مذكرات نبيل شعث «حياتى.. من النكبة إلى الثورة» (2 ــ 6): على ضفاف الإسكندرية - بوابة الشروق
الجمعة 17 مايو 2024 7:45 ص القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مذكرات نبيل شعث «حياتى.. من النكبة إلى الثورة» (2 ــ 6): على ضفاف الإسكندرية

السياسى الفلسطينى البارز، الدكتور نبيل شعث
السياسى الفلسطينى البارز، الدكتور نبيل شعث

نشر في: الخميس 13 أكتوبر 2016 - 10:02 ص | آخر تحديث: الخميس 13 أكتوبر 2016 - 11:01 ص

عرض: محمد نبيل حلمي

- ياسر عرفات زار منزلنا فى الخمسينيات.. وأبى قال لى: «سيكون قائدًا لفلسطين»
- زملائى قالوا لى: «الفلسطينيون باعوا الجندى المصرى لليهود بجنيه» فبكيت.. ورد أبى: الأجواء مسمومة والهزيمة مرة
- عبدالناصر أعلن كسر احتكار السلاح من نادى فلسطين فى «سبورتينج».. ووقع اتفاقًا مع «تشيكوسلوفكيا» بعدها بشهور
- جارتى اليهودية فى زيزينيا أول من أقنعنى بالتمييز بين ديانتها والصهاينة المغتصبين
- اقتربت من «الإخوان» لحديثهم عن فلسطين.. وتركتهم بعد دخولهم فى صراع مع الحكومة المصرية
- فكرت فى دراسة «الحقوق».. فسألنى والدى: أين دولتك التى ستعمل فيها قاضيًا؟
- قلدت الممثلين أمام محمود ذو الفقار وعزيزة أمير.. فرشحانى لبطولة فيلم سينمائى
- كدت أفقد حياتى بسبب «زبيدة ثروت»
فى الحلقة الثانية من مذكرات السياسى الفلسطينى البارز، الدكتور نبيل شعث، والتى صدرت حديثًا عن «دار الشروق» تحت عنوان: (حياتى.. من النكبة إلى الثورة)، يتناول الرجل اللحظات الأخيرة قبيل مغادرة فلسطين، وينتقل إلى فترة الصبا فى الإسكندرية التى استقرت فيها عائلة شعث، ويرصد الرجل محطات ومواقف لافتة وشخصيات مؤثرة بدأ فى التعرف عليها خلال فترة مبكرة من حياته، ويكشف تفاصيل الزيارة الأولى التى أجراها الزعيم الفلسطينى الراحل، ياسر عرفات، لمنزل عائلة شعث بالإسكندرية، كما يروى تفاصيل دعوة الوالد «على شعث» للرئيس الراحل جمال عبدالناصر لإلقاء خطبة فى نادى فلسطين بالإسكندرية فور افتتاحه.
وتنشر «الشروق» عبر سلسلة من 6 حلقات عرضًا للسيرة الذاتية، التى تجمع بين المذكرات الشخصية والرواية التاريخية، وتغطى الفترة منذ بدايات الغزو الصهيونى لفلسطين، وفترة النكبة، وملحمة بيروت فى العام 1982، والحروب العربية ــ الإسرائيلية، وانطلاقة الثورة الفلسطينية بقيادة حركة فتح، ونشأة منظمة التحرير، ومرحلتَى الأردن ولبنان فى تاريخ الحركة، وإلى الحلقة الثانية:
عند مغادرتنا يافا فى كانون الثانى يناير (1947) لم يكن هناك فى فلسطين شعور باليأس أو الاستسلام. كان هناك ترقب حذر للمستقبل، وقلق من الهجرة اليهودية التى عادت إلى التصاعد بعد نهاية الحرب العالمية، وأمل فى عالم ما بعد الحرب.
المحطة الأخيرة قبل مغادرة فلسطين كانت غزة هاشم، مسقط رأس الوالد وموطن عائلة شعث. طالت هذه المحطة شهرًا كاملًا استضافنا فيه العم توفيق أبورشيد. أقام لنا الولائم، وانهالت علينا الدعوات من الأهل والأصدقاء. لعبنا فى متنزه البلدية الجميل، وبخاصة مع راسم وزياد شعث، الأقرب إلى عمرى. بقى هذا المتنزه فى فكرى إلى أن عدت للوطن فى العام 1994 وزيرًا للتخطيط والتعاون الدولى فأعدت تشغيله وتطويره، وعملت على إنشاء حدائق وملاعب لأطفالنا فى مناطق القطاع المختلفة.
انطلق القطار من غزة يطوى صحراء سيناء فى ليلة من ليالى شباط (فبراير) الباردة، والوالدة تتفحّص كل فترةٍ الغطاء الذى يقينا بعض هذه البرودة القارسة. عبرنا قناة السويس عند الفجر بمعدية إلى الشاطئ الغربى وانطلق بنا القطار إلى الدلتا. وصلنا إلى بنها حيث انتقلنا إلى قطار آخر حملنا إلى الإسكندرية.
أخيرًا ها هى الإسكندرية، حقًا إنها مبهرة. كان الطقس مشمسًا صحوًا مع نسمات شباط (فبراير) الباردة. ركبنا «الحنطور»، عربة يجرها حصانان، من «محطة مصر» إلى ميدان «محطة الرمل» حيث بداية خطوط الترام إلى حى «الرمل» بالإسكندرية. جذب الترام انتباهنا، وكان يتكون من طابقين. بهرتنا السيارات الفارهة والعمارات الجميلة المزخرفة التى تميز الإسكندرية القديمة، والحركة السريعة. قضينا الليلة الأولى فى «بنسيون» (فندق صغير)، فى الطابق السادس من عمارة بمحطة الرمل، تديره سيدة يونانية، وركبنا المصعد الكهربائى لأول مرة للوصول للبنسيون. رأينا شاطئ البحر من الشرفة الصغيرة و«كورنيش» الإسكندرية الجميل.
فى صباح اليوم التالى توجهنا إلى المنزل الذى استأجره لنا الوالد فى أثناء زيارته السابقة للإسكندرية وقال لنا إنه بيت الحاجة منيرة هانم حقى فى زيزينيا.
كان القرار الأول والأهم للوالد يتعلق بالمدارس التى سنلتحق بها. المدرسة الأشهر فى الإسكندرية كانت كلية فيكتوريا ولكنها بريطانية ومكلفة جدًّا. كانت نظرية الوالد أنه يعدّنى لكى أصبح مناضلًا سياسيًّا يسهم فى تحرير وطنه، وكان قراره أن أتعلم فى مدرسة حكومية مصرية لأكون مع الناس، ولذلك بدأ بحثه عن أفضل مدرسة مصرية حكومية، فاختار مدرسة الرمل الابتدائية بثروت باشا الأقرب إلى منزلنا فى زيزينيا. وكنت أذهب إلى المدرسة وأعود منها بالترام ذى الطابقين الذى شد انتباهنا يوم وصولنا للإسكندرية.
اختار الوالد مدرسة القلب المقدس للراهبات فى الإبراهيمية لتعليم أختىّ ميسون ونهى. ميسون كان عمرها سبع سنوات ونصف السنة، ونهى كانت تقترب من سنتها السادسة، وقد اعتادتا أيضًا الذهاب إلى مدرستيهما بالترام. أما نديم فقد كان طفل العائلة الممتلئ حيوية وعمره سنتان.

جارة يهودية
كانت جارتنا فى الإسكندرية «جويس مندوزا» يهودية ــ إسبانية، ولكنها نجحت تمامًا فى اكتساب صداقتى بالابتسامة الدائمة والمساعدة المستمرة، والتعاطف مع نكبتنا، رغم إزعاجى المستمر لها، ولعلها كانت أول من أقنعنى بضرورة التمييز بين اليهود، بدينهم، وبين اليهود الصهاينة الذين اغتصبوا بلدى وشردوا شعبى.

هوايات
كانت الموسيقى والتمثيل من هواياتى المحببة التى أتقنتها، فكنت أشارك فى الحفلات المدرسية ضمن فريق التمثيل لمدرسة الرمل.
زارنا فى بيتنا الفنان محمود ذو الفقار وزوجته الفنانة عزيزة أمير، وقمت بالغناء وبتقليد الممثلين والسياسيين المعروفين أمامهما، فألحَّا على أبى أن يقبل الاتفاق معهما لكى ألعب دورًا فى فيلم سينمائى من إنتاجهما، يلعب فيه صبى من عمرى دور البطولة. ترك أبى القرار لى، بعد تحذيرى من النتائج المحتملة: قد أفقد فرصتى فى التعليم، ولن أعيش مع العائلة، وسوف أبتعد عن فلسطين وقضيتها، فقررت رفض العرض المغرى فورًا.

النكبة
وقد كانت النكبة. نجحت عصابات القتل الصهيونية، وجيش الاغتصاب والاحتلال فى اقتلاع ثلاثة أرباع أهل فلسطين وسكانها من 78% من أرضهم التى جُبلت بعرقهم ودمائهم عبر آلاف السنين، مزارعهم التى توارثوها أبا عن جد وبيوتهم التى بنوها وشيدوها منذ القدم، والأهل والجيران والمدارس وأصدقاء الطفولة والشباب. كان عدد الفلسطينيين العرب 950.000 يعيشون فى الأراضى التى أصبحت إسرائيل فيما بعد، هُجّر 800.000 فلسطينى من ديارهم، أى أكثر من 80%. وبعد عمليات التهجير؛ بقى حوالى 156.000 عربى فلسطينى، أصبحوا اليوم مليونًا وستمائة ألف؛ أى تضاعفوا عشرة أضعاف. إنهم أشجار الزيتون الصامدة، وأشجار السنديان الفلسطينية، جذورها عميقة فى أرضنا، وفروعها عالية فى سماء بلادنا.
دمرت «إسرائيل» 418 مدينة وقرية فلسطينية تدميرًا كاملًا فباتت أثرًا، فى محرقة غير مسبوقة فى التاريخ الحديث، لكى تقول بعد ذلك إنه لم تكن هناك فلسطين وحضارة عربية فلسطينية وشعب فلسطينى، وإن «إسرائيل» كانت دائمًا «دولة يهودية».

ربيع 1948
ما أن حل ربيع 1948 حتى بدأت أفواج اللاجئين فى التدفق إلى الإسكندرية بالقوارب من يافا وجوارها. ألقاهم اليهود فى البحر فعلًا، وادّعوا أننا الذين هددنا بإلقاء اليهود فى البحر. خرج هؤلاء اللاجئون يحملون مفاتيح بيوتهم، ويعتقدون أنهم عائدون إليها عندما تستقر الأمور خلال أسابيع أو شهور قليلة. كان الوالد يخرج يوميا إلى الميناء لاستقبالهم ولتوفير المأوى والمساعدة المالية لهم، وكفالتهم لدى السلطات المصرية، وإغاثتهم، ومعالجة أوضاعهم القانونية، وإسكانهم، وتشغيلهم. لعب الوالد دور كبير الفلسطينيين فى الإسكندرية، وتحمل المسئولية كاملة. تبرعت الجالية السورية، وعلى الأخص أصحاب مصانع الغزل والنسيج، بأموال للمساعدة فى إيواء وإغاثة اللاجئين، وكان الجو العام إيجابيًّا، وتسابق الجميع فى مساعدتهم.
تعددت رحلات الوالد إلى الصحراء الغربية لشراء الأسلحة لإرسالها إلى الثوار فى فلسطين، وكان يطوف الإسكندرية ليجمع التبرعات للفلسطينيين المهاجرين، من رجال الأعمال وبخاصة السوريون منهم، وكان يلقى دعمًا من الجميع.

أكاذيب
تطورت الحرب فى فلسطين بهزيمة الجيوش العربية. تصاعدت خسائر الجيش المصرى، وبدأت بعض مشاعر العداء ضد الفلسطينيين تظهر فى مصر، وسرت شائعات مغرضة بأن «الفلسطينيين باعوا أرضهم وبلدهم لليهود»، وكان ما سمعته مفجعًا، فذهبت للوالد الذى هدأ روعى، وقال لى ربما باع القلة القليلة أرضهم لسماسرة عرب، طمعا فى مغنم، ولكن غالبية من باعوا كانوا من ملاك الأراضى السوريين واللبنانيين الغائبين عن أملاكهم فى فلسطين. وبالرغم من ذلك كله فإن ملكية اليهود فى تلك الأيام كانت لا تزيد على 5.7% من أراضى فلسطين حسب إحصائية حكومة الانتداب منها 2.4% تضم ما كان من أملاك اليهود فى فلسطين عبر عشرات السنين، وجزء آخر منح لهم بمساعدة الولاة الأتراك الذين عيَّنتهم على فلسطين حكومة الاتحاد والترقى التركية فى بداية القرن 20 والتى كانت تحت تأثير المنظمات الصهيونية.
(...) عدت لأبى باكيا فى أحد الأيام: «يقولون إن الفلسطينيين خانوا الجيش المصرى، وإنهم يبيعون الضابط المصرى لليهود بجنيه». قال لى: «ستسمع الكثير من الأكاذيب وعليك أن تتصرف بحكمة، هؤلاء إخوانك وأصدقاؤك، ولكن الأجواء مسمومة والهزيمة مرة يا بنى، وما أسهل أن تتهم الضحية عند الفشل فى مقارعة الجلاد، صبرًا يا بنى».

زبيدة ثروت
قبل أن يشترى لى الوالد دراجتى كنت أركب ترام الإسكندرية من محطة رشدى باشا، وكان موعد انطلاقى للمدرسة يتطابق مع موعد انطلاق فتاة غاية فى الجمال عرفت أن اسمها زبيدة. كنت أرقب موعد انطلاقها للمدرسة لأكون معها، وإذا غابت يومًا يصيبنى القلق عليها. حاولت أن ألفت نظرها لوجودى دون جدوى، إلى أن أتيحت لى الفرصة يوما عندما سقط من حقيبتها منديلها وبعض أوراقها على قضبان الترام القادم للمحطة. انقضضت فورا لإنقاذ ما وقع منها. لم أسمع الترام ولم أرَ شيئا، وفجأة أحسست بصفعة قوية ألقت بى بعيدًا عن الترام القادم ونثرت دفاترى وأقلامى فى كل مكان. لقد أنقذ السائق حياتى، ولكنه أحرجنى، أمام المحبوبة الجميلة. ولكنها ردت لى الجميل بجمعها لأوراقى المبعثرة وباستخدام منديلها لمسح التراب عن وجهى، وبشكرى على شهامتى. سمحت لى الحادثة بتبادل التحية معها كل صباح، وباستراق النظرات. اختفت زبيدة بعد ذلك، وعرفت أن زبيدة ثروت أصبحت نجمة سينمائية أثارت الإعجاب بجمالها وأدائها، وقد رأيت أفلامها عدة مرات.

علاقتى بالإخوان المسلمين
فى بداية العام الدراسى 1952 ــ 1953 وكنت قد أكملت الرابعة عشرة من عمرى، التحقت بالجمعية الدينية فى مدرسة الرمل الثانوية، وكنت أصلى الظهر فى مسجد المدرسة بانتظام. عشت فى بيت عصرى من جهات عديدة، ولكنه كان بيتًا عامرًا بالإيمان. كان إيمان أبى وأمى صادقًا، مطلقًا، وكانت ممارستهما لشعائر الإسلام، من صلاة وصوم وزكاة وتعبد، لا تنقطع. صُمنا جميعا فى التاسعة من العمر، وإن حاولت الصوم قبلها ولو لأيام قليلة فى رمضان. ولكن انضمامى للجمعية الدينية أتى من خلال زملاء تعرفت إليهم فى السنة الرابعة الثانوية. جذبوا انتباهى بأخلاقهم، ودماثتهم، وصدقهم، وباهتمامهم البالغ بقضية فلسطين. كنا نلتقى فى «مصلى» المدرسة، ونخرج بعدها للحديث فى «فسحة الظهر». شجعونى على الكتابة عن فلسطين لمجلة الحائط للجمعية الدينية.
كانت فلسطين سببًا رئيسيًّا لاهتمامى بحركة الإخوان. شاركت كتائب الإخوان فى حرب 1948 فى فلسطين، وكانت فلسطين تشكل محورًا أساسيًّا فى أحاديثهم ونقاشاتهم.
حاول الإخوان إعادة تشكيل شخصيتى وسلوكى بالتثقيف الدينى، والممارسة المشتركة، بالتركيز على القرآن، وقراءته، واستيعاب معانيه، وبالصلاة فى المساجد، وبالدروس المباشرة. تقلص تدريجيًّا حجم الحديث عن فلسطين والقضايا التى كنت أهتم بها، وتقلص بالتدريج الوقت المخصص للسينما والموسيقى والقراءة الأدبية. لم يكن ذلك منسجمًا تمامًا مع ثقافتى واهتماماتى السابقة، وكنت أحس أن الدين لا يمكن أن يكون ضد الثقافة والموسيقى إلا إذا كانت مخالفة للأخلاق بشكل عام. كنت أناقش لساعات طويلة كل هذه القضايا مع أعضاء أسرتى.

ياسر عرفات
اتصل الطلاب الفلسطينيون من جامعات القاهرة بوالدى يطلبون دعمه لرابطة الطلاب الفلسطينيين فى القاهرة، ولتوفير منح دراسية لهم، ولتقديم الدعم المالى للطلاب المحتاجين منهم، ثم أرسلوا وفدًا منهم لمقابلته فى الإسكندرية. زاره الوفد فى مكتبه بالبنك العربى، وكان برئاسة شاب اسمه ياسر عرفات، وكان معه الطالبان فاروق القدومى وصلاح خلف. استقبلهم الوالد ورحب بهم، واستجاب لما طلبوه من مساعدات. ثم دعاهم لزيارتنا فى البيت، وقال لى يومها: «سيزورنا يا نبيل ضيوف من الشباب الفلسطينيين، رئيسهم اسمه ياسر، وأراهن أن هذا الفتى سيصبح قائدًا لفلسطين».

نادى فلسطين
زادت مسئوليات والدى الفلسطينية، ونمت الجالية، وتحسنت أوضاعها المالية والوظيفية، كما أن معاملة الفلسطينيين تحسنت كثيرًا فى مصر، وبالأخص بعد انطلاق ثورة تموز (يوليو) 1952. بدأ الوالد فى التفكير بإنشاء نادٍ لفلسطين فى الإسكندرية. طرح أبى فكرته على أقطاب الجالية ووجد تجاوبًا كبيرًا منهم لتنفيذ الفكرة.
تبرع الوالد بمبلغ من المال، ولحق به أقطاب الجالية، وتم استئجار شقة كبيرة فى سبورتينج. بدأ نادى فلسطين فى مزاولة نشاطه فى تشرين الثانى (نوفمبر) 1953، ولكن الافتتاح الرسمى تأجل لكى يقوم به اللواء محمد نجيب الذى كان رئيسًا لمجلس قيادة الثورة المصرية، ثم أول رئيس لجمهورية مصر.
انتُخب مجلس النادى برئاسة والدى، وتشكلت لجان متعددة من أعضاء النادى، كلجنة المرأة، والشئون الاجتماعية، ولجنة الطلاب، واللجنة الثقافية ولجنة الرياضة والرحلات والنشاطات الترفيهية، واللجنة المالية، وبدأت أعمالها جميعا بنشاط وحمية، وكان النادى يعمل حتى منتصف الليل.
توالى الخطباء والمتحدثون بعد قيام الرئيس محمد نجيب بالافتتاح الرسمى؛ أحمد الشقيرى، وأكرم زعيتر، ومحمد على علوبة باشا. كانت مصر تعيش فترة التحول من الملكية إلى الجمهورية الثورية، وبدأ الناس يدركون أن القائد الحقيقى للثورة المصرية هو البكباشى جمال عبدالناصر، ولم يكن قد تحدث بعد عن موقفه وموقف الثورة من القضية الفلسطينية، ولذلك فقد بذل والدى كل الجهد لدعوة عبدالناصر للحديث فى نادى فلسطين، ووافق أخيرًا.
كان النادى يمتلئ بالحضور، واستقبل عبدالناصر بالهتاف والترحيب. عندما قدَّم والدى جمال عبدالناصر للجمهور بقى على المنصة واقفًا خلفه، وقد شرح لى بعد ذلك سبب وقوفه: «كنت أخشى أن يحاول أحد الاعتداء عليه، وهو فى نادى فلسطين، فوقفت خلفه لأموت معه إذا اعتُدى عليه».
كان خطاب عبدالناصر هو الأهم بلا منازع، وقد تحدث فيه عن القضية الفلسطينية. لم يكن عبدالناصر بعيدًا عن القضية الفلسطينية، فلقد حارب فيها فى 1948 وحوصر فى الفالوجة.
وانطلقت ثورته، من خلال رؤيته للعجز والتقصير فى مصر، والأقطار العربية، فى مواجهة إسرائيل، بل والخيانة فى قضية «الأسلحة الفاسدة». بدأ عبدالناصر خطابه بمهاجمة مقولة إسرائيل المزعومة. «بيقولوا إسرائيل المزعومة، وهى لا مزعومة ولا حاجة. دى خطر حقيقى على الأمة العربية بأسرها. كيف سنواجهها، وهناك عدم توازن كبير فى التسليح والمعدات؟ الأمريكان يحتكرون السلاح والغرب يعطى إسرائيل عشر قطع من السلاح مقابل كل قطعة يبيعها لنا، حتى يضمن تفوق إسرائيل علينا».
ثم تحدث عن غارة إسرائيل الإجرامية على قطاع غزة فى شباط (فبراير) 1955، واعتبرها نقطة تحول، وأن هذا العدوان كان جرس إنذار، وأن مصر يجب أن تعتمد على قوتها الذاتية لا على مجلس الأمن وقراراته. «لازم نكسر احتكار السلاح، وحنشتريه من أى مكان فى الدنيا، نشتريه من تشيكوسلوفاكيا».
أثار حديث الرئيس هذا زوبعة من الاهتمام، والفرح عند جماهير الشعب العربى وبالأخص الفلسطينى. وعلى إثر ذلك بدأ التحول الجديد فى السياسة المصرية بالاتجاه إلى المعسكر الشرقى وعقد صفقة الأسلحة التشيكية التى أعلن عنها يوم 27 أيلول (سبتمبر) 1955 بالتنسيق مع الاتحاد السوفييتى.

خارج الإخوان
أنهيت مرحلة الدراسة الثانوية فى حزيران (يونيو) 1954، وكانت السنة الأخيرة هى سنة التخصص، حيث اخترت الشعبة الأدبية استعدادا للالتحاق بكلية الحقوق. أحببت علم الجغرافيا الذى شمل مقدمة للأنثروبولوجيا، الباقى كله لم يكن جديدًا علىّ، ولم يحفزنى لبذل الجهد اللازم، ومع ذلك فقد كان ترتيبى الثانى عشر فى مصر، وهى نتيجة لا بأس بها، وإن كانت لم ترضِ الوالد. كان علىّ أن أكون الأول بلا منازع.
انشغلت بتصاعد الخلاف بين الإخوان المسلمين والحكومة. لم يكن فى برنامجى السياسى الدخول فى صراع مع الحكومة المصرية، وبالأخص مع حكومة الثورة. علاقاتى بالإخوان كان محورها فلسطين، والعمل على تحريرها. دخلت فى مناقشات طويلة مع الإخوان حول الموضوع. بدأت أيضًا ملاحقة رجال الأمن، والتحقيق معنا ومراقبتنا وهو ما أزعج الوالد. «ليست هذه معركتنا يا نبيل»، قال لى أبى. «وفر جهدك والمواجهات الصعبة لفلسطين». كان علىّ أن أغادر تنظيم الإخوان المسلمين عن اقتناع، وقد كان.

أين هى دولتك؟
كانت السنة الأخيرة، وخصوصًا بعد انتهاء الامتحانات، بداية لمناقشات مستفيضة مع الوالد حول توجهاتى المستقبلية. وقد أبدى الوالد اعتراضه لأول مرة على اختيارى لكلية الحقوق. قال الوالد: «كلية الحقوق تعد خريجيها لوظائف قضائية وتنفيذية فى الدولة». أين هى دولتك يا بنى؟ أين هى الدولة الفلسطينية؟ وأين المحاكم الفلسطينية التى قد تعمل فيها قاضيًا، أو أن تدافع أمامها محاميًا لامعًا ومتمكنًا؟ نحن بالتأكيد لم نفقد أملنا فى استعادة فلسطين وإقامة دولتنا المستقلة على ترابها، ولكنّ ذلك أمر قد يطول، وأنت فى حاجة لإعداد نفسك وشعبك قبل هذا اليوم الموعود».
هى إذن كلية التجارة. توجهت إلى مكتب التنسيق للجامعة، وطلب منى الموظف المسئول أن أكتب 12 اختيارا حسب ترتيب اهتماماتى، فكتبت اختيارا واحدا: كلية التجارة بجامعة الإسكندرية، اثنتى عشرة مرة.
وداعا لأحلام القانون الدولى، والمحاماة، التى راودتنى طيلة مرحلة الصبا والمراهقة، ومرحبًا بهذا التوجه الجديد للمستقبل.

اقرأ ايضا:

مذكرات نبيل شعث «حياتى.. من النكبة إلى الثورة».. فى ظلال يافا «بلد الغريب»

إبراهيم المعلم: مذكرات نبيل شعث «كنز جديد» يضاف للمكتبة العربية



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك