«الشروق» تكشف العالم السري للباعة الجائلين - بوابة الشروق
الأربعاء 8 مايو 2024 4:22 م القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«الشروق» تكشف العالم السري للباعة الجائلين

تصوير :علي هزاع
تصوير :علي هزاع
تحقيق ـ خالد فؤاد وأحمد عدلى
نشر في: الأربعاء 17 سبتمبر 2014 - 10:41 ص | آخر تحديث: الخميس 18 سبتمبر 2014 - 12:59 م

بين يوم وليلة، أصبحت معارك الحكومة البسيطة مع الباعة الجائلين حربًا لا رجوع فيها، تسعى الدولة ممثلة فى أجهزتها التنفيذية لفرض «هيبيتها»، بإقصاء الباعة عن الشوارع الرئيسية فى القاهرة الكبرى، بينما يسعى الباعة لفرض الأمر الواقع بافتراش الأرصفة واحتكار شوارع وسط البلد لحسابهم، تحت عنوان عريض هو «البحث عن الرزق».

ووسط المعارك الدائرة بين الطرفين، سعت «الشروق» للكشف عن كل ما يثار عن الباعة الجائلين وإجراء تحقيق ميداني، يرصد عالم الباعة الجائلين في شوارعهم؛ من يديرهم ويقف وراءهم، والبلطجية الذين يحمونهم، ولماذا يفضلون البقاء مطاردين في الشوارع، دون الرضا بالأماكن البديلة التي وفرتها الحكومة لهم سواء في منطقة الترجمان أو فيما بعد في أرض وابور الثلج.

«الشروق» اخترقت العالم السري للباعة الجائلين، بعد معايشة دامت أربعة أيام في الأماكن الحيوية بالعاصمة، رمسيس، والجيزة، والمناطق المحيطة بوزارة الداخلية و«أمام مترو سعد زغلول»، ومنطقة دوران شبرا، والعتبة، رصدت خلالها كيف يدار هذا العالم، وشروط الانضمام إليهم، بعد أن اتفق محررا التحقيق على التخفى فى صورة باعة جائلين، ليعرفا «سر الصنعة» المنظمة لكل منطقة، وشروط العمل بها، والوقوف على حقيقة أنصار التيارات الموصوفة بـ«الإسلامية» بكونها تمول الباعة بهدف إشعال الفوضى فى القاهرة الكبرى، فاشترى المحرران لوحًا خشبيًا من أحد البائعين، وبضاعة عبارة عن «شباشب رجالى وحريمى»، وافترشا أراضى الميادين والشوارع. فكان هذا التحقيق..

رمسيس..الإتاوة مقابل الحماية يوميَّا.. وقسم الأزبكية لا يتحرك

فى ميدان رمسيس، يندر أن تجد مكانًا خاليًا من الباعة الجائلين: على الأرصفة، فى الممرات، حتى أمام سلالم المترو وبوابات محطة القطار وسيارات الأجرة للوجه البحرى التى تقف فى قلب الميدان.

لا تتوقف حركة البيع والشراء فى الميدان على مدار الساعة، تنشط من الظهيرة وحتى بعد منتصف الليل معتمدة على الوافدين إلى أشهر ميادين القاهرة من المحافظات المختلفة، بينما يضم الميدان بائعين يحملون كل الأصناف بداية من إبر الخياطة وحتى الملابس والأحذية ومستلزمات المنزل.

فى الرصيف المواجه لمسجد الفتح يقف عدد كبير من البائعين كثير منهم ينتمون إلى عائلة «المنياوى»، يسيطرون على المكان بشكل شبه كامل، ولا يسمح للغرباء بالتواجد بينهم تحت أى ظرف.

على الصندوق الصغير الذى يفترشه كل بائع يتم كتابة اسم صاحبه عليه مع وضع علامات خاصة بخلاف الاسم، ما بين مسمار تم وضعه فى مكان محدد أو قطعة حديدة صغيرة أو قطعة خشب مكسورة بينما يلاحظ البائعون حركة حمل الصناديق وتحريكها باستمرار.

من أحد البائعات الطاعنات فى السن اشترى محررا «الشروق» عددًا كبيرًا من «الشباشب»، وصندوقًا لعرض البضاعة مقابل رهن 50 جنيهًا، رغم أنه يتكون من قطعة خشب قديمة ومتهالكة مليئة بالمسامير.

انطلق كاتبا هذه السطور بحثا عن مكان لفرش البضاعة أمام بنك مصر على الجانب المواجه لمسجد الفتح، لكن هذه المحاولة باءت بالفشل لوجود عدد كبير من البائعين الذين يبيعون بضائع مماثلة، وطلب البائعون التوجه إلى مكان آخر من أجل وضع البضاعة.

تعتمد المنطقة فى خريطتها بين البائعين على الطابع العائلى خاصة لأبناء محافظة المنيا، فغالبية البائعين إما أتوا من الصعيد أو أصولهم من هناك، قسموا أنفسهم للحصول على المزيد من المحال حال نقلهم على غرار ما حدث مع بائعى وسط البلد، فيما يسجل كل منهما صندوق واحد باعتباره فرشة خاصة به، بينما تقف كل عائلة على فرشة واحدة مكونة من عدة صناديق.

أسفل وصلة كوبرى أكتوبر، تمكنا من وضع البضاعة على الرصيف على بعد أمتار قليلة من قسم الأزبكية.

وعلى مدى اليوم بالكامل، لم يأت أحد من مسئولى القسم أو أمناء الشرطة أو العساكر لاعتراض الباعة، أو لاعتراض افتراشنا الأرض وسط الطريق، وبدأ البائعون فى الاستفسار عن هويتنا بعد جلوسنا ووضع البضاعة.

لم يكن من الصعب استيقاف المارة لترويج البضاعة لهم، فأغلبهم إما يلقى نظرة على البضاعة خلال مرورهم بجوار البائعين، وإما يسأل عن أشياء محددة يرغبون فى شرائها، وكان الفصال هو الأمر المشترك بين غالبيتهم.

وقت الذروة الأول بالنسبة للبائعين من الواحدة وحتى الرابعة ظهرا، ثم يليه فترة الذروة المسائية بين الخامسة مساء والثامنة، بحسب البائعين.

إلى جوار «نصبة شاى» وضعنا بضاعتنا، وبادرنا صاحب النصبة بالسؤال عن هويتنا والبضاعة التى نبيعها لينقلها إلى البائعين على الجهة الأخرى من الرصيف ويخبرهم بأننا نبيع بأسعار أقل منهم، بعدما بدأنا البيع بسعر 7.5 جنيه للقطع التى اشتريناها.

فى البداية كان لافتا حرص عدد من كبار المنطقة وهم رجال يبدون فى العقد الرابع من عمرهم ينظرون إلى البضاعة والتقليب فيها من وقت لآخر، بينما لم يتحدثوا معنا خلال الساعات الأولى من البيع فيما ظلت نظرات المراقبة عن بعد تسيطر على المشهد.

جاء محمود، وهو بائع متجول وشاب فى العشرينات، مسرعا، وعندما سأل عن السعر أبدى استياءه وغضب الباعة، وتم تهديدنا بالإجبار على الرحيل عن المكان لأننا غرباء، مشترطا أن يتم البيع بعشرة جنيهات دون تخفيض السعر لأى زبون تحت أى سبب مؤكدا أن الأسعار ثابتة لبضاعة «الشباشب البلاستيكية» بين تجار المنطقة.

تحدث محمود بانفعال: «إحنا بنجيب الحتة بـ6 جنيه، مينفعش تبيعها بـ7.5 بس، أومال التخزين والنقل والقعدة هتجيب همها منين؟ عموما أنا قدامك على الناحية التانية ولو بعت بأقل هجيب الرجالة ونخليكوا تمشوا»، وبعنا بالسعر المتفق عليه حتى نستكمل عملنا.

وعلى مدى أكثر من 10 ساعات فى ميدان رمسيس خلال يومين لم يسأل أى شخص عن هويتنا من رجال شرطة المرافق، وتبين أنهم يجوبون ميدان رمسيس كل عدة ساعات، بادعاء تنظيم حركة الشارع ووقف الإشغالات، لكن تبين أنهم لا يمارسون أى دور حقيقى إلا حين يتم شن «حملات» على الباعة بحسب الباعة الجائلين أنفسهم.

واقتصر دور رجال المرور والأمن والإشغالات على «فصال» بعضهم معنا فى سعر الشباشب لشرائها.

خلال ساعات العمل، بدا ملحوظا أن نقاش البائعين ينصب على احتمالية نقلهم إلى أماكن أخرى، فبعضهم يعتقد أن الدور سيأتى عليهم، بعد نقل باعة وسط البلد والإسعاف إلى الترجمان، والبعض الآخر يرى أن الحكومة ستعجز عن ذلك معهم، ويتساءلون عن المكان الذى يصلح فى الدويقة لينتقلوا إليه بعدما زعم أحدهم أنه عرف من مسئولى الحى بأن مكان نقلهم سيكون فيها.

أحاديث البائعين ليس لها علاقة بالسياسة، وما يحدث فى البلد، وكثير منها مرتبط بالكيف والخلافات والخناقات وأمناء الشرطة الذين يتعاملون معهم، بينما ينقل عامل الشاى سجائر المزاج المحشية بالحشيش بين البائعين ليوصل التحية كما يسمونها من بائع إلى آخر.

الحشيش يباع وسط الباعة بسهولة شديدة، لا عليك إلا أن تطلب من بائع «مدردح» أو أصحاب فرشات الشاى الكمية المطلوبة، وعليهم جلب «القرش» أو «الصباع» المطلوب مادام معك مال تدفعه حسب الكمية.

قبل بدء وضع الفرشة فى اليوم التالى عرض المعلم حمودة والذى وصف نفسه باعتباره المسئول عن العمال، سأل على عدد القطع التى لا تزال بحوزتنا من اليوم الأول بعدما علم من البائعين أننا مستجدون فى المنطقة، وعرض علينا شراء المجموعة كاملة بسعر الجملة لتوزيعها على التجار ليأكل منها «عيش».

تحدث حمودة، وهو شاب فى العشرينات تغيرت لون أسنانه نتيجة التدخين وتظهر على وجهه إصابات عديدة، قائلا: «أنا عاوز أريحكم، أنا آكل عيش وانتوا كمان».

أثار رفضنا لطلب حموده غضبه، وطلب أن نجلس فى المكان الذى نعرف أنه مناسب لنا وأن ندفع إتاوة مقابل الحماية يوميًا للمسؤول «المعلم». الإصرار على التمسك بالمكان الذى انتزعناه فى وسط الباعة بالميدان، قوبل بتهديد من حمودة بالاستيلاء على البضاعة منا، بعد أن جاء عدد من البائعين بينهم رجل تشوهت ملامح وجهه بإصابات سابقة، وأمرونا بالمغادرة أو دفع إتاوة «غصب» مقابل السماح لنا بافتراش الأرض.

كان واضحا فى حديثهم لغة التهديد، واضطررنا للرحيل، وهم يرقبونا حتى تأكدوا من مغادرتنا المكان بالبضاعة، والبحث عن مكان آخر لعرضها بعيدًا عن ميدان رمسيس.

خبير أمني: لا بد من القبض عليهم بتهم إشغال الطريق وحيازة الأسلحة

فى لهجة شديدة، شن اللواء مجدي الشاهد، الخبير الأمني، هجومًا حادًا على محافظة القاهرة، في تجربة نقل الباعة الجائلين المتمركزين في العاصمة إلى سوق الترجمان، كحل للأزمة التي واجهتها العاصمة بعد ثورة 25 يناير.

واعتبر الشاهد أن التجربة فاشلة، وأن المحافظة لا يوجد لديها أى استراتيجية أو رؤية واضحة للتعامل مع الأزمة، التى أصبحت مهددة لحياة المصريين؛ لأنها لم تتأت بثمارها حتى الآن فى القضاء على ظاهرة الباعة الجائلين فى القاهرة كلها.

وتابع: ما فعلته محافظة القاهرة مجرد «شو إعلامى»، فمصر بها ما يقرب من مليون بائع جائل، والمحافظة أعلنت أن سوق الترجمان لا يتضمن إلا 1200 بائع، وبالتالى فالتجربة محكوم عليها بالفشل قبل أن تبدأ؛ لأنها لن تقضى على الظاهرة تماما.

وقال الشاهد، إن لدينا مفاهيم عدة مغلوطة فى المجتمع، من بين هذه المفاهيم، أنه يجب أن يكون الحل الأمني آخر الحلول بعد فشل جميع المحاولات الأخرى، وهذا ما جعل الدولة تقع فى خطأ تأخير الحل الأمني مع الباعة، بينما كان مفترضًا أن تبدأ به.

وطالب الخبير الأمني بتطبيق القانون بكل حزم على البائع المتجول، والقبض عليه بتهم حيازة سلاح بدون ترخيص، فى حال حمله سلاحًا، وسرقة تيار كهربائى من الدولة، وإشغال الطريق العام.

نقيب الباعة: «مش عيب» أن تعترف الحكومة بأخطائها وتبحث عن بديل للترجمان

أحمد حسين، نقيب الباعة الجائلين، يرى أن القبلية والسلاح وغيرها من الأوصاف التى يطلقها الإعلام على الباعة الجائلين غير صحيحة، قائلا إن الباعة الجائلين يتسمون بالسلمية والرغبة فى الحصول على مصدر رزق بالحلال، وأنهم ليسوا بلطيجة.

ورغم سرد «الشروق» لوقائع بلطجة وحمل سلاح وبيع مخدرات فى عدد من الميادين والشوارع، أصر على القول بأنهم ليس بينهم بلطجية.

وأضاف: سوق الترجمان الآن أصبح مليئًا بالباعة الجائلين الذين كانوا يتمركزن فى منطقة وسط البلد، ولكنهم غير راضين عنه لأنه مكان تقل فيه نسب البيع بصورة كبيرة، مطالبا أجهزة الدولة بالبحث عن مكان بديل لسوق الترجمان حتى يستطيع الباعة عن طريقه الحصول على مصدر رزق، بدلا من اللجوء إلى أى أعمال أخرى منافية للقانون، رغبة فى العيش والإنفاق على أسرهم، قائلا: مش عيب أن تعلن الدولة أنها أخطأت وتبحث عن بديل آخر عن الترجمان.

وقال نقيب الباعة الجائلين إن الدولة الآن تطبق القانون رقم 105 لسنة 2012 الذى ينص على تغليظ العقوبة على الباعة الجائلين، ومصادرة بضاعتهم لإشغال الطريق، وتعطيل حركة المرور، لكن هذا الأمر يسري على مناطق دون غيرها بإجحاف وظلم في بعض الأحيان.

«خذ راحتك» فى غياب الأمن

رغم وجود الباعة الجائلين على الأرصفة المختلفة بميدان الجيزة، فإن تجربة محرري «الشروق» في التجول بالميدان تثبت أن أى بائع يريد أن يقف فى مكان خارج النطاق المحدد سيكون له مطلق الحرية فى ظل الغياب الأمني اللافت بخلاف افتراش بعض البائعين فعليًَا الشارع فى قلب الميدان بين بائعى الذرة المشوية الذين يستهدفون الركاب فى نهاية خط سيارات ميدان الجيزة وبداية خط سيارات الهرم.

بين عدة أماكن فى الميدان تنقل محررا «الشروق» لوضع البضاعة التى بحوزتهما، لم يعترضهما أى من رجال المرور على مدى أكثر من 8 ساعات، رغم التواجد فى أكثر من مكان غير مصرح بالجلوس فيه، لكن بقيت كلمة السر هى استغلال الفراغ الأمنى بالشارع.

من أمام نقطة المرور الصغيرة الملاصقة لمسجد الاستقامة وضعنا «الفرشة» التى كانت بحوزتنا، لم يعترض أى من رجال المرور على وضع البضاعة على الرصيف، فيما طلب أحد أمناء الشرطة عدم «تعلية الصوت» خلال تسويق البضاعة لتجنب غضب ضباط النقطة، بينما كان وقت الرواج فى هذه المنطقة خلال أوقات الصلاة التى يكثر فيها المترددون على المسجد.

لم يبد أى من رجال الشرطة اعتراضا على طريقة الوقوف فى الميدان أو الجلوس بجوار البائعين الذين حجز كل منهم مكان باسمه، يغلقون الرصيف لكن لا يتجاوزنه، بينما يعبر المارة والسيارات من حارة لا يتجاوز عرضها 3 أمتار فى حالة تكدس مستمرة على مدار الساعة.