حلقات من كتاب عبد الله السناوى.. «أحاديث برقاش.. هيكل بلا حواجز»: وديعة هيكل «1 - 10» - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 5:01 م القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

يصدر عن دار الشروق قريبا..

حلقات من كتاب عبد الله السناوى.. «أحاديث برقاش.. هيكل بلا حواجز»: وديعة هيكل «1 - 10»


نشر في: الجمعة 17 فبراير 2017 - 10:34 ص | آخر تحديث: الجمعة 17 فبراير 2017 - 10:34 ص

- أوصى أن يوضع على قبره مسجل بصوت الشيخ رفعت يتلو آيات من الذكر الحكيم.. وقال: «لو أن صوتًا لا يتقن التلاوة أو به نشاز قرأ القرآن على قبرى فإننى قد أموت فيها»
- كان على عادته حتى وهو على فراش المرض يريد أن يسمع ويريد أن يحاور حتى النفس الأخير
- أراد أن يرحل على الصورة التى حرص عليها طوال حياته ورسم بدأب أدق تفاصيلها
- لم يكن يريد أن تكون نهايته كـ«تشرشل» رجلًا يثير الشفقة وبدا أقرب إلى تفكير صديقه «ميتران» رجلًا يقرر ألا يعاند الطبيعة
- معنى الحياة عنده أن يتابع حركة الأحداث وما خلفها ويقرأ المستقبل وما قد يحدث فيه
فى يومين عاصفين، أحدهما بكتل النار والآخر بغضب الطبيعة، فارقت الحوادث ما كان يجده فى «برقاش» من سكينة يأنس إليها وألفة اعتادها لعقود طويلة.
لكل يوم قصة أقرب إلى التراجيديات الإغريقية حين تداهم المآسى أصحابها بغير انتظار ولا يملكون صدها.
اليوم الأول، (14) أغسطس (2013) بعد فض اعتصامى «رابعة العدوية» و«النهضة» بساعات.
واليوم الثانى، (7) يناير (2016) قبل رحيله بأسابيع.
مستعيدا بيت شعر «أبى فراس الحمدانى» عن الشوق، الذى «لا يذاع له سر»، جاء صوته من الشاطئ الإيطالى فى «سردينيا»: «أنا قادم إليكم غدا».
كان ذلك قبل فض الاعتصامين.
بدا فى صوته شوق قلق لا شوق اطمئنان على مصر وأهلها، ونذر الصدام تتجمع فى الأفق السياسى، كأنها دقات «القدر» فى سيمفونية «بيتهوفن» الشهيرة.
كانت أنباء وصلته عن حملة تحريض تستعدى بقوائم سوداء ضمت اسمه وكلام عن أدوار قام بها، أو وساطات تولاها بين الفرقاء، بينما كان بعيدا يقضى إجازته الصيفية.
سألته فيما يشبه الإلحاح أن يتمهل بعض الوقت قبل الوصول إلى القاهرة ويدير دفة عودته إلى اتجاه آخر عند الساحل الشمالى بالقرب من الإسكندرية.. فـ«عند انفلات الأعصاب لا أحد بوسعه أن يتوقع ما قد يحدث».
كعادته أخذ وقته فى التفكير قبل أن يستقر قراره على أنه من الأوفق أن يكون قريبا من الأحداث يتابعها من الساحل الشمالى بعيدا عن العاصمة وكمائن الخطر فيها.
فى تلك اللحظة، التى بدت خيارا اعتياديا بين طريقى سفر، حفظ الله حياته.. فقد كان تخطيطه الأصلى أن يصل القاهرة يوم الإثنين (12) أغسطس، وأن يقضى الثلاثاء كاملا فى لقاءات مع مقربين وأصدقاء قبل أن يتوجه فى اليوم التالى إلى بيته الريفى بـ«برقاش» على ترعة المنصورية.
فى صباح الأربعاء (14) أغسطس بدأ فض الاعتصامين.
قرب الظهيرة اقتحمت مجموعات مسلحة الباب الرئيسى لبيته، الذى لا يوجد عليه ما يشير إلى صاحبه، بعد أن أحرقت بزجاجات المولوتوف حديقته الأمامية.
أخذت تدمر كل ما فيه من أثاث ولوحات وذكريات، أحرقت حدائقه بأشجارها ونباتاتها، واستحال البيت أطلالا تساقطت جدرانه بتفجيرات أنابيب غاز.
لم تكن هناك شرطة تردع، فمقراتها تعرضت لاعتداءات فى موجة عنف شملت دور عبادة وعدالة ومنشآت عامة ومبانى حكومية.
وسط أطلال الحرائق أبت صخور أحضرها إليه العالم الجيولوجى الدكتور «رشدى سعيد» على التدمير، بعضها من الصحراء الشرقية، وبعضها الآخر من أرض السد العالى، وظلت شاهدة على ذاكرة المكان.
«أول ضربات الكوارث أن الكتلة الرئيسية من الكتب النادرة والوثائق التاريخية، التى لا سبيل لتعويضها راحت» ــ على ما قال واصفا النتائج المروعة.
فى التعبير نفس تراجيدى تكرر فى اليوم الثانى، حيث سادت القاهرة عواصف متربة منذ ساعاته الأولى.
كنت أعرف أنه سوف يذهب إلى «برقاش» فى صباح هذا اليوم.
رجوته أن يؤجل زيارته لوقت آخر خشية أن يتعرض لنزلة برد فى جوها المفتوح.
كانت الساعة التاسعة صباحا.
قال ضاحكا:
«أنا الآن على مقربة من القرية الذكية وبعد دقائق سوف أكون فى برقاش».
وكانت برفقته السيدة قرينته.
فى المساء أخبرنى:
«كان عندك حق، فالطقس سيئ للغاية».
بعد ساعات انتابته أزمة فى الرئة استدعت نقله إلى أحد مستشفيات مدينة أكتوبر.
لم يكن مرتاحا للبقاء فى المستشفى، وطلب العودة إلى منزله فى الجيزة.
غير أن مصاعب صحية استدعت نقله مجددا لمستشفى آخر فى حى الدقى.
مرة ثانية طلب سرعة العودة للمنزل.
مانع فى أى فكرة لعودة ثالثة إلى أى مستشفى.
مانع بصورة مطلقة لم يكن ممكنا المساجلة فيها.
بدا متأهبا نفسيا للرحيل.
أراد أن يموت على سريره، أن يواجه قدره بلا وسائل اصطناعية للحياة.
لم يكن يريد أن تكون نهايته كـ«ونستون تشرشل»، الزعيم البريطانى الذى قاد بلاده إلى النصر فى الحرب العالمية الثانية، رجلا يثير الشفقة على ما وصل إليه بأثر تقدم العمر وأمراضه.
بدا أقرب إلى تفكير صديقه «فرانسوا ميتران»، الرئيس الفرنسى الاشتراكى الذى حكم بلاده أربعة عشر عاما متصلة، رجلا يقرر ألا يعاند الطبيعة عندما تعجز طاقته وتفتر همته.

(١)

وهو على سرير المرض الشديد حاول أن يستدعى أسلحته التقليدية فى مقاومته.
معنى الحياة عنده أن يتابع حركة الأحداث وما خلفها، ويقرأ المستقبل وما قد يحدث فيه.
بادرنى بسؤال واحد: «قل لى ما الذى يحدث؟».
جلست على مقعد بجوار سريره أروى وأتحدث، وهو نصف ممدد منتبه للمعانى من وراء الأخبار ولا يخفى قلقه على مستقبل البلد ومصيره.
كانت الجلسة الأولى لمجلس النواب الجديد محبطة بما جرى فيها من تجاوزات فادحة وانفلاتات لسان ضد أية قيم أخلاقية ودستورية بصورة فاقت أية توقعات ومخاوف.
بصوت متعب قال: «مش معقول».
على مقربة من سريره كتب غربية صدرت حديثا كان قد بدأ فى قراءتها، وبعض الجرائد اليومية المصرية، وشاشة التليفزيون مفتوحة على محطة الـ«C.N.N» الأمريكية الإخبارية.
فى غرفة نومه تبدت شخصيته، فكل شىء بسيط وذوقه خاص واللون الأبيض سيد المكان.
من حين لآخر تدخل السيدة قرينته «هدايت تيمور» تطمئن على تناوله الدواء وتسأل عما إذا كان هناك شىء يطلبه.
قلت: «إنها ملاكك الحارس يا أستاذ محمد».
(لم أكن عادة أخاطبه باسمه العائلى الذى اشتهر به فى الحياة العامة.. فيما بيننا هو الأستاذ محمد وأمام الآخرين فهو الأستاذ هيكل).
كانت تخشى من إنهاك الحديث، وهو يريد أن يدقق فى المعلومات، يسأل فى الخلفيات ويستقصى الأبعاد.
لم يكن بوسعه، وهو على ذلك الحال، أن يتذكر ما كتبه عن لقاء أخير مع الزعيم الهندى التاريخى «جواهر لال نهرو»: «كان على عادته، حتى وهو على فراش المرض، يريد أن يسمع ويريد أن يحاور».
كان هو نفس الرجل، يريد أن يسمع ويريد أن يحاور حتى النفس الأخير.
استأذنته أن الوقت حان للتفكير فى «تنظيم الطاقة الإنسانية».
أن يتخفف من بعض الأعباء واللقاءات وشواغل العمل اليومى دون أن يغيب عن الساحة وإبداء الرأى فيما يجرى عليها من تفاعلات وحوادث.
لم أشر إلى معاناته فى علاج الفشل الكلوى، الذى ألم به قبل الرحيل، ولا لما يستنزفه العلاج من طاقة العمل التى اعتادها.
علت ابتسامة خفيفة على وجهه المتعب: «لماذا التنظيم؟».. «سوف أمتنع عن أى نشاط وكل حضور حفاظا على صورتى».
قبل آخر إطلالة تليفزيونية على شبكة (cbc) قرب نهاية (٢٠١٥) لم يكن متحمسا لأى حديث جديد.
تساءل: «ألم يحن الوقت للتوقف النهائى عن مثل هذه الحوارات؟».
بدا أن هناك شيئا ما يضايقه لكنه لم يفصح عنه، أراد أن ينسحب بهدوء من المجال العام كله.
قلت: «أرجوك ألا تفعل ذلك، طالما أعطاك الله الصحة والهمة فلا تتوقف».
سأل مرة أخرى: «لماذا؟».
قلت: «معنى الحياة».
ردد الجملة مرتين، ثم صمت كأنه فى حوار داخلى لا شأن له بما حوله.
فى مرضه الأخير اتصل به الرئيس «عبدالفتاح السيسى» لمرات عديدة كلما كان بقدرة «الأستاذ» أن يتحدث.
طلب نقله إلى المركز الطبى العالمى على طريق الإسماعيلية لتلقى العلاج.
وهو لم يكن يريد أى علاج على نفقة الدولة، أو فى أحد مستشفياتها.
بذات القدر فإنه لم يكن يريد أن تكون جنازته عسكرية على ما أخبر الرئيس فى لقاء ضمهما فى قصر «الاتحادية» قبل أن يداهمه المرض الأخير.
قال بما هو نصه: «أنت لا تملك لى إلا أن تأمر بجنازة عسكرية، وأنا لا أريد مثل هذه الجنازات».
قبل أن يداهمه المرض بيوم واحد استنكر بكل وجدانه ما بث على إحدى الفضائيات من أنه اخترع زعيم ثورة يوليو، ولم يأبه بكلام آخر على نفس الفضائية يستعجل رحيله هو.
قال: «جمال عبدالناصر؟!».
أردف استنكاره ببيت شعر، وهو رجل يحفظ الشعر ويستدعيه فى كل مقام: «هانت حتى بالت عليها الثعالب».
قرب النهاية تبدت كبرياؤه الإنسانية على الرغم من شدة المرض، أراد أن يعتمد على نفسه ولا يطلب مساعدة من أحد، لا يشتكى ويواجه قدره رافعا رأسه.
بعد طول ممانعة تقبل مساعدتى فى تناول كوب ماء على «كومودينو» بجوار سريره لم يستطع من فرط التعب الوصول إليه.
أراد أن يرحل على الصورة التى حرص عليها طوال حياته ورسم بدأب أدق تفاصيلها.

(2)

كتب وصيته فى ثمانى صفحات وديعة مغلقة عند رفيقة حياته.
كان قد انتهى من كتابتها قبل أن يدلف إلى عامه السابع والسبعين فى (23) سبتمبر عام (2000).
ربما يكون قد أدخل عليها تعديلات فيما بعد.
قال: «لنكن واقعيين، بعدد السنين فأنا قرب النهاية ومستقبلى ورائى».
بحسب ما جرى فى ست عشرة سنة تالية لم يكن ذلك صحيحا، فمستقبله كان أمامه، ومد الله فى عمره ومنحه الهمة ليؤثر فى حركة الحوادث بحضور الأفكار لا نفوذ السلطة.
غلبت قوة الحياة روح الوصية.
فيما أودع بوصيته نعيا مقتضبا وبسيطا كتبه بنفسه، بلا أى ادعاء ولا مبالغة، لينشر فى صفحات الوفيات بجريدة «الأهرام» عند رحيله.
تعامل مع نفسه كواحد من عامة الناس، فمن يدرى كيف تكون الظروف السياسية عند رحيله؟
كما أوصى أن يوضع على قبره مسجل بصوت الشيخ «محمد رفعت» يتلو آيات من الذكر الحكيم، الذى يحفظه عن ظهر قلب منذ أن كان صبيا صغيرا، ويرى فى صوت الشيخ الجليل نفحة من السماء.
قال: «لو أن صوتا لا يتقن التلاوة أو به نشاز قرأ القرآن على قبرى فإننى قد أموت فيها».
التفت إلى المفارقة التى لم يكن يقصدها وعلت ابتسامة على وجهه بددت كآبة الحديث عن الموت.
لم يتوقع أحد أن يوصى بالصلاة على جثمانه فى مسجد «الحسين» حتى فتحت وصيته.
فى اختيار المسجد نزعة صوفية على الرغم من ثقافته المدنية.
وفى اختيار الحى انحياز لعراقة التاريخ والمكان الذى ولد فيه.
من مفارقات الحياة والموت أنه على مدى النظر من المكان، الذى دفن فيه، مقابر أخرى لجنود دول الكومنولث، التى حاربت تحت العلم البريطانى فى الحرب العالمية الثانية، فقد كانت بدايته المهنية تغطية وقائع المواجهات العسكرية فى صحراء العلمين عام (١٩٤٢) لـ«الإيجيبشيان جازيت» أول صحيفة عمل بها.
فيما تضمنته وصيته ألا يقام له عزاء فى دار مناسبات.
راجعته فيما استقر عليه رأيه لمرات عديدة على مدى سنوات.
قلت: «ليس من حقك يا أستاذ محمد أيا ما تكون أسبابك أن تصادر المشاعر الطبيعية عندما يحين الفراق، أو أن تحجب حق أسرتك فى التعزى».
لم يعلق مرة واحدة، وترك ذلك ــ على الرغم من نص الوصية ــ لتقدير أسرته والظروف التى تطرأ.
قرب النهاية لم يأبه بالقيود المفروضة على حركته بعد عملية جراحية فى عنق فخذه اليمنى إثر سقوط من فوق درج فى «الغردقة» أثناء إجازة عيد أضحى.
طلبت قرينته ألا يقترب منه أحد حتى تأتى سيارة إسعاف تنقله لأقرب مستشفى، خشية أن تؤدى أية حركة خاطئة لمضاعفات لا يمكن السيطرة عليها.
حاول بقدر ما يستطيع أن تمضى الحياة على وتيرتها السابقة رغم مصاعب الحركة بـ«الووكرز»، الذى استعان به حتى يأمن أية مفاجآت.
كان واضحا أمام نفسه قبل الآخرين وهو يقول: «لا يهمنى إن ظهرت صورى وأنا أمشى بالووكرز».
تمنيت عليه أن أراه واقفا على قدميه، أن يتحرك بحرية ويذهب إلى حيث يشاء دون أية وسائل مساعدة.
قال: «أنا أستطيع الآن، لكن لا تنس إننى فى سن السقوط فيه محتمل بأية لحظة ولأى سبب طارئ».
كان اعتقاده أنه مادام يجلس على مكتبه، يقرأ ويعمل ويحاور ويساهم فى السجال العام وتخفيف أعباء التحول إلى المستقبل، فإنه لا شىء يهم.
فى تلك الظروف خطر له أن يطل على الأندلس بعد ثلاثين سنة من آخر زيارة وذكرياته فيها لا تغادر مخيلته.
كانت أجراس الزمن تدق فى المكان مرحبة باقتراب عام (2016).
بدا مسحورا بجمال الأندلس وإرثه الحضارى كأنه يراه لأول مرة.
فى كل مكان أثر جليل من تاريخ أمة عريقة ارتبكت هويتها وضاعت بوصلتها وجرفت نظرية أمنها القومى.
هل كانت مصادفة أن يختار الأندلس رحلة أخيرة؟
فكر فى اليونان وأماكن أخرى لكن شيئا ما دعاه إلى الأندلس، كأنها رحلة وداع لكل معنى أهدرناه.
من وداع فى الأندلس إلى الوداع فى القاهرة تداعى كالجبال فى أيام قليلة.
عندما بدأت نذر النهاية اتصلت بى السيدة قرينته قائلة: «الأستاذ هيكل طلب أن يراك مرتين لكن حالته لا تسمح بأى لقاء.. أردت أن أقول لك ذلك حتى أبرئ ذمتى أمام الله وأمامه».
لم أكن أعرف وأنا أنحنى على جبينه مقبلا، وهو على سرير مرضه الشديد، أنه اللقاء الأخير.

(3)

عندما بلغ الثمانين من عمره عام (2003) كشف فى مقاله الأشهر «استئذان فى الانصراف» أن «السرطان» قد زاره.
وكانت تلك شجاعة اعتراف أمام الرأى العام.
زيارة «السرطان» استدعت تدخلا جراحيا خريف (1999) فى «كليفلاند كلينك» بالولايات المتحدة استؤصلت فيها كلية وحالب وقمة المثانة على الجانب الأيسر.
فى فبراير (2008) زاره «السرطان» مرة أخرى أثناء إجازة عيد أضحى فى الغردقة.
من المفارقات أن المكان نفسه ــ الغردقة، فى المناسبة نفسها ــ إجازة عيد أضحى، شهد واقعة السقوط من فوق درج بعد ست سنوات.
بدأت الأزمة بظواهر قصور فى الدورة الدموية «كدت أروح فيها» ــ على ما قال لى مساء ذات اليوم الذى عاد فيه إلى القاهرة قاطعا إجازته فى الغردقة.
طال الحديث فى صالون بيته بأكثر مما تحتمل حالته الصحية، حتى دخل «عبدالمنعم» ساعيه الخاص برسالة قرأها مبتسما ووضعها أمامى.
كانت قرينته تدرك أن مثل تلك الأحاديث فى الصحافة والسياسة تساعده على مقاومة المرض، وتدرك فى الوقت نفسه أن طول مدتها يؤثر على صحته.
بكلمتين لخصت الموقف الصعب بين ما يهوى وما يضر: «محمد.. لقد وعدتنى».
ثم كان رأيه بعد التحكم فى الأزمة أن ينتظر قدوم الربيع للسفر للولايات المتحدة لإجراء فحوص أخرى، ومقابلة طبيبه المعالج فى «بوسطن»، غير أن ذلك الطبيب أبلغه أنه مستعد للقائه الآن، وإذا لم يكن ذلك ممكنا فإن الموعد سوف يتأجل إلى مايو، وهكذا كان القرار إجباريا.. السفر الآن.
فى «بوسطن» تردد يوميا على أحد مستشفياتها لكنه لم يضطر إلى المبيت فيها يوما واحدا.
وقد استبقاه الأطباء، وهو يتأهب للعودة، لإجراء اختبار إضافى للحساسية والتأكد من سلامة الفحوص الأخيرة.
كلما كان بوسعه أن يتحدث فالأحوال المصرية هى شاغله الأول.
عندما أخضع لتدخل جراحى بالأذن فى أحد مستشفيات مدينة «فرايبرج» الألمانية فى مارس (2009) بادر فور تعافيه النسبى بالسؤال عما يحدث فى مصر خشية أن يكون فاته حدث جوهرى، أو تطور طارئ.
لم يكن يميل للإفراط فى المجاملات ولا المراثى.
أين القيمة؟
ذلك سؤاله وتلك أولويته.
الإفراط بغير منطق يأخذ من المعنى حرمته ومن الكلام احترامه.
أحد مصادر قوته أن الماضى لم يكن يقيد نظرته إلى المستقبل.
«لا يمكن أن تنظر إلى المستقبل وتفكيرك مقيد بالماضى».
«للماضى أهميته بقدر ما يشير إلى معنى لا يصح إهداره وخطأ لا يجوز تكراره».
«عزيزى عبدالله..
دعنى أصارحك بأمانة أن مأزق مصر الراهنة ومن جميع الاتجاهات السياسية الظاهرة ــ أن الجميع فيها يحاربون معارك أزمنة مضت ــ بعضها فيه ما يستحق طول الذكر، وبعضها الآخر فيه ما يستحق سرعة النسيان، وبعضها ترك مبادئ أساسية لها قيمتها واحترامها، لكنه من الضرورى أن يختلف تعبيرها عن نفسها بحركة الحقائق والظروف. والمشكلة أن الكل منهمك فى حروب الماضى، مقبل عليها كطلقات رصاص من فوهة سلاح مصوب لسوء الحظ إلى وراء وكان يجب أن يكون إلى أمام» ــ ديسمبر (2000).
من هذا المنظور حاور أكثر من أى أحد آخر فى هذا البلد الأجيال الجديدة.
كل الأسماء التى برزت بعد «يناير» وأثناء «يونيو» التقته فى مكتبه.
استمع بلا وصاية لأحلام تولد وأفكار تبحث عن تجربتها، أراد أن يرى الصورة التى يمكن أن يكون عليها المستقبل بعده.
قبل أن يدخل فى تعقيدات المرض الأخير طلب من الرئيس الإفراج عن الشباب الموقوفين وفق قانون التظاهر.
فى الطلب انحياز إلى المستقبل ودعوة إلى فتح صفحة جديدة لا تحجب حركة إلى الأمام.
إرث«هيكل» ــ هنا بالضبط ــ فى اتساع نظرته إلى المستقبل، وفيما خلفه وراءه من رؤى فى الأمن القومى والفكر السياسى والتأريخ للصراع على مصائر المنطقة، هو نفسه لخص تجربته بـ«عمر من الكتب».
وديعته فى كتبه وإرثه فى مدرسته.
لم يكتب سيرة ذاتية، ولا كان واردا فى تفكيره أن يكتبها، فكل ما أراد أن يتركه أشار إليه فى كتاباته وكتبه، أو أودعه على شرائط مسجلة بثتها محطة «الجزيرة» فى برنامجه «سيرة حياة»، ونصوصها فُرغت على ورق وضبطت صياغتها لتكون صالحة للنشر، وقد راجعها بنفسه.
على عكس ما اعتقد كثيرون أنه سوف يخلف وراءه سيرة مكتوبة بأسلوبه لـ«جمال عبدالناصر» ــ فإنه كان على يقين طوال الوقت بأن هناك قضية واحدة تستحق أن تترك وديعة عند أصحاب الحق فى المستقبل، أن يعرفوا ماذا جرى فى مصر وحولها، وأين كانت معاركها ولماذا يراد أن تتكرس فيها ثقافة الهزيمة؟
قبل رحيله بثلاث سنوات عرضت عليه دار«هاربر كولينز» البريطانية، التى تتولى نشر الطبعات الدولية من كتبه، أن يكتب كتابا جديدا عن «الربيع العربى» مقابل مليون جنيه إسترلينى.
شرع فى زيارات خارجية ابتدأها بلبنان للحصول على وثائق يؤكد بها روايته للحوادث العاصفة التى جرت، وكان لديه ما يقوله جديدا وموثقا.
أثناء تلك الزيارة ظن الإعلام العربى كله أنه قدم إلى بيروت للتوفيق بين الفرقاء اللبنانيين حيث التقى رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ورئيس المجلس النيابى وقادة التيارات والأحزاب الرئيسية بلا استثناء تقريبا.
سألنى: «ما رأيك؟».
قلت: «إن الكتاب سوف يستغرق وقتا طويلا وجهدا مضنيا وزيارات إلى عواصم بحثا عن وثائق ولقاءات مع مصادر تستقصى خلفيات ضرورية لفهم ما جرى، وذلك كله مرهق وسوف يعطل حضورك العام فى لحظة تحول مصيرية».
قال: «هذا أيضا رأى هدايت» ــ قاصدا السيدة قرينته التى خشيت عليه من أى جهد زائد.
«لا أعرف كيف يمكن للأجيال السابقة واللاحقة أن تعرف كثيرا من الحقائق التى حجبت، أو أخفيت عمدا، أو نتيجة عدم الاكتراث، لولا ما نشره هيكل؟!».
.. هكذا كتب الأستاذ «سلامة أحمد سلامة»، الذى تميز بعقلانيته وموضوعيته فى الاقتراب من الظواهر السياسية، وقد كان «هيكل» ظاهرة فريدة يصعب كتابة تاريخ مصر المعاصر دون التطرق إليها والتوقف عندها، فقد كان دائما هناك حيث التاريخ يتحرك.



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك