عن الذين رأوا.. ولم يصمتـوا - بوابة الشروق
الثلاثاء 17 يونيو 2025 8:39 ص القاهرة

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

ما توقعاتك لمعارك إسرائيل مع إيران؟

عن الذين رأوا.. ولم يصمتـوا

جمال أبوالحسن
نشر في: الثلاثاء 15 مايو 2012 - 10:30 ص | آخر تحديث: الثلاثاء 15 مايو 2012 - 2:19 م

بينما كنت أقوم مؤخرا بإعداد بحث حول الصراع العربى ــ الإسرائيلى وقعت فى أضابير الدولة المصرية على وثيقة غير منشورة، تُعد فى نظرى من أخطر الوثائق التى تتناول علاقة مصر بحرب فلسطين (1948). هى خطيرة فى دلالتها، ولما تحمله من رؤية استشرافية مازالت تحتفظ بمغزاها ومضمونها إلى اللحظة الحاضرة، وكأن صاحبها أراد أن يخاطب بها أجيالا قادمة وليس فقط المسئول الذى وجه له رسالته.

 

نحن الآن فى 7 يوليو 1948 (تاريخ هذه المذكرة الرسمية). فى اليوم التالى على هذا اليوم سوف تنتهى الهدنة الأولى، التى رفض العرب تمديدها، وسوف تُستأنف العمليات العسكرية بين الهجانة (القوات اليهودية) والجيوش العربية. فى الجولة الأولى أحرزت الجيوش العربية بعض النجاحات المحدودة برغم ما أظهرته من عجز وتشرذم، إذ تقدمت القوات المصرية فى صحراء النقب صوب تل أبيب التى قصفها الطيران المصرى، وواجهت مقاومة شرسة من المستوطنات الإسرائيلية المتناثرة. أما الفيلق الأردنى فقد نجح فى حصار القدس والسيطرة على موقع «اللطرون» الحصين. فى الجولات التالية سوف ينقلب الميزان تماما.

 

●●●

 

نعود إلى المذكرة، وهى عبارة عن رسالة رسمية موجهة من القانونى النابغة والسياسى البارز ــ مستشار الدولة الشاب وقتها ــ د. وحيد رأفت إلى صاحب المعالى وزير الخارجية، وصورة منها إلى رئيس مجلس الوزراء. يقول رأفت فى مفتتح رسالته: «أود أن أوجه النظر إلى النتائج الكبرى الخطيرة التى ستؤدى إليها حتما السياسة التى نسير عليها الآن التى كان من مظاهرها الأخيرة رفض المقترحات التى تقدم بها وسيط الأمم المتحدة لحل مشكلة فلسطين ثم رفض تمديد الهدنة الذى طلبه لمواصلة جهوده لإيجاد حل سلمى لهذه القضية. ولم تكن مقترحات الوسيط لحل مشكلة فلسطين بالنهائية إذ ذكر هو نفسه أنه لم يقصد بها إلا جس النبض. ولا يستطيع منصف أن ينكر أن المقترحات المذكورة فى مجموعها، وبالرغم من عيوبها تظل أفضل من مشروع التقسيم، الذى يُخيل إلى أننا سنرغم على قبوله فى نهاية الأمر. فالدولة اليهودية قد أُنشئت فى فلسطين واعترفت بها أكبر الدول نفوذا وسلطانا وتبادلت معها نوعا من التمثيل الدبلوماسى، وفتحت لها الولايات المتحدة القروض، وهى مصممة على الوقوف بجانبها ضد كل محاولة من جانب العرب ترمى إلى القضاء على كيانها.

 

إنكارنا للأمر الواقع لا يغير منه شيئا، فالحكمة والحالة هذه تقتضينا توجيه جهودنا إلى ناحية عملية.. بحصر هذه الدولة النكودة فى أضيق الحدود الجغرافية الممكنة. ولو تم ذلك لكان نصرا دبلوماسيا كبيرا لنا. أما اقتفاء أثر العناصر المتطرفة من رجال الجامعة العربية والتمسك إلى النهاية بوحدة فلسطين السياسية، تلك الوحدة التى لم يعد لها وجود، فلن يؤدى إلا إلى الزج بنا فى أتون حرب لن توصلنا إلى أى نصر. حربى كان أم سياسى».

 

●●●

 

انتهى الجزء الأول من مذكرة وحيد رأفت التى تكشف عن حقيقة مذهلة: التيار الذى كان يعارض دخول مصر (الزج بها بتعبير المذكرة) فى حرب 1948 لم يكن ينحصر فى بعض السياسيين، مثل إسماعيل صدقى ومحمود فهمى النقراشى، وإنما كان يمتد إلى بعض الخبراء والمسئولين الأصغر. وكان هذا التيار يرى إمكانية التوصل إلى «حل سلمى» للقضية عبر التعايش مع الدولة اليهودية والقبول بالتقسيم، الذى يقول رأفت إنه لا مناص منه (بعد أن تضع الحرب أوزارها سيصبح التقسيم حلما بعيد المنال). الأكثر من ذلك، أن رأفت يكشف فى مذكرته عن إدراك مبكر جدا، ومبهر فى استشرافه، للخيوط المتينة التى تربط القضية اليهودية ـ الفلسطينية بصراعات القوى على الساحة الدولية، وعلاقة ذلك بتوازن القوى ومعادلة السلاح على الأرض. ويظهر ذلك بصورة أوضح فى الجزء التالى من المذكرة، حيث يقول: «سنستأنف القتال بعد هدنة امتدت أربعة أسابيع استغل العدو كل لحظة فيها لتنظيم أموره وتوطيد أركان دولته المزعومة وتقوية مركزه العسكرى على حساب الجيوش العربية. ولا يخفى على أحد أنه انتهز فرصة الهدنة لعقد صفقات عديدة فى الخارج فى أمريكا وغيرها لشراء الطائرات والأسلحة بجميع أنواعها. فى الوقت الذى كانت توضع فيه أمام مندوبينا الذين سافروا لنفس الغرض شتى العراقيل تارة باسم معاهدات الصلح، وتارة بحجة الهدنة وحظر إرسال السلاح إلى الدول العربية. ويكاد يكون من المؤكد أن العدو سيستلم ما تعاقد عليه من أسلحة وعتاد بمجرد انتهاء الهدنة واستئناف القتال، عن طريق الجو والبحر. وليست لدينا مع شديد الأسف وحدات بحرية تستطيع التصدى لسفنه».

 

وغنى عن البيان أن نبوءة رأفت تحققت بالحرف الواحد. ويقول «إسحاق رابين» ـ القائد بالهجانة ورئيس الوزراء فيما بعد أنه «بدون الأسلحة التى حصلنا عليها من تشيكسلوفيكيا خلال الهدنة لكان من المشكوك فيه بشدة أن نستطيع مواصلة القتال».

 

●●●

 

حتى هذا الجزء من المذكرة، فإن كلام رأفت لا يخرج عن كونه تقديرا سليما للموقف، إلا أن الجزء الأخير ينطوى على رؤية سياسية ــ استراتيجية محددة، إذ يرى أن نتيجة الحرب لن تخرج ــ على أحسن الفروض ــ عن التعادل مع اليهود، وهو ما سيزيدهم عنادا وزهوا بعد نجاحهم، وهم عصابات لدولة ناشئة، فى التعادل مع جيوش نظامية لست دول عربية عتيدة. أو أن تنتهى الحرب بانتصارنا على اليهود «وهنا ستتدخل روسيا أو أمريكا، أو كلاهما، لمنعنا من جنى ثمار انتصاراتنا وردنا على أعقابنا إلى ديارنا، كما فعلت الدول (الأوروبية) مع محمد على باشا منذ قرن من الزمان».

 

ويختم رأفت مذكرته قائلا: «الإرادة التى سوف تسود فى النهاية وتملى وتتحكم ليست إرادتنا. وهذا يكفى وحده للتساؤل عن الفائدة العملية التى ستعود علينا من متابعة القتال فى مثل هذه الظروف. هذا القتال الذى سيكلفنا، دون نتيجة ما، أرواحا كثيرة عزيزة وعتادا وذخيرة ونفقات باهظة سوف تظل عبئا ثقيلا على ميزانيتنا أعواما عديدة مقبلة، فتحد من برامج الإصلاح بل ومن رغبتنا الاجماعية فى النهوض بجيشنا الناشئ إلى المستوى العالى الذى نرجوه له. إن الوقت الآن ليس، كما يظن البعض، للسيف والمدفع بل للسياسة والدبلوماسية. ولا شك أن قبول الأمر الواقع ما دمنا لا نستطيع رده خير من الجرى وراء خيال المبادئ التى قد تلقى بنا إلى التهلكة..

 

هذه ملاحظاتى أبديها لمعاليكم كتابة، وأنا على يقين من أنها لن تغير من رأيكم شيئا ولكن تقديرى لتبعات المركز الذى أشغله الآن تحملنى على أن أصارحكم بها.. وتفضلوا معاليكم بقبول فائق الاحترام. إمضاء: مستشار الدولة.. التاريخ: 7 يوليو 1948».

 

●●●

 

انتهت الرسالة ــ النبوءة، وتبقى الأسئلة: لماذا كان رأفت على يقين من أن ملاحظاته الثاقبة لن تغير من رأى وزير الخارجية شيئا؟.. وكم «وحيد رأفت» منسى فى مؤسساتنا؟ كم رأى مثل هذا لم يظهر ولم نعرف به لصالح سيادة الرأى الواحد والفكر الواحد؟ وكيف نضمن ألا ننزلق مجددا إلى معارك خاسرة يجرنا إليها أصحاب الصوت الأعلى؟ كم غير وحيد رأفت ــ فى كل موقع ــ رأوا الكوارث آتية فصمتوا إيثارا للسلامة وتماشيا مع الجماعة؟. هذه أسئلة تلح علينا من جديد فى ذكرى النكبة التى مازالت تعيش معنا وفينا. أما هذه الرسالة فهى تذكرنا أنه كان هنالك من رأى.. ولم يصمت



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك