أطباء تحولوا إلى أدباء مبدعين.. ماذا قدم هؤلاء لتاريخ الثقافة؟ - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 1:05 ص القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أطباء تحولوا إلى أدباء مبدعين.. ماذا قدم هؤلاء لتاريخ الثقافة؟

القاهرة - أ ش أ
نشر في: السبت 23 فبراير 2019 - 11:31 ص | آخر تحديث: السبت 23 فبراير 2019 - 11:31 ص

فيما عرف الأدب سواء في مصر أو الخارج أطباء تحولوا إلى أدباء مبدعين، فإن الثقافة الغربية تبدي حاليا اهتماما ملحوظا بظاهرة جديدة هي ظاهرة الأطباء الذين يكتبون عن تجاربهم المباشرة وسط شرور الإرهاب والحروب والنزاعات الدموية.

وفي هذا السياق، صدر كتاب جديد بالإنجليزية بعنوان: "طبيب حرب: عمليات جراحية على خط الجبهة" لديفيد نوت، حيث تمتزج الابتسامات والدموع، كما يتداخل الألم والأمل في دراما الحروب والنزاعات الساخنة والأزمات الإنسانية الأليمة.

وديفيد نوت من مشاهير الجراحين البريطانيين وذاع صيته على المستوى العالمي مع عمله لأكثر من ربع قرن في مناطق حروب ونزاعات وازمات إنسانية ومن بينها البوسنة وأفغانستان وقطاع غزة وسوريا.

وفي أواخر عام 1993، توجه جراح الأوعية الدموية والشرايين ديفيد نوت إلى سراييفو عاصمة البوسنة والهرسك، التي احتدم فيها القتال حينئذ لتكون مهمته الإنسانية الأولى في سلسلة من المهام كطبيب يحاول إنقاذ ضحايا الحروب.

ويتضمن هذا الكتاب، للطبيب الجراح ديفيد نوت، مشاهد مؤثرة مثل ذلك المشهد لصبي من أبناء البوسنة أصيب بشظية في بطنه جراء قذائف الهاون التي كانت تمطر سكان سراييفو فيما تركز القصف على المستشفى وانقطع تيار الكهرباء أثناء إجراء ديفيد نوت عملية جراحية لهذا الصبي الذي قضى نحبه بلا جريرة.

ويقول ديفيد نوت إنه وجد نفسه وحيدا مع هذا الصبي الذي كان ينزف وسط الظلام، بينما غادر طاقم الأطباء والممرضين غرفة العمليات بحثا عن ملاذ آمن لتكون أول صدمة له بعد أسبوعين من وصوله لسراييفو وما أكثر الصدمات التي يسردها في كتابه.

غير أن ديفيد نوت الذي تجول بين أكثر الأماكن خطورة في العالم المعاصر على مدى يتجاوز الربع قرن، بدا أكثر تفهما لأفعال البشر مع رحلته الصعبة الوعرة وبات أكثر استعدادا للصفح عن تصرفات رفاقه من الأطباء الذين يواجهون الموت في مناطق الحروب والنزاعات الدموية، كما أن تلك الرحلة الطويلة وسط الألم الإنساني علمته أن يأخذ نفسه بالشدة بقدر ما يحاول الحفاظ على حياته على الأقل ليتمكن من إنقاذ أشخاص آخرين بحاجة لمساعدته، كما يقول في هذا الكتاب الذي حظى باهتمام واضح في الصحافة الثقافية الغربية.

ومع أن من الطبيعي أن يعمد الكائن الإنساني لتجنب الألم، فمن الطريف أن يقول ديفيد نوت في مستهل كتابه إنه "أدمن الوجود في قلب الألم، ومن ثم فهو حاضر عادة وسط الحروب والنزاعات الدموية في العالم الراهن حتى بات الأمر بالنسبة له بمثابة إغراء لا يقاوم"، كما يرى أن "الطبيب ينبغي أن يكون الإيثار والسعي لإنقاذ الآخرين من سجاياه الأصيلة".

ومن المشاهد الأليمة أيضا في هذا الكتاب ما حدث في الرحلة الأولى لديفيد نوت في سراييفو عندما استهدف بعض القناصة سيارة إسعاف استقلها مع أحد المصابين، فضلا عن السائق وحامل المحفة الذي قتل بعدة طلقات.

ورغم مقتل حامل المحفة داخل سيارة الإسعاف، فإن ديفيد نوت يعترف بأنه شعر ببهجة لأنه أفلت من الموت وبدا "كمن ولد من جديد"، حتى وإن كان الموت قد طال شخصا آخر لتتوالى المشاهد والمشاعر في رحلاته وسط الكوارث والنزاعات والتي شملت أيضا سيراليون وليبيا وهاييتي.

ويمكن القول إن الأدب المعاصر يكتسب بدوره المزيد من الثراء من تلك النزعة لهذا الطبيب البريطاني وغيره من البشر الذين يسجلون تجاربهم العصيبة وسط ظروف ومعطيات بالغة القسوة في غمار حروب أو نزاعات دموية وممارسات لجماعات إرهابية تسعى لترويع المجتمعات سواء في الشرق أو الغرب.

ومن المشاهد الدالة في هذا السياق، ما يرويه الطبيب ديفيد نوت في كتابه عن اقتحام عناصر لجماعة إرهابية في سوريا مستشفى ميدانيا كان يتواجد به بعد أن لمحته وهو يحمل كاميرا ويلتقط بها بعض الصور معتقدين أنه يرصد تحركاتهم.

ويضيف نوت أنه افلت من الموت بأعجوبة بعد أن نجح بشق الأنفس في إقناع تلك العناصر الإرهابية بأنه كان يلتقط بعض الصور لغروب الشمس فيما يتضمن كتابه أيضا قصصا مثيرة عن عمله في أفغانستان ولقاء مع الملا محمد عمر الذي يصفه بـ"القائد المخيف لحركة طالبان".

ومن واقع تجاربه المباشرة ومشاهداته، يسرد ديفيد نوت حقائق تؤكد افتقار عناصر الإرهاب لأي رحمة بالآخرين وبصورة شكلت له كابوسا؛ خشية أن تكون نهايته الموت على أيدي تلك العناصر الإرهابية أو السقوط أسيرا في قبضتهم التي لا تعرف الرحمة.

ولاريب أن الإرهاب مكون أصيل لما يسميه مؤلف هذا الكتاب الجديد بـ"الشر الذي استفحل ولم يعد يخجل حتى من استهداف المستشفيات وتفجيرها بمن فيها من مرضى ومصابين عزل"، فيما تتوالى مشاهد "الشر المعاصر وقتل الأجنة في بطون الأمهات"، كما رأى ديفيد نوت في مدينة حلب.

ورغم كل هذا الألم، فإن ديفيد نوت يقدم أيضا في كتابه مشاهد بديعة لروعة العمارة تحت السماء الصافية وصوت المؤذن لصلاة الفجر لكنها "مشاهد تبدو كلحظات مسروقة من شرور طالت البشر والحجر".

وإذا كان بعض المعلقين والنقاد الثقافيين قد أشاروا في سياق تناولهم لهذا الكتاب الجديد إلى ندرة في تلك النوعية من الكتب التي تعرض لتجارب مباشرة لأطباء في قلب محنة الحرب، فمن نافلة القول إن الظاهرة ذاتها تنسحب على الكتب الصادرة بالعربية حيث يصعب على سبيل المثال العثور على كتاب لطبيب عربي حول تجربته ومشاهداته وسط حروب أهلية ونزاعات دموية اجتاحت المنطقة العربية منذ نحو 8 أعوام.

وبعيدا عن دراما الحروب وشرور الإرهاب هناك تصاعد في عدد الكتب الجديدة التي تصدر بأقلام أطباء جراحين في بريطانيا والغرب عموما وتتناول عالمهم الخطر الذي يواجهون فيه دوما أسئلة الحياة والموت، كما يقول القاص والكاتب السينمائي والمسرحي البريطاني ويليام بويد.

فهي كتب تتناول الجوانب النفسية والاجتماعية والشعورية للأطباء الجراحين وتآملاتهم ورؤيتهم لعملهم وعالمهم والمرضى الذين يتعاملون معهم وبما يشكل "لبنة جديدة لما يسميه ويليام بويد بأدب الطب الجراحي".

كأن طب الجراحة يجد صوته في الأدب، فيما يسعى الكاتب للإجابة إبداعيا عن أسئلة كثيرة تتعلق بالأطباء الجراحين وعالم العمليات الجراحية بمسؤولياته ومخاطره وآلامه ودوافع العمل والحوافز النفسية.

وويليام بويد الذي ولد في 7 مارس عام 1952 بالعاصمة الغانية اكرا، عرف عالم الطب والجراحين لأن والده الاسكتلندي كان طبيبا عمل طويلا في أعماق القارة الإفريقية، وتنقل مابين غانا ونيجيريا وهو يسلم بأن معطيات البيئة والتنشئة أثرت في اهتماماته، ومن بينها متابعة وقراءة كل جديد في كتابات وكتب أطباء جراحين تتناول تجاربهم وخبراتهم في العمل والحياة.

ولاريب أن عالم الطب الجراحي يثير الخيال وخاصة لهؤلاء الذين يعملون خارج هذا الحقل الطبي بقدر ما يطرح أسئلة حول هؤلاء الأطباء الذين يحملون المشارط ويشقون بها الجسد الإنساني الحي كما يقول ويليام بويد كاتب أفلام "الخندق" و"رجل طيب إفريقيا" و"مستر جونسون".

وفي عام 1994، صدرت قصة لويليام بويد بعنوان: "بعد الظهيرة الزرقاء"، وكان بطلها يعمل كطبيب جراح فيما يستعيد بعض مادار في ذهنه أثناء كتابة هذه الرواية، حيث كان أحد أفراد عائلته قد خضع لجراحة خطرة بينما تسأل ابنة الجراح في هذه القصة والدها عن تعريف صاف لهذه المهنة.

ويجيب الطبيب الجراح في تلك القصة ابنته عن سؤالها بأن يناولها المشرط ويمد لها ساعده ويطلب منها أن تصنع بالمشرط شقا صغيرا في ساعده لعلها تعرف الإجابة عمليا ثم يعود ليقول لها إن الجراحة في بعض الأوقات قد تكون أشبه بمشرط يجوب في صلصال أو شمع يسهل تشكيله وفي أوقات أخرى قد تكون أقرب لمن يقطع في دجاجة مجمدة.

ولعل الثقافة العربية بحاجة لكتب على غرار تلك التي تشكل الآن بتصاعدها ظاهرة، لافتة في الثقافة الغربية لأطباء من كبار الجراحين بعضها سير ذاتية لهم وبعضها الآخر تسرد خبراتهم وتجاربهم الإنسانية وذكرياتهم في مجال عملهم وتخصصهم الطبي، ناهيك عن المشاهدات والتجارب المباشرة في العمل وسط الحروب والنزاعات الدموية وشرور الإرهاب كما يتبدى في الكتاب الجديد ديفيد نوت: "طبيب حرب".

وهذا الاتجاه التصاعدي في الآونة الأخيرة على مستوى إصدارات الكتب التي تتناول عالم طب الجراحة والأطباء الجراحين، يشير كما يرى ويليام دويل إلى "صوت جماعي هو وليد شعور الأطباء الجراحين بالحاجة إلى التعبير عن عالمهم الخطر بأصواتهم ومشاعرهم ونظراتهم لأنفسهم وهم يواجهون بصورة مباشرة على مسرح عملهم إناء الليل وأطراف النهار أسئلة الحياة والموت".

ولئن كان ويليام دويل قد أعاد للأذهان حقيقة أن بعض أعلام الأدب العالمي كانوا في الأصل أطباء مثل الروسي أنطون تشيخوف، والبريطاني سومرست موم، الذي انخرط اثناء الحرب العالمية الأولى بسلاح الخدمات الطبية على الجبهة الفرنسية قبل أن ينتقل للعمل في المخابرات البريطانية، وآرثر كونان دويل صاحب "قصص شرلوك هولمز"، والشاعر الأمريكي ويليام كارلوس ويليامز، وغيرهم، فإن الثقافة المصرية والعربية عموما عرفت ظاهرة مماثلة.

فمن الذي ينسى أطباء ومبدعين كبار في الأدب مثل (يوسف إدريس، وإبراهيم ناجي، ومصطفى محمود، ومحمد المنسي قنديل، ومحمد المخزنجي) ناهيك عن الجراح العظيم والأديب الكبير الدكتور محمد كامل حسين صاحب العمل الأدبي الخالد "قرية ظالمة".

وفيما يتفق أغلب النقاد على أن سيد القصة القصيرة المصرية الدكتور يوسف إدريس الذي كان كيانا من ذكاء وحماس ملهما للآخرين قد تأثر أدبيا بممارسته لمهنة الطب عدة سنوات واستفاد في كتبه وكتاباته من التواصل مع المرضى أو الإنسان في لحظات ضعفه، وبات صاحب حساسية فائقة في التعبير عن هموم البشر، فإن هذا الطبيب الأديب الذي ولد عام 1927 وقضى عام 1991 سيبقى أمثولة للإبداع المصري.

ومع أن يوسف إدريس كان بعيدا عن الطب الجراحي وتطلع لممارسة الطب النفسي، فإنه نبغ في "إبداعات القصة القصيرة التي تعد في الواقع نوعا من معالجة جراح النفس الإنسانية" فيما مضى الدكتور محمد المخزنجي الذي عمل في الطب النفسي في تجربة إبداعية تركت بصماتها في مجال القصة القصيرة وكذلك فعل القاص والروائي الدكتور محمد المنسي قنديل الذي بزغت موهبته الأدبية وهو طالب بكلية طب المنصورة عندما لفت الأنظار بقصة "أغنية المشرحة الخالية" التي تصور مشاعر طالب فقير في كلية الطب.

أما الطبيب والشاعر المصري الدكتور أحمد تيمور، فيوازن بين احترافه الطبي في مجال الأمراض المتوطنة وإبداعاته في الشعر، معتبرا أن الطب والشعر يهتمان معا بالإنسان وإن اختلف منظور الاهتمام فالطب يهتم بالجسد والشعر غذاء الروح -على حد قوله- فيما يحرص على إقامة صالون ثقافي شهري رغم انشغالاته الطبية كأستاذ بكلية الطب في جامعة الأزهر.

ومن يدري: لعل كليات الطب في جامعات مصر تقدم غدا وجوها ناضرة في الطب والأدب معا، وأطباء جراحين يبادر بعض الموهوبين فيهم بالكتابة الثقافية عن عالم الطب الجراحي، ونرى هنا "ظاهرة الكاتب الجراح" التي تثير الآن اهتماما لافتا في الثقافة الغربية، لعلنا على موعد مع جيل جديد ومبدعين جدد في مصر المبدعة.



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك