قراءة فى كتاب «أكتوبر 73.. السلاح والسياسة» لهيكل: «السياسة» تخذل «السلاح» فى حرب أكتوبر 1973 - (الأخيرة) - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 11:17 ص القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قراءة فى كتاب «أكتوبر 73.. السلاح والسياسة» لهيكل: «السياسة» تخذل «السلاح» فى حرب أكتوبر 1973 - (الأخيرة)

السادات وكيسنجر
السادات وكيسنجر
عرض ــ خالد أبوبكر
نشر في: الثلاثاء 4 نوفمبر 2014 - 9:38 ص | آخر تحديث: الثلاثاء 4 نوفمبر 2014 - 10:38 ص

• والسادات يرد: أنت تتصور أننى أقوم بفك اشتباك مع إسرائيل.. ما أقوم به هو فك اشتباك مع أمريكا

• رسالة من السادات لـ«جولدا مائير»: عندما أتكلم عن السلام فأنا أعنى ما أقول.. دعينا نتحدث إلى بعضنا من خلال كيسنجر

• ورئيسة وزراء إسرائيل تعلق على الرسالة: هذا شىء طيب.. لكن ما أستغربه هو لماذا يفعل ذلك؟

• كيسنجر يحاول الإجابة: السادات يتشوق لأن يرى نفسه وبسرعة سائرا فى موكب النصر فى سيارة مكشوفة عبر مدينة السويس

• هيكل للسادات: ضمان أمن إسرائيل هو الهدف الأول لكيسنجر فى الشرق الأوسط

• فهم كيسنجر أن السادات عقد عزمه على صلح منفرد مع إسرائيل إذا لم يكن هناك سبيل آخر

وصلنا إلى الحلقة الأخيرة من القراءة التى تقدمها «الشروق» لكتاب «أكتوبر 73 .. السلاح والسياسة»، للكاتب الصحفى الكبير، محمد حسنين هيكل، والتى يتضح فيها بجلاء كيف خذلت «السياسة» بسالة وتضحيات «السلاح»، وكيف أن العدو كان مستعدا للانسحاب من سيناء بمقدار هذه البسالة وهذه التضحيات.. وكيف أن تقدير «السياسة» لما قدمه «السلاح» فى حرب أكتوبر كان أقل بكثير من تقدير الأعداء.. فارتضت (السياسة) بالفتات من دون أدنى اعتراض أو مساومة ولو على «طريقة التفاوض العربى البدائية»، التى يبدأ فيها الرجل بالمطالبة بالمستحيل صباحا.. ثم يروح «يفاصل ويساوم» بنفس أسلوب الصباح، ثم يصل فى خاتمة المطاف إلى البيع بنصف الثمن الذى بدأ به، وأحيانا بربعه، لأن الذى حدث أن الرئيس أنور السادات لم يطلب المستحيل، ولم يساوم لا على نصفه أو ربعه، وإنما قبل ما ألقى إليه من دون تفكير.. وسيظل السؤال الكبير الذى طرحته جولدا مائير، رئيسة وزراء إسرائيل، قبل 41 عاما مطروحا على كل أجيال المحروسة ــ الحالية والقادمة ــ لماذا فعل السادات  ذلك؟

بعد ظهر يوم 7 نوفمبر كانت الأجواء فى القاهرة عاصفة، فقد أذيعت النقاط الست التى شملها اتفاق فك الاشتباك بعد اللقاء الذى جمع السادات وكيسنجر، كما أذيع بعدها بيان برفع درجة القائمين على شئون الرعايا فى مصر وأمريكا، وهما السفير أشرف غربال فى واشنطن، والسفير هيرمان آيلتس فى القاهرة، إلى درجة السفراء المعتمدين، تمهيدا لعودة سريعة للعلاقات بين البلدين، وبدت تلك كلها مفاجآت غير متوقعة ومتلاحقة فى إيقاعها إلى درجة تثير الدهشة.

وكان محمد حسنين هيكل بين الذين فوجئوا بنصوص النقاط الست، عندما وصلته من رئاسة الجمهورية قبل إعلانها رسميا بساعة واحدة. فبدت له خطوة واسعة غير مبررة، وأحس بأنها تمثل اتجاها مختلفا عن كل ما سبقها، وكان إحساسه بعدها أنه لا يريد أن يحضر عشاء دعى إليه فى المساء مع كيسنجر (ومع آخرين) فى بيت إسماعيل فهمى، وزير الخارجية.

كما يفكر فى الاعتذار عن موعد تحدد له مع كيسنجر فى جناحه بفندق هيلتون فى الحادية عشرة مساء بعد ذلك العشاء، وكان شعوره أنه لا يريد المشاركة فى خطوات تتبدى له غير واضحة. وبطريق ما، فإن السادات أحس أو عرف بما يعتمل من أحاسيس ومشاعر، لكنه لم يتصل بهيكل مباشرة، وإنما قام أشرف غربال بالاتصال به وإبلاغه أن الرئيس يذكره بضرورة حضور العشاء والحفاظ على موعده مع كيسنجر، «حتى لا يشعر الرجل بأن هناك فى القاهرة خلافات حول النتائج التى توصلت إليها محادثاته مع السادات».

وحضر هيكل العشاء بالفعل وبعده دار حوار طويل بينه وبين كيسنجر فى مقر إقامة الأخير فى «الهيلتون» (منشور بالنص فى الكتاب تحت عنوان حوارات مع كيسنجر).

وفى اليوم التالى التقى هيكل بالسادات فى قصر الطاهرة (...) كان السادات متحفظا، وكان يعرف بالطبع أن ضيفه كانت له ملاحظات على شكل وموضوع ما حدث بالأمس مع كيسنجر، وبالتأكيد زادت عليها ملاحظات إضافية بعد مقابلته لكيسنجر (...) كان الرئيس يروى هادئا بعض انطباعاته من مقابلته لكيسنجر، وكان من المحقق أن وزير الخارجية الأمريكى تحول فى خيال السادات إلى بطل أسطورى قادر على شق طريقه بقوة من نجاح إلى نجاح.

السادات وجولدا مائير

ثم جاء الدور على هيكل فبدأ من حيث انتهى الرئيس، قائلا «إن الرجل فعلا يستحق الإعجاب، لكننا يجب أن نفصل بين الإعجاب العام أو الخاص، وبين المصلحة الوطنية والقومية». ثم قال: «إننى واحد من المعجبين مثلك بكيسنجر، وأنا أعتقد أنه ربما ينجح فى حل أزمة الشرق الأوسط. وربما أقول بدقة إننى أخشى أن ينجح كيسنجر فى حل أزمة الشرق الأوسط، ومبعث خشيتى هو أن نجاحه سوف يكون وفق قانونه هو وليس وفق أى قانون آخر. أى أن نجاحه قد لا يكون بالضرورة نجاحا لنا. ثم قال هيكل «إن معى الآن الأوراق التى كتبتها حتى الفجر بتفاصيل حوارى مع كيسنجر، وبما استطعت استخلاصه من هذا الحوار. وأريد أن أقول لك بأمانة انبطاعاتى، ومما جاء فى هذه الانطباعات ما يلى:

1ــ إن الهدف الأول لكيسنجر فى الشرق الأوسط هو حماية وضمان أمن إسرائيل.

2ــ كيسنجر قد لا يوافق على توسيع إسرائيل حتى الخطوط التى احتلتها حتى 5 أكتوبر 1973، لكنه لا يوافق على عودة إسرائيل إلى خطوط ما قبل 5 يونيو 1967.

3ــ مطلب كيسنجر الأساسى من العرب هو استمرار تدفق البترول دون انقطاع، وبأسعار معقولة.

4ــ إن كيسنجر يهدف إلى إعادة تثبيت النفوذ الأمريكى كاملا ومنفردا فى المنطقة.

5ــ إن كيسنجر يهدف إلى طرد الاتحاد السوفيتى من المنطقة بالكامل، بادئا بإخراج السلاح السوفيتى منها. ونظرا لالتزامه بسياسة الوفاق وحرصه عليها، فإن الولايات المتحدة لن تكون هى المتصدرة لعملية طرد الاتحاد السوفيتى من المنطقة، وإنما هى تريد أن تترك هذه المهمة للقوى المحلية من دول المنطقة.

6ــ إن أول مطالب «هنرى كيسنجر» فى هذه اللحظة هى بدء مفاوضات مباشرة بين العرب وإسرائيل، عسكرية عسكرية، وسياسية سياسية، وغدا اقتصادية اقتصادية، ومقصده من ذلك انتهاز الفرصة لكسر الحاجز النفسى، الذى يمنع العرب من التعامل مع إسرائيل.

7ــ إن كيسنجر لا يريد التعامل مع أزمة الشرق الأوسط ككل، وإنما يريد أن يتعامل مع كل دولة على حدة بعد عزلها والانفراد بها بعيدا عن الآخرين».

وكان تعليق السادات بعد فترة من الصمت، أن كل ما سمعه ليس فيه جديد عليه، فهو يعرفه كله ويتوقعه، والمشكلة أن محدثه ليس على نفس الموجة معه، وشرح موقفه أكثر بقوله: «أنت تتصور أننى أقوم بفك اشتباك مع إسرائيل، وليس ذلك ما أفعله. وهذا هو الغلط الذى وقعت فيه، ما أقوم به هو فك اشتباك مع أمريكا وليس مع إسرائيل».

ويوم 9 نوفمبر وافقت جولدا مائير على نصوص النقاط الست، وتقرر أن يتم التوقيع عليها خلال اجتماع لمحادثات الكيلو 101 بحضور قائد قوات الطوارئ الدولية الجنرال «سيلاسيفور».

ما بعد المهرجان

كان السادات بعد انتهاء «مهرجان» زيارة كيسنجر أمام مشكلة حقيقية إزاء الرأى العام المصرى، ولم يكن واثقا أن هذا الرأى العام جاهز ومستعد لكى «يلغ» كل الميزات التى حصل عليها كيسنجر فى مفاوضاته معه، وإذن فإن علامات استفهام كبيرة سوف تظهر دون جدال على آفاق السياسة المصرية، وقد تتحول هذه العلاقات إلى ما يتعدى الاستفهام ويتجاوزه:

فمثلا كيف يمكن أن يتقبل الرأى العام المصرى عودة العلاقات الدبلوماسية بهذه العجلة مع الولايات المتحدة، وهى البلد الذى زود إسرائيل، ولايزال يزودها، بمدد مستمر من السلاح؟

ــ وكيف يمكن أن يتقبل الرأى العام المصرى تعهدا برفع الحصار البحرى عن باب المندب دون حصول مصر على شىء فى مقابل هذا التعهد؟

ــ وكيف يمكن أن يتقبل الرأى العام المصرى فكرة الدعوة لمؤتمر «سلام تفاوضى»، مما يظهر أن كلمة المؤتمر هى مجرد شكل، وأما وصف التفاوض فهو القصد والمطلوب؟ وكيف يمكن الرضا بذلك بينما الأرض مازالت محتلة؟

وعرض الأستاذ للحيل التى لجأ إليها السادات ووزير خارجيته للتعامل مع كل هذه المخاوف، والتى استخلصها من مذكرة أرسلها إسماعيل فهمى للسادات (منشورة بالكتاب) يوم 8 نوفمبر بشأن ما تم الاتفاق عليه مع كيسنجر خلال زيارته للقاهرة، ويعلق عليها الكاتب الكبير قائلا:

ــ قبل زيارة كيسنجر جرى التوصل (فى مصر) إلى قاعدة مقتضاها: «إنه يمكن للسياسى أن يقول للناس ما يظن أنهم يريدون سماعه، ولكن هذا السياسى يستطيع أن يتصرف بالفعل وفى الواقع وفق ما يريده هو».

ــ وبعد زيارة كيسنجر وقع اكتشاف قاعدة ذهبية ثانية مقتضاها: «إن الكلمات والجمل أدوات طبيعية يمكن استعمالها مثل بعض أنواع الجوارب الجاهزة للاستعمال لكل المقاسات، فهى قابلة للتضييق قابليتها للتوسيع. ومن هنا فإن بعض التعهدات يمكن إخفاؤها عن الناس، وبعض الكلمات يمكن حذفها من البيانات، وبعض النصوص يمكن تأويلها بحيث تصبح خيوطا مطاطية لها شكل الحرير وملمسه، لا تجرح ولا تخدش!».

تعثر المفاوضات

كانت اجتماعات العسكريين عند الكيلو 101 لاتزال مستمرة بعد إتمام التوقيع على النقاط الست، وتصور الوفد العسكرى المصرى أنه يستطيع أن يبدأ بمناقشة خطوط فك الاشتباك، لكنه اكتشف أنه فى مواجهة حائط مسدود. فقد بدأت جلسة 22 نوفمبر وقال الجنرال «سيلاسيفو» قائد قوات الطوارئ الدولية إن هذه الجلسة مخصصة للبند «ب» من اتفاقية النقاط الست، وهى الخاصة بخطوط 22 أكتوبر. وانتهت الجلسة ولم يتم الوصول إلى شىء (محضر اجتماع الجلسة منشور بالكتاب كما كتبه الجمسى).

وكتب إسماعيل فهمى من القاهرة إلى كيسنجر فى بكين رسالة يخطره فيها بتعثر المفاوضات العسكرية، وبضيق السادات من هذا التعثر، فكان يأمل أن يتم الاتفاق على خطوط لفك الاشتباك، بما يظهر معه أن تقدما جرى إحرازه بحيث يخف الضغط الشعبى والعربى عندما يجد ردا إيجابيا على الأرض.

وكتب كيسنجر إلى فهمى يقول: إننى آسف، ولكنى لست مندهشا لهذه المصاعب التى اعترضت طريق عمل اللجنة العسكرية، ولكنى أنصح بالاستمرار فيها، لأن الأمور معقدة ولا ينبغى أن نتوقف أمام أول مأزق نقابله، ولعلمك، فإننى على اتصال بمسز مائير».

وعادت اجتماعات اللجنة العسكرية تنعقد مرة أخرى، رغم ما واجهها من صعوبات، وفى جلسة تالية بتاريخ 26 نوفمبر، سجل الجمسى فى تقريره عن الاجتماع (منشور فى الكتاب) أن الجنرال ياريف أبلغه بأن الوقت أصبح مناسبا للتوجه إلى مؤتمر للسلام لبحث المسائل السياسية، فقد شعر وهو يطلب تعليماته لهذا الاجتماع أن الحكومة الإسرائيلية تعتبر أن لقاءات الكيلو 101 قد استنفدت أغراضها».

وبدأ السادات يقلق من هذا التعثر الذى أدى إلى شبه توقف للمحادثات العسكرية على الكيلو 101، فكان أمله أن تتمكن هذه المحادثات من الاتفاق على خطوط جديدة لفك الاشتباك تنسحب إليها القوات الإسرائيلية، بحيث يستطيع أن يقول، قبل توجهه إلى مؤتمر السلام فى جنيف، إن خطوة مهمة قد تحققت له أولا بانسحاب مهما كان محدودا للقوات الإسرائيلية، خصوصا فى غرب قناة السويس. وزاد عبء الحرج، الذى يستشعره عندما أعلن فى واشنطن أن موعدا مبدئيا قد تحدد لمؤتمر السلام فى جنيف، وهو يوم 18 ديسمبر.

ثم تلقى السادات رسالة من كيسنجر يرجوه فيها أن يقبل هذا الموعد بناء على إلحاح من الحكومة الإسرائيلية، التى تظن أن انعقاد مؤتمر السلام فى جنيف، ولو لجلسة افتتاحية واحدة قبل الانتخابات الإسرائيلية، التى كان موعدها يوم 31 ديسمبر، يعطيها فرصة تحتاج إليها.

السادات وكيسنجر

المشى نحو السراب

فى الفصل الأخير من الكتاب الذى جاء تحت عنوان «المشى نحو السراب» يقول الأستاذ فى مستهله: «كان فكر السادات وقلبه قد استقرا على خياراته الاستراتيجية الجديدة، ووجد أنه ليس أمامه إلا أن يرحب بزيارة كيسنجر الثانية إلى القاهرة، وأن يوافق على اليوم المحدد لانعقاد مؤتمر السلام، بحيث يتم انعقاد الجلسة الافتتاحية، على الأقل لهذا المؤتمر قبل الموعد المحدد للانتخابات الإسرائيلية، وهو 31 ديسمبر، حتى يساعد على زيادة فرص النجاح بالنسبة لحزب العمل الحاكم، الذى ترأسه جولدا مائير، وراودته تصورات بأن ذلك عربون حسن نية مقدم يهديه لرئيسة وزراء إسرائيل لتلطيف أجواء اتصالات الإدارة الأمريكية بها!

ويواصل «الأستاذ» بأن كيسنجر شعر ببعض القلق وهو فى طائرته إلى القاهرة، مساء يوم الجمعة 13 ديسمبر، وطبقا لما رواه فى مذكراته، فقد تلقى نص مقال نشره «الأهرام» حوى تحذيرا من رفع حظر البترول العربى قبل انسحاب الإسرائيليين من جميع الأراضى العربية، وأقلقته فى هذا المقال عبارة جاء فيها: «إن حل أزمة الشرق الأوسط لا يكمن فى العثور على صياغات لدبلوماسية مغلفة بمعان مزدوجة تتيح لكل طرف أن يفسرها على النحو الذى يخدم أهدافه». وكان تساؤل كيسنجر هو ما إذا كان هذا الرأى يعبر عن نفاد صبر فى القاهرة سوف يجده فى انتظاره.

لكن أعصاب كيسنجر هدأت عندما قابل السادات (فى استراحة القناطر هذه المرة)، ووجد أن عواطفه مازالت حيث تركها فى اللقاء السابق بين الاثنين يوم 7 نوفمبر، بل لعلها زادت لأن الرئيس استقبله معانقا ومقبلا، وقائلا له أمام الجميع بمن فيهم الصحفيون إنه «يعتبره أكثر من صديق.. يعتبره أخا».

وانتهى الاجتماع بموافقة السادات على خطة كيسنجر، ذلك أن وزير الخارجية الأمريكى استطاع إقناعه بأن جولدا مائير لاتزال مهزوزة الأعصاب لا تصدق أن السلام يطرق أبواب إسرائيل. وخير ما يفعله الآن هو أن يطمئن مخاوفها، وأن يعاملها «كأم يهودية» حريصة على أبنائها تضمهم إليها باستمرار، وتريد أن تطمئن عليهم طول الوقت.

وتحمس السادات ومضى إلى أكثر مما طلب إليه كيسنجر، وقرر أن يبعث برسالة مكتوبة بخط يده إلى مائير، وكتبها أمام كيسنجر وسلمها له ليقوم بتوصيلها. وجاء فى الرسالة بالنص: «عندما أتكلم عن السلام الآن فأنا أعنى ما أقول. إننا لم نتقابل من قبل، ولكن لدينا الآن جهود الدكتور كيسنجر. فدعينا فى هذه الأوقات نستخدم هذه الجهود ونتحدث إلى بعضنا من خلاله».

وطبقا لمذكرات كيسنجر فإن السادات قال له إنه (يوجه هذه الرسالة إلى جولدا مائير) لأنه خلال الأسابيع الأربعة الأخيرة أصبح مقتنعا بالرأى الذى سمعه منه وهو أن «مشكلة السلام مع إسرائيل هى بالدرجة الأولى عقدة نفسية، ولكن العقدة ليست مقصورة على الطرف الإسرائيلى وحده وإنما الأطراف العربية هى الأخرى مصابة بها». ثم أضاف الرئيس، وفق رواية كيسنجر، أنه سوف يمضى فى الطريق وحده إذا اقتضى الأمر». وفهم كيسنجر معنى الإشارة، وترجمها على الفور بأن السادات عقد عزمه على صلح منفرد مع إسرائيل إذا لم يكن هناك سبيل آخر».

لماذا يفعل ذلك؟

ويواصل الكاتب الكبير بأن كيسنجر حمل رسالة السادات المكتوبة بخطه إلى جولدا مائير التى استقبلته فى مكتبها، وأحاط بها عدد من وزرائها وقوادها، وبينهم ييحال آللون وموشى ديان، وكان ذلك يوم 16 ديسمبر. وأمسكت مائير برسالة السادات، وراحت تقرؤها وتعيد قراءتها: «عندما أتكلم عن السلام الآن فأنا أعنى ما أقول. إننا لم نتقابل من قبل، ولكن لدينا الآن جهود الدكتور كيسنجر. فدعينا فى هذه الأوقات نستخدم هذه الجهود ونتحدث إلى بعضنا من خلاله». وناولت الرسالة إلى آللون ليقرأها، والتفتت إلى «كيسنجر» قائلة له بالحرف وبنبرة معبأة بالشك والحيرة: «هذا شىء طيب، لكن ما أستغربه هو لماذا يفعل ذلك؟».

وكان سؤالها منشطا لخبرة كيسنجر كأستاذ سابق فى «هارفارد»، وراح يرد عليها طبقا لنصوص محضر الجلسة قائلا وكأنه يحاضر: «إن تفسير موقفه مركب بعض الشىء (...) إن رئيسة الوزراء تسأل: لماذا يفعل الرئيس السادات ما يفعله الآن؟ والحقيقة أننى شخصيا مندهش من مسلكه. إن الرئيس المصرى لا يبدو حتى الآن مستعدا لاستعمال قوته السياسية الكاملة التى تعطيها له حقائق موقفه. كما أنه لا يأخذ الموقف الدولى الجديد فى اعتباراته وهو يتفاوض».

ثم استطرد كيسنجر: «إننى أعتقد أن السادات كان فى استطاعته أن يستخدم ما لديه لتحقيق اتفاق كامل لانسحابكم على شروطه وإلى خطوط 4 يونيو 1967، وحتى إذا خاطر باحتمال تجدد القتال، فإن العالم كله سوف ينحى باللوم على إسرائيل».

ثم تساءل فى عرضه أمام مائير ووزرائها الأقربين قائلا: «لماذا إذن لا يستعمل السادات كل عناصر موقفه ليضغط من أجل انسحاب إسرائيلى كامل؟».

ثم أجاب «كيسنجر» بنفسه على سؤاله وتساؤلات الآخرين قائلا: «السبب فى رأيى أن السادات وقع ضحية للضعف الإنسانى Human Weakness. إنه فى الحالة النفسية لسياسى يتشوق إلى أن يرى نفسه وبسرعة سائرا فى موكب نصر فى سيارة مكشوفة عبر مدينة السويس، وآلاف الناس على الجانبين يصفقون له كمنتصر».

ثم راح يضيف التفاصيل إلى نظريته قائلا: «إن السادات لديه أحد خيارين: الأول: أن يحاول الوصول إلى اتفاق بمساعدة الولايات المتحدة فى جو مريح. والثانى: أن يحاول الوصول إلى هدفه بمساعدة الإنجليز والفرنسيين واليابانيين والسوفييت، وفى مناخ دولى متأزم تجد الولايات المتحدة نفسها فيه مجرورة وراء سياسات دول أخرى. وإذا أخذ السادات هذا الخيار الثانى، فهو لن يكون محتاجا إلى استئناف الحرب. تكفيه بضعة حوادث محدودة مع مواصلة حظر البترول ثم يكون له فى الغالب ما يريد».

وخلص كيسنجر إلى النتيجة التى يجب أن يستوعبها، فى رأيه، قادة إسرائيل فى هذا الظرف، فقال لهم: «أعتقد أنكم يجب أن تفكروا جديا فى انسحاب يعطيه المضايق. وأنا أشعر أن مشكلة إسرائيل دائما هى أنها لا تعرف متى تعطى. ولكنكم الآن أمام ضرورة الاختيار. وهذا فى صالحكم دون أن نخدع أنفسنا. فالموقف الدولى ليس ملائما لكم. وانتشار القوات الإسرائيلية من غرب قناة السويس إلى قرب دمشق يجعل خطوطكم العسكرية مرهقة.

وفيما بعد، وفى اجتماع فى بيت «موشى ديان» دخل كيسنجر مع ديان وسيسكو والجنرال دافيد أليعازر إلى غرفة نوم ديان حيث كانت هناك خريطة كبيرة للمواقع على الجبهة المصرية. ومشى ديان بقلم رصاص على الخط الذى تقترحه إسرائيل لفك الاشتباك، ولم يكن كيسنجر مقتنعا به. وألح عليه ديان أن يعرضه على السادات، وأن يكون محايدا فى عرضه. وقبل كيسنجر، وكانت المفاجأة حتى بالنسبة له أن السادات قبل بهذا الخط بشرط واحد، وهو الإعلان عنه باعتباره اقتراحا أمريكيا وليس اقتراحا إسرائيليا.

امتحان «عبقرية المكان»

عند هذه النقطة نصل للكلمات الأخيرة لـ«الأستاذ هيكل» فى هذا الكتاب، حيث قال بالنص: «كان التساؤل الذى طرحته «جولدا مائير» بقولها «لماذا يفعل ذلك؟» لايزال قائما. ولعل الإجابة عليه زادت غموضا. فلم يكن يكفى فى تفسيره تحليل كيسنجر عن الضعف الإنسانى لسياسى يريد أن يرى نفسه فى موكب منتصر وسط حشد من جماهير شعبه. ولا كانت تكفى أسباب ديان عن القلق فى الجيش المصرى والتخوف فى الاتحاد السوفيتى والتفرغ للمتشددين العرب!!

وبعد عشرين سنة على حرب أكتوبر (وقت صدور الطبعة الأولى من الكتاب) كان التساؤل الذى طرحته جولدا مائير أثناء اجتماعها ووزرائها مع كيسنجر فى ديسمبر 1973 لايزال قائما: «لماذا يفعل ذلك؟».

ولم تكن الأسباب التى طرحها حضور ذلك الاجتماع بمن فيهم «كيسنجر» كافية لتفسيره. ولا كانت نافعة فى تفسيره نظرية المؤامرة التى استهوت كثيرين فى العالم العربى، وراحوا يغوصون فيها إلى أعمق كلما استعصت عليهم الأسباب.

وربما كانت الحقيقة أبسط، ولذلك بدت أعقد.. فلعلها كانت إنسانية، تتصل برجل ولا تتصل بمؤامرة، تتصل بإنسان وبشخصيته وتصوراته وتقديراته، وأحلامه وطموحاته أكثر من اتصالها بأى شىء آخر. والحاصل أن الرئيس «السادات» خرج مقتنعا بعد تجربته الهائلة فى أكتوبر 1973 بعدة مقولات:

• إن الصراع العربى الإسرائيلى نفسى، على الأقل بنسبة 70٪ منه (وكان هذا حسابه).

• إن حرب أكتوبر هى آخر الحروب.

• إن 99٪ من أوراق حل أزمة الشرق الأوسط فى يد الولايات المتحدة الأمريكية.

• إن موضع وموقع مصر ليس فى العالم العربى، وإنما هو فى الغرب أو معه بشكل ما فى مكان ما!

• إن هناك علاقة خاصة يمكن أن تتوثق بين مصر والولايات المتحدة بالتحديد، وهذه العلاقة يمكن أن تزيد على العلاقة الخاصة بين السعودية والولايات المتحدة، كما أنها يمكن أن تتساوى مع العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة!

غلاف كتاب «أكتوبر 73.. السلاح والسياسة» للكاتب الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل

وبصرف النظر عما إذا كانت هذه المقولات صحيحة، أو كانت ممكنة بحقائق الأشياء فإن هذه المقولات كانت لها بالطبع مقتضياتها ونتائجها والآثار المترتبة بالضرورة على هذه المقتضيات والنتائج معا.

ومهما يكن فإنه منذ ذلك الوقت وحتى الآن تدفقت مياه كثيرة ودماء من تحت الجسور. وكانت قصة أكتوبر 1973 هى اقتحام «جسور العبور» إلى الشرق لتحرير أرض وتحرير إرادة. وفى أعقاب الحرب فإن القصة تحولت إلى سباق على «عبور» الجسور، كل الجسور، إلى مجالات وإمكانيات بدت سهلة ومتاحة.. مطلوبة وقريبة.

والذى حدث أن الذين اقتحموا «جسور العبور» على قناة السويس لم يكونوا هم أولئك الذين تسابقوا إلى «عبور» كل الجسور الأخرى البعيدة عن قناة السويس. «جسور العبور» كانت قبولا مجيدا وعظيما بالتضحيات المطلوبة لوطن وأمة. و«عبور» الجسور الأخرى كان جريا سريعا ونشيطا إلى آفاق تفتحت واسعة ومغرية.

وكانت جسور السويس مخضبة بالدم. وكانت الجسور الأخرى مفروشة بالورد! وانطوت صفحة من تاريخ مصر وتاريخ الأمة.. وبدأت صفحة مختلفة! وكانت «عبقرية المكان» على وشك الدخول مرة أخرى فى امتحان صعب وعسير، فى زمان متقلب ومتغير!

الحلقات السابقة:

(1): روايتى عن حرب أكتوبر تدور أساسا حول السادات

(2): مأزق السادات بعد رحيل عبدالناصر

(3): معركة السادات مع «مراكز القوى» والرهان على واشنطن للوصول للحل السلمى

(4): مصر عاشت نوعا من الانفصام بين السياسة والسلاح عام 1972

(5): معجزة البشر على جبهتى سيناء والجولان في أكتوبر 1973

(6): «السياسة» تكشف خطوط «السلاح» بعد 20 ساعة قتال

(7): تطوير الهجوم المتأخر يتسبب فى حدوث ثغرة الدفرسوار

(8): غليان فى القيادة المصرية بشأن تصفية الثغرة

(9): السادات يقبل قرار وقف إطلاق النار دون إبلاغ سوريا

(10): العالم على حافة مواجهة بين واشنطن وموسكو لعدم التزام إسرائيل بوقف القتال

(11): كشف حساب عن الأداء المصرى فى «20 يوم قتال»

(12): مصر تتفاوض مع العدو عند «الكيلو 101»

(13): تفاصيل اجتماع السادات وكيسنجر الذي قلب موازين الشرق الأوسط



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك