سلمان رشدي عن ماركيز : كان أعظمنا - بوابة الشروق
الثلاثاء 23 أبريل 2024 1:56 م القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

سلمان رشدي عن ماركيز : كان أعظمنا

سلمان رشدي و جابرييل جارسيا ماركيز
سلمان رشدي و جابرييل جارسيا ماركيز
بوابة الشروق: لينة الشريف
نشر في: الثلاثاء 22 أبريل 2014 - 8:32 م | آخر تحديث: الثلاثاء 22 أبريل 2014 - 10:17 م

هذا المقال نشره سلمان رشدي في صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية لرثاء الكاتب الكولومبي جابرييل جارسيا ماركيز. بوابة الشروق تنشر ترجمة لمعظم ما جاء في المقال

جابو يعيش.هكذا يقول لنا الاهتمام العالمي غير العادي بوفاة جابرييل جارسيا ماركيز، والأسى الحقيقي الذي شعر به قراؤه في كل مكان . فكتبه لازالت حية بلامنازع.

في مكان ما، لا يزال هناك «بطريرك» ديكتاتوريجعل من خصمه وليمة حافلة تقدم لضيوفه على طبق كوجبة عشاء. ولا يزال هناك "كولونيل" عجوز ينتظر رسالة لا تأتي أبدًا، وفتاة جميلة تحولها جدتها القاسية الى بائعة هوى. ولايزال هناك بطريرك أكثر لطفًا يسمى خوسيه أركاديو بوينديا، أحد الاباء المؤسسين ل" ماكوندو" الجديدة، رجل يهتم بالعلم والكيمياء يعلن لزوجته أن «الأرض دائرية مثل حبة البرتقال» فيصيبها بالرعب.

نعيش في عصر العوالم المختلقة البديلة : "الأرض الوسطى" لتولكين، ومدرسة "هوجورتس" للسحر لرولينج، والعالم البائس لـ "ألعاب الجوع" The Hunger Games ، عوالم يصول ويجول فيها مصاصو الدماء والزومبي. هذه هى الاماكن التي تنتعش هذه الايام.

ولكن على الرغم من رواج الرواية الخيالية، هناك ما هو حقيقة وواقع في مثل هذه الروايات بأكثر من الخيال.

ففي "ماكوندو" الخيال وسيلة لخدمة الواقع وليس للهروب منه.

صدرت رواية «مائة عام من العزلة» منذ أكثر من أربعين عامًا الآن. وبالرغم من شعبيتها الضخمة والمستمرة، فإن أسلوبها المبني على الواقعية السحرية أعطى إلى حد كبير، في أمريكا اللاتينية، أشكالا أخرى من السرد، كانت في جانب منها نوعا من رد الفعل ضد الإنجاز الهائل لجارسيا ماركيز.

ولذا فان أهم كتاب الجيل الجديد ، روبرتو بولانو، لم يتردد في إعلان الواقعية السحرية «عفنة»، وسخر من شهرة ماركيز بوصفه «رجل يستمتع استمتاعا كبيرا بصحبة العديد من الروساء والاساقفة".

لقد كانت هذه بمثابة "فورة" صبيانية، لكنها تعكس كيف كان العديد من كتاب أمريكا اللاتينية ينظرون الى وجود هذا العملاق وما يشكله من عبء ليس بقليل بالنسبة لهم.

قال لي كارلوس فوينتيس (روائي وعالم اجتماع مكسيكي) ذات مرة : «لدي شعور أن الكتاب في أمريكا اللاتينية لا يمكنهم استخدام كلمة «عزلة» مرة أخرى؛ لأنهم يشعرون بالقلق من أن الناس سوف يعتقدون أنها إشارة الى "جابو".

وأضاف فوينتيس بخبث : «أخشى أننا لن نتمكن قريبًا من استخدام جملة 100 عام أيضًا».

لا يوجد كاتب آخر في العالم كان له تأثير مشابه لتأثير ماركيزطوال النصف الثاني من القرن الماضي. "إيان ماك إيوان" قارن وعن حق تأثيره بتأثير تشارلز ديكنز. فلا يوجد كاتب منذ ديكنز مقروءًا على نطاق واسع ومحبوبا بعمق مثل جابرييل جارسيا ماركيز.

وقد تضع وفاة هذا الرجل العظيم نهاية لقلق كتاب أمريكا اللاتينية من نفوذه، وقد تسمح بتقدير أعماله بعيدا عن مشاعر المنافسة.

فقصصه هى قصص عن أشخاص حقيقيين، وليست قصصا خيالية. و"ماكوندو" موجودة، وهذا هو مصدر سحرها.

إن الاشكالية في مصطلح «الواقعية السحرية» تكمن في إنه عندما يقولها الناس أو يسمعونها فإنهم يسمعون أو يقولون نصفها فقط «السحر»، دون الالتفاف إلى النصف الآخر «الواقعية».

إن كانت "الواقعية السحرية" ليست إلا مجرد سحر، لكانت دون أهمية. ولكانت الكتابة مجرد نزوة لان أى شئ قد يقع دون أن يحدث تأثيرا.

ولكن "الواقعية السحرية" لها تأثير لأن السحر بها له جذور عميقة في الواقع، ولأنه يخرج عن إطار الواقع ويتعداه ويضيئه بوسائل جميلة ومدهشة.

الواقعية السحرية ليست اختراع جارسيا ماركيز، فقد سبقه البرازيلي ماشادو دي أسيس، الأرجنتيني بورجيس والمكسيكي خوان رولفو.

ماركيز درس تحفة رولفو الفنية « Pedro Páramo » جيدا، وكان تأثيرها عليه مماثل لتأثير « Metamorphosis » لكافكا.

(في كومالا، مدينة الأشباح الموجودة في الرواية، يمكن بسهولة رؤية بذور ماكوندو).

فالواقعية السحرية غير قاصرة على أمريكا اللاتينية. فهى تظهر من وقت لأخر في جميع أدبيات العالم. غيرأن ماركيز كان مقروءًا بشكل كبير. وشكل هو و ديكينز سادة الإغراق الكوميدي.

فمكتب ديكنز الحكومي الذي لايؤدي أى عمل، يسكنه الواقع الخيالي نفسه الذي يسكن جميع حكام وطغاة ماركيز بما فيهم من تراخ وفساد واستبداد.

كما أن شخصية "جريجور سامسا" لكافكا، والتي تحولت إلى حشرة كبيرة، لها مكان طبيعي في ماكوندو، حيث التحولات أمر شائع.

وشخصية كوفاليوف لغوغول، تلك الشخصية التي تفصل الأنف فيها نفسها عن الوجه وتتجول في سانت بطرسبرج، لن تشعر ايضا بالغربة في ماكوندو.

إن السرياليين الفرنسيين ومؤلفي الخرافات الأمريكيين هم أيضًا جزء من هذه الشركة الأدبية المستوحاة من فكرة "خيالية الخيال"، فكرة تحرر الأدب من حدود الطبيعية، وإقترابه من الحقيقة بأساليب أرحب وأكثر إثارة.

كان ماركيز يعلم جيدًا أنه ينتمي إلى عائلة أدبية "خاصة جدا ". نقل عنه وليام كينيدي قوله «في المكسيك، توجد السيريالية في الشوارع» .

ولكن، أقول مجددًا: شطحات الخيال تحتاج أن تقوم على أرضية من الواقع.عندما قرأت جارسيا ماركيز للمرة الأولى لم أكن قد ذهبت مطلقًا لأمريكا الوسطى أو أمريكا الجنوبية.

ومع ذلك، وجدت في صفحاته واقعية أعرفها جيدًا من تجربتي الشخصية في الهند وباكستان.

في أعمال ماركيز كما في الهند وباكستان، كان ولايزال هناك صراع بين المدينة والقرية، وهناك هوة واسعة بين الغني والفقير، بين القوي والضعيف، وعظيم الشأن وصغيره.

كلاهما مكان له تاريخ استعماري عريق، وفي كلاهما يحتل الدين أهمية عظمى. وفي كلاهما "الرب" موجود وكذلك وللاسف من يتحدثون باسمه.

عرفت "كولونيلات" و"جنرالات" جابرييل جارسيا، أو على الأقل نظراءهم من الهنود والباكستانيين. أساقفته كانوا "الملالي" الذين عرفتهم وأسواقه كانوا "بازارات مدينتي".

لقد كان عالمه عالمي مترجمًا إلى الأسبانية. فلا عجب أنني وقعت في حبه، ليس لسحره (على الرغم من أنني ككاتب نشأت على الحكايات السحرية الرائعة للشرق) وإنما لواقعيته.

ومع ذلك، فعالمي كان عن الحضر بأكثر من عالمه. وبالتالي فإن روح القرية هي التي تمنح واقعية ماركيز نكهتها الخاصة، قرية تخيف فيها التكنولوجيا، ومع ذلك فان صعود فتاة الى السماء هو أمر طبيعي للغاية. قرية ككل القرى الهندية، تمتلأ بالمعجزات التي تتعايش مع الحياة اليومية.

لقد كان ماركيز صحفيًا لم يغفل يوما ما عن الحقائق. كان ماركيز حالما يؤمن بأن الاحلام حقائق. وكان ماركيز كذلك كاتبا قادرا على إبداع لحظات من الجمال الذي يفوق الخيال ملئ في معظم الأحيان بالكوميديا.

في بداية روايته «الحب في زمن الكوليرا» كتب :« رائحة اللوز المركانت تذكره دائمًا بمصير الحب من طرف واحد».

وفي قلب «خريف البطريرك»، بعد أن يبيع الديكتاتور منطقة بحر الكاريبي إلى الأمريكان، يحمل المهندسون الامريكان الكاريبي في اجزاء ليزرعوه في اريزونا. يأخذونه بكل ما فيه.

يصل أول قطار الى ماكوندو، وتصاب إمرأة بحالة من الرعب الشديد. وتبدأ في الصراخ :"هاهو آت. شئ مخيف وكأنه مطبخ يجر وراءه قرية".

وبالطبع هذا المقطع الذي لا ينسى:

"قاد الكولونيل اوريليانو بوينديا اثنتين وثلاثين إنتفاضة خسرها كلها. وكان له سبعة عشر إبنا من سبع عشرة إمرأة قضوا كلهم الواحد تلو الاخر في ليلة واحدة ولم يبلغ أكبرهم الخامسة والثلاثين. نجا من أربع عشرة محاولة إغتيال وثلاثة وسبعين كمينا ومن نيران كتيبة. كما نجا من جرعة من السم في قهوته كانت كفيلة وحدها بالقضاء على حصان".

أمام مثل هذه الروعة، لايسعنا الا الشعور بالامتنان. فهو كان أعظمنا بلامنازع.



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك