى يقاتل به العرب. وفيما عدا ذلك فأنا لا أرى خلافا بيننا. وحاولت أن ألح عليه بأن العقبات الحقيقية التى تحول دون السلام مع إسرائيل هى عقبات نفسية أكثر منها عقبات سياسية. وقلت له إنه إذا استطاعت مصر بنفوذها أن تفتح الطريق إلى تسوية على مراحل، فإن ذلك قد يقود إلى شرق أوسط مختلف. وكان السادات يسمعنى باهتمام وهو لا يزال ينفث دخان غليونه. وقاطعنى بعد فترة قائلا «ولكن ماذا عن جيشى الثالث؟ وماذا عن خط 22 أكتوبر؟» وقد رددت بحزم قائلا له: أمامك خياران:

ــ إما أن تعتمد على المساعدات وعلى بيانات الأوروبيين وتصر على العودة إلى خطوط 22 أكتوبر، وتجرب ما يمكن لذلك أن يحققه ومن وجهة نظرى فإن ذلك سيكون رهانا لا فرصة له.

ــ وإما أن تقبل مشروعنا لفك الارتباط وتنسحب إسرائيل بضعة كيلومترات غرب قناة السويس ضمن اتفاق لفك الارتباط، ثم يتكرر الانسحاب فى مراحل متوالية مع بناء إجراءات السلام وضمانات الثقة بينك وبين إسرائيل».

وراح كيسنجر يصف نوايا الرئيس «السادات» كما أعرب له عنها، فقال «إن الجيش الثالث هو لب المشكلة فى واقع الأمر، فأنا أريد أن أفرغ من مشكلته لأتحول إلى مهام أكبر. فأنا مصمم على إنهاء ميراث عبدالناصر، وأريد أن أعيد العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية وبأسرع ما يكون. وعندما يتم ذلك تكون حركتنا متجهة إلى بناء صداقة وثيقة بين البلدين على أساس جديد...» ثم روى كيسنجر أنه بعد ذلك صفق السادات بيده فدخل أحد المرافقين المصريين، فطلب منه الرئيس دعوة سيسكو.

ويضيف «الأستاذ هيكل» تكملة إضافية لرواية كيسنجر حول اجتماعه مع السادات فى حديث خاص له مع الصحفى الأمريكى الشهير «جوزيف كرافت» قال فيها «إن السادات قال لكيسنجر إنه وصل إلى آخر الشوط مع العرب ومع السوفييت. وإنه يريد أن يقوم بتغييرات أساسية فى توجهات السياسة المصرية. وبالتالى فقد عرض عليه:

ــ علاقة استراتيجية جديدة مع الولايات المتحدة تكفل تنسيقا مصريا أمريكيا كاملا فى الشرق الأوسط وفى أفريقيا.

ــ إنه خلال الحركة من أجل تنفيذ هذا الاتفاق الاستراتيجى، فإن السادات يريد من الولايات المتحدة تعهدات بحماية نظامه وحماية شخصه فى فترة يتوقعها حافلة بالقلاقل والمشاكل.

وكانت الملاحظة الأهم من ملاحظات كيسنجر طبقا لرواية «جوزيف كرافت» هى «أن كيسنجر كان «محتارا» فى الأسباب التى كانت تدعو الرئيس السادات إلى ذلك كله».

اقرأ أيضًا:

قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل : روايتى عن حرب أكتوبر تدور أساسا حول السادات - (1)

قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل:مأزق السادات بعد رحيل عبدالناصر - (2)

قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل: معركة السادات مع «مراكز القوى» والرهان على واشنطن للوصول للحل السلمى - (3)

قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل: مصر عاشت نوعا من الانفصام بين السياسة والسلاح عام 1972 - (4)

قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل: معجزة البشر على جبهتى سيناء والجولان في أكتوبر 1973 - (5)

قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» هيكل: «السياسة» تكشف خطوط «السلاح» بعد 20 ساعة قتال - (6)

قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة».. لهيكل: تطوير الهجوم المتأخر يتسبب فى حدوث ثغرة الدفرسوار - (7)

قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل: غليان فى القيادة المصرية بشأن تصفية الثغرة - (8)

قراءة في كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل: السادات يقبل قرار وقف إطلاق النار دون إبلاغ سوريا - (9)

قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل: العالم على حافة مواجهة بين واشنطن وموسكو لعدم التزام إسرائيل بوقف القتال (10)

قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل:كشف حساب عن الأداء المصرى فى «20 يوم قتال» (11)

قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل:مصر تتفاوض مع العدو عند «الكيلو 101» (12)



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك