الجالية السلوفينية فى مصر.. صفحة منسية من التاريخ الجميل - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 11:26 ص القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الجالية السلوفينية فى مصر.. صفحة منسية من التاريخ الجميل

صورة من سلوفينيا
صورة من سلوفينيا
كتبت ــ دينا عزت:
نشر في: الخميس 8 ديسمبر 2016 - 9:10 ص | آخر تحديث: الخميس 8 ديسمبر 2016 - 9:12 ص

السيدة ميم: أنا مش خواجاية أنا بنت بلد.. وسأموت لو تنفست هواء غير «هوا إسكندرية»
«السلوفان» عرفوا الطريق إلى مصر مع أوائل القرن العشرين بحثا عن حياة أفضل
أبناء الجاليات الأجنبية اخترعوا «الجنسية السكندرية» كمزيج بين أصولهم وحياتهم فى مصر
جمعية الصداقة السلوفينية.. مظلة لإحياء تراث وروح جالية على وشك الاندثار

  
فى غرفة المعيشة القديمة فى واحد من أجمل وأقدم العقارات فى قلب الاسكندرية تجلس السيدة الثمانينية وقد وضعت على المائدة المقابلة لأريكتها، التى كانت بالتاكيد يوما ما وثيرة، مجموعة من الصور الأبيض والأسود وقطع حلوى من احد أقدم محال الإسكندرية وفناجين شاى دافئ لتتحدث عن عقود متتالية أمضتها فى تلك المدينة الساحلية التى تتحدث لغتها وتقول إنها «تعيش بهوائها ولم يعد من الممكن لها ان تعيش لو تنفست أى هواء آخر».

السيدة ميم، كما تحب ان تعرف نفسها، لا ترغب فى الكشف عن هويتها لأنها لا ترغب فى ان تكون محط انظار واهتمام عام يمكن ان ينظر اليها على انها «واحدة من الخواجات اللى فاضلين فى الاسكندرية، لان انا مش خواجاية ان بنت بلد».
فهذه السيدة هى الابنة الوسطى لأم أتت إلى مصر فى مطلع القرن العشرين قبل سنوات قليلة من اندلاع الحرب العالمية الأولى هربا من وطأة الحياة القاسية تحت حكم ديكتاتور إيطاليا موسولينى الذى كان يسيطر على ذلك البلد الصغير المجاور لبلاده فى حينه وسعيا لحياة افضل فى الاسكندرية التى كانت قبلة الحالمين بحياة ناعمة هادئة تخلو من المنغصات فى المدينة الموصوفة عندئذ بمدينة التعايش العالمية والعاصمة المالية والثقافية لمصر فى القرن التاسع عشر وحتى العقود الاولى من القرن العشرين.
كانت الإسكندرية فى ذلك الوقت توفر الامن والازدهار للأوروبين الهاربين من عين العاصفة فى القارة العجوز، بفضل وجود الكثير من الاثرياء المصريين أو المهاجرين والذين استطاعوا توفير فرص للحياة الرغدة من خلال التجارة والكثير من الأعمال لهؤلاء القادمين إلى الإسكندرية عبر المتوسط.
وكما العديد من النساء السلوفينيات اللائى أتين إلى مصر فى تلك الحقبة فإن ماريا كانت تعمل فى مجال التمريض ثم إدارة منازل الأسر الأرستقراطية وكانت تعيش مع اختها وامها، التى تبعتهما إلى الاسكندرية. ولما كانت الإسكندرية مدينة الهدوء والبهجة والنشاطات الاجتماعية المعتادة للجاليات الاجنبية فى تلك الفترة فإنه كثيرا ما كان يتجمع أبناء الجاليات والقوميات المختلفة فكان لقاء ماريا مع الزوج اليونانى زورس ثم الزواج فى عام ١٩٣١ وتكوين واحدة من العديد من الأسر السلوفينية ــ اليونانية التى عرفتها الإسكندرية فى هذا الوقت.
«لقد كانت حياة جميلة تلك التى عشناها فى الإسكندرية فى طفولتنا، حياة جميلة بالفعل، لم نشعر أبدا بأننا لسنا أبناء الإسكندرية، وهنا ينبغى ان نتذكر ان الهوية السكندرية فى ذاتها كانت إطارا جامعا للكثير من القوميات، ورغم اننا لم نكن مصريين مثل غيرنا من المصريين بالأب والأم فإننا كنا سكندريين كما نبقى شأننا فى ذلك شأن أى سكندرى سواء المولود لأسرة مصرية بالأب والأم أو المولود لأسرة سكندرية أتى الأب والأم فيها من بلد آخر أو بلدان اخرى، مباشرة أو ولدوا لنازحين قادمين من أوروبا واليونان أو من بلاد الشام، بحسب السيدة ميم.
وبعد سنوات قليلة من زواج ماريا وزورس ذهبا من الاسكندرية للقاهرة برفقة من كانت فى حينه الطفلة ميم واخ وحيد لها، حيث عاشت الاسرة لسنوات ارتباطا بعمل الاب وحيث ذهب الابناء كغيرهم من ابناء الاسر السلوفينية اليونانية المشتركة إلى المدرسة اليونانية الكائنة فى وسط البلد والتى اصبحت بعد عقود ما يعرف بالمبنى اليونانى التابع للجامعة الامريكية بالقاهرة بعد انزواء وجود الجاليات اليونانية فى العاصمة مع العقدين الثالث والرابع من القرن العشرين.
ولكن الأسر السكندرية، كما تقول السيدة ميم، لم يكن لها ان تعيش طويلا بعيدا عن الاسكندرية فكانت الاسرة تمضى عطلة الصيف التى تمتد لقرابة 4 أشهر فى عروس البحر المتوسط «فى بيت رائع كان لخالتى فى المندرة ومع اصدقاء من المصريين ومن كل الجاليات فى مرح قائم على المشترك وهو حب الاسكندرية والانتماء إليها».
وقبل اسابيع قليلة من العدوان الثلاثى على مصر عقب قيام جمال عبدالناصر بتأميم قناة السويس، كانت ميم قد التقت زوجها، وهو شاب من الجالية السلوفينية التى كانت تقدر عندئذ بعدة آلاف، وتزوجته لتعود مرة ثانية ونهائية هذه المرة إلى الاسكندرية التى لم تغادرها عبر النصف قرن الماضى الا قليلا ولم تقبل ان تذهب عنها حتى بعد وفاة زوجها قبل أعوام قليلة ورحيل ابنها وابنتها إلى المهجر فى كندا واستراليا.
«ربما أكون آخر السلوفينيات فى مصر، لا اظن ان من جيلى هناك من بقى على قيد الحياة، وسأكون الأخيرة فى الاسكندرية على اية حال عندما يأتى الوقت للذهاب عن الحياة التى عشتها هنا والتى مازالت تفاصيل ذكرياتها محفورة فى ذهنى من ايام تأميم القناة وما تلاها من احداث سياسية كبيرة فتحت الباب امام رحيل الكثير من الصديقات والاصدقاء من اصحاب الاصول القومية المختلفة ثم اعادة صياغة العالم مع الحرب الباردة والصداقة الوطيدة التى جمعت مصر بقيادة جمال عبدالناصر والزعيم اليوغسلافى جوزيف تيتو عندما كانت سلوفينيا جزء من يوغوسلافيا وكان ابناء الجالية السلوفينية يذهبون للاحتفال بالزيارة التقليدية لتيتو لمصر»، بحسب ما تقول السيدة ميم بينما ترفع بعض الصور من على المنضدة لتشير لصورة لزوجها واخرى لها وهى بعد فى العشرينيات واخرى لها مع ابنها الوليد، لافتة إلى انها وهى تستعد للنهايات قد أرسلت بالالبومات الكاملة لابنها فى كندا لتبقى هناك «شاهدا على الاسكندرية التى احتضنتنا، كما غيرنا كثيرين، نشأنا وعشنا فيها فى سعادة ورخاء».
وبينما عاشت الكثير من السلوفينيات اللائى ينتمين لجيل السيدة ميم وجيل والدتها، حياة عنوانها العمل الجاد والبهجة الكاملة والانفتاح بلا خوف على المجتمع السكندرى المتنوع الألوان، يرتبط تاريخ الجالية السلوفينية فى مصر بما يعرف اجمالا بتاريخ «الإسكندرانيات» وهى الكلمة التى يستخدمها اهل سلوفينيا للاشارة لعديد من الراهبات اللاتى اتين للإسكندرية فى مطلع القرن العشرين، حيث عشن وعملن تحت رعاية الكنيسة الفرنسيسكانية فى تقديم الرعاية للمرضى والاطفال وقمن كما العديد من النساء السلوفينيات المهاجرات فى حينه بإرسال الاموال لمساعدة اسر كانت تعانى كثيرا فى بلاد تسيطر عليها الفاشية وتعيش حروبا طاحنة.
وكان الوصول الأول للراهبات السلوفينيات للإسكندرية فى سبتمبر من عام ١٩٠٨، وذلك بحسب المادة الارشيفية المتاحة من سجلات السفارة السلوفينية فى القاهرة، وكانت فى الدفعة الاولى من القادمات إلى المدينة المتوسطية الاخت بنجينا رمبرويشتش والاختان روما ناشوير والاخت فيلميهنا هيسلر والام اوسلا جوساك، ثم تلت ذلك افواج عديدة توالت لتعيش فى كنف دير اخوات القديس فرنسيس المسيح الملك.
ولم تحظ السكندرنيات بما قدمن من اسهام فى حياة الاسر الارستقراطية المصرية وحياة المشافى والمصحات المصرية فى حينه وكذلك ما قدمن من اسهام اقتصادى فى حياة العديد من الاسر السلوفينية بالتقدير الكامل الا أخيرا عندما قام رئيس سلوفينيا السابق دانيلو تيروك بمنح أوسمة لاسمائهن لما أبدته هذه النساء من صلابة وقوة وقدرة على مواجهة التحديات، وكان وضع لوحة تذكارية بأسمائهن فى كل من الاسكندرية وسلوفينيا فى احتفال ضم احفاد من اسر هذه النساء.
ويعد الجيل الرابع من ابناء الجالية السلوفينية فى مصر هو الشاهد الأبقى على تاريخ هذه الجالية الصغيرة التى ليس لها فى العادة ذكر كبير بالمقارنة بالجاليات الاكبر مثل الجالية اليونانية والإيطالية على سبيل المثال.
وتعد سلوى حجازى احدى الشاهدات على القصة السلوفينية فى مصر، حجازى هى حفيدة لفريدريكا التى اتت إلى مصر مع إرهاصات الحرب العالمية الثانية حيث عاشت وعملت فى الاسكندرية ثم تزوجت من لبنانى لتنجب انجيلا التى تزوجت بدورها من مصرى لتنجب سلوى المتزوجة ايضا من مصرى.
وتقول حجازى، التى تعمل مدرسة بإحدى المدارس الانجليزية فى القاهرة، انها عندما تنظر لصور جدتها ووالدتها وخالتها، التى تزوجت ايضا من مصرى، تشعر بالامتنان لهذا التنوع الثقافى الذى تنتمى إليه والذى تسعى دوما لأن تنقله لابنها وابنتها، شأنها فى ذلك شأن أبناء خالتها، الذين يعملون فى الهندسة والإنشاءات، والذين يحرصون دوما رغم مصريتهم الكاملة على تذكير ابنائهم بأن لهم ارتباطا تاريخيا بسلوفينا تلك البلد الصغيرة التى لا يعرفه الكثيرون فى مصر والتى يحتاج المرء احيانا لأن يشرح لمحدثيه انها كانت جزءا صغيرا من الاتحاد اليوغوسلافى وانها كما غيرها من الجمهوريات الصغيرة فى اوروبا الشرقية نالت استقلالها مع سقوط الاتحاد السوفييتى وحائط برلين فى نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات من القرن الفائت.
وأخيرا قامت حجازى بالشروع فى تأسيس جمعية للصداقة السلوفينية، تسعى من خلالها لربط من بقى فى مصر من احفاد المهاجرات وايضا المهاجرين الذين أتوا إلى الإسكندرية من سلوفينيا فى مطلع القرن الماضى وغيرهم ممن تفرقت بهم السبل فى مختلف القارات من امريكا الشمالية والجنوبية إلى آسيا واستراليا.
وتقول حجازى نحن لدينا الكثير من الذكريات التى تجمعنا حتى لو ان بعضنا يعيش فى مصر والبعض الآخر فى كندا أو غيرها، وكثير من هذه الذكريات بحسب حجازى هى حكايات الجدات عن البلاد البعيدة اللاتى أتين منها هن أو حتى جداتهن، وكثير من الكلمات والاغانى باللغة السلوفيينة، التى لم يعد الكثيرون من الاجيال الرابعة أو الخامسة يجيدونها، والكثير والكثير من وصفات الطعام من المطبخ السلوفينى والتى تحرص حجازى على ان تشملها مائدتها خاصة عندما تجتمع مع اخواتها وابناء خالتها وبناتهم وابنائهم
«هناك هذا الشىء الذى يجمعنا، ذلك الشىء الذى نعرفه جميعا ونشترك فيه بصورة فيها الكثير من الحنين ولكن ايضا الانتماء والحب والقصص المشتركة التى سمعناها والمخاوف المشتركة التى عرفنا انها كانت بداية حكاية الهجرة من سلوفينا إلى الاسكندرية»، بحسب طارق حجازى، المهندس وأخو سلوى حجازى.
ومنذ سنوات قليلة قامت حجازى مع اميرة ومحمود بزيارة لسلوفينا وقمن بزيارة الاماكن التى اتت منها جدة سلوى كما اشترك الابناء فى معسكرات ترفيهية ــ تعليمية شارك فيها الكثير من السلوفينيات والسلوفينين القادمين من بلاد مختلفة، حيث كان الحديث عن تجارب الهجرة والاغتراب والعودة والانتماء المشترك للثقافات المتعددة.
وتقول اميرة الفتاة ذات الأربعة عشر عاما ان تجربة المشاركة فى المعسكر منحتها ادراكا لإحساس الشتات الذى ربما عاشت به بعض السلوفينيات المهاجرات وإدراكا للقوة الانسانية الاستثنائية التى يحتاجها المرء ليحول الشتات إلى حياة مستقرة حتى لو كان الحنين الدائم هو جزء رئيسى من هذه الحياة.
ويقول محمد مؤنس، الابن الاكبر لطارق مؤنس ابن خال سلوى حجازى، انه حتى وان لم يكن يعبأ كثيرا لكون جدته من اصول سلوفينية فى طفولته فإنه اليوم أصبح شغوفا بالمعرفة عن هذه البلد الصغيرة التى اتت منها هذه النساء القوية.
وتحرص سلوى حجازى على ان ينضوى تحت مظلة نادى الصداقة السلوفينية اجيال جديدة من السلوفينيين والسلوفينيات الدين يصنعون بدايات جديدة فى مصر دون ان يكونوا مثلها أو مثل السيدة ميم متحدرين من تلك الجالية السلوفينية التى ساهمت فى صياغة الروح السكندرية متعددة الأطياف فى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وفى الاجتماع الذى يجمع اعضاء النادى تأتى حجازى كما تأتى ايفا المرشدة السياحية التى اتت لمصر قبل اقل من ١٠ أعوام وقررت البقاء بها كما تأتى سيركا الفنانة التشكيلية التى التقت زوجها المصرى فى الاتحاد اليوغسلافى فى منتصف الستينيات من القرن الماضى، حيث كان يدرس الهندسة ثم تزوجته واتت لتعيش معه فى مصر كما تأتى سفيرة سلوفينيا فى القاهرة تانيا ميشكوفا التى تشارك الحنين لذكريات الجالية السلوفينية فى مصر والتى تسعى ايضا كما تقول لبناء شراكة قوية بين بلديها ومصر للمستقبل والتى حرصت ان يشارك فى الزيارة غير المسبوقة التى قام بها بوروت باخور رئيس سلوفينيا إلى مصر فى الفترة ما بين ٥ و٧ ديسمبر، وفد كبير من رجال الأعمال بغرض التعرف على فرص الاستثمار فى مصر لاعتقادها، كما أخبرت «الشروق» قبيل الزيارة، ان مصر «كما هى دوما وكما كانت عندما جاءت تلك السيدات السلوفينيات إلى الاسكندرية قبل اكثر من قرن، بلد مستقر وبه الكثير من الفرص العظيمة للشراكة والحياة».



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك