يوسف زيدان يحرر ابن سينا من سجن «فردقان».. وقيود التاريخ أيضًا - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 7:38 م القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

يوسف زيدان يحرر ابن سينا من سجن «فردقان».. وقيود التاريخ أيضًا

عبدالله محمد
نشر في: السبت 23 فبراير 2019 - 10:42 ص | آخر تحديث: السبت 23 فبراير 2019 - 11:31 ص

تثير رواية «فردقان.. اعتقال الشيخ الرئيس» الصادرة حديثا عن دار الشروق، العديد من التساؤلات حول المعرفة التى يمكن أن تقدمها رواية تاريخية تدور حول سيرة الحسين بن عبدالله بن الحسن بن على بن سينا، أبو على الشهير بالرئيس ابن سينا (ولد سنة 370 هـ 980 م، وتوفى بهمذان سنة 428 هـ 1038 م). وتطرح الرواية كذلك سؤالا عن رؤية العالم كما أرادها مبدع الرواية يوسف زيدان المعروف بقدرته على إثارة الجدل حول أعماله.
ويزيد من الشغف بالعمل كون مؤلفه باحثا متخصصا فى التراث الفلسفى العربى، وروائيا حاصلا على جائزة البوكر العربية فى دورتها الثانية عن روايته ذائعة الصيت «عزازيل» فى العام 2010، وقد صدر له حتى الآن أكثر من ستين كتابا. تدور معظمها بين قضايا الأدب والبحث الفلسفى فى التصوف وتاريخ العلوم عند العرب.
ولعل واحدة من مميزات يوسف زيدان وأسباب شعبيته كونه يتخذ من التاريخ مادة روائية، فى محاولة لجذب الشباب لقراءة التراث الإسلامى والتاريخ بشكل صحيح. وليست تجربة التعرض لسيرة ابن سينا هى المحاولة الأولى لزيدان فى هذا الصدد، إذ سبق له تناول العديد من نصوص الفيلسوف الرئيس ابن سينا بالشرح والتحقيق، وله شرح لقصيدة ابن سينا العينية فى النفس، وله أيضا تحقيق لبعض النصوص الطبية والفلسفية للشيخ الرئيس.
وتركز الرواية على سيرة ابن سينا خلال فترة اعتقاله بقلعة تحمل اسم «فردقان» الموجودة بوسط إيران.
وكان سبب تعرضه للإقامة الجبرية قيامه بتأليف كتاب «تدبير الجند والمماليك والعسكر» للأمير أبو طاهر البويهى والد الأمير سماء الدولة وفيه وصفة لكيفية إدارة الحكم بإبعاد العسكريين، ويأتى ذلك على لسان «الزعاق» لابن سينا قائلا: «نصحت فيه الحاكم بإبعاد العسكر عن المدن، وعدم الإفراط فى عطاياهم. فكانت النتيجة أن الأمير تجهم فى وجوههم، وقلل من قدرهم، وقلص أرزاقهم. وأنت تذكر ما فعلوه بك أيامها، ولا يريد أن يتكرر مثل هذا الفعل الذى لا تؤمن عواقبة، خصوصا أنه على أبواب حرب مع «علاء الدولة» الذى يحبك ويقدرك. وهو أيضا يحبك ويقدرك. فوجد من الأصوب إبعادك عن همذان فى هذا الوقت، حتى لا تتفاقم الأمور».
يوسف زيدان يستخدم ابن سينا باعتباره مادة خصبة ليعبر بها عن آرائه فى ظل تلك الظروف التى يعيشها مجتمعنا، فالفيلسوف الكبير كان يمقت الحرب والتسلط ويجنح للسلم، ولطالما قال: «لا أمان للعلماء والفلاسفة فى كنف الأمراء والحكام».
يستخدم صاحب «عزازيل» آراء الشيخ الرئيس ليعيد طرح السؤال عن مشكلة النزاع الأزلى بين المثقف وحملة السلاح المتكتلين فى المصالح الشخصية فهم يتخذون الجهل بدلا من المعرفة ويحاولون قتل المثقف ومحاربته، عبر الهجوم الحاد على دار ابن سينا واتهامه بشتى الاتهامات.
وهنا يلجأ الأمير أبو طاهر لإصدار قرار نفى ابن سينا فى تلك القلعة المتطرفة فى آخر البلاد، وفى محبسة بـ« فردقان» يعكف الشيخ الرئيس على إنهاء كتابه «القانون فى الطب» وكذلك كتاب «الإشارات والتنبيهات» ورسالة «حى بن يقظان».
وتلجأ الرواية إلى التاريخ بحثا عن الذات الآنية، وربما بحثا عن دواء شاف للمحن والانتكاسات التى تتعرض لها الأمة أو لأجل التمنى والحلم بالانتصار خلال فترات الانهزام وتجاوزت ذلك فى العصر الحالى حيث أصبحت تجسد قضايا عالمية معاصرة بإسقاط ذاك الماضى على الحاضر وتفسيره.
والآراء التى يوردها زيدان نقلا عن نصوص ابن سينا يستعمل لها مجهرا دقيقا، لتدور فى سياقها التاريخى إسقاطا على واقعنا اليوم، تفعيلا لوزنها المعرفى، وهى بدورها تضى حقبة فى تاريخ الحضارية الإسلامية قائمة على مدى تقبل الآخر وحرية الأفراد وحقهم فى التعبير عما يروق لهم من آراء وأفكار وما يعتنقوه من عقائد والمساواة بينهم بإختلاف لونهم وعقائدهم.
ويستنطق زيدان شخصياته ساردا سيرة ابن سينا منذ مولده فى بيت يدعو للشيعة الإسماعيلية، مرورا بالترحال إلى مصر التى كانت وقتها تحت حكم الدولة الفاطمية، وعلى الرغم من دعوة أبوه للشيعة الإسماعلية فإنه كان يرفض أن يدعوا لها هاربا إلى المعرفة والطب والمنطق والرياضيات.
ويستمر السرد الزيدانى كاشفا عن واقعة حدثت لابن سينا حينما تلقى الدعوة مباشرة من حاكم بلدته للإسراع فى علاجه لفتى كانت حالته فى غاية التعقيد «كان يحبو على أربع متمثلا ببقرة ويصدر صراخا شبيها بالخوار حوله اذبحونى، اذبحونى!» فلما توجه إليه قعد بالقرب منه يمعن فى ملاحظة حالته وأمر قصابا ليتخلى له عن بدلته الملطخة بالدماء، ارتداها وأمسك برأس الفتى إلى الأرض يريد ذبحه، لكنه عدل بحجة أن البقرة عجفاء، سمع الشاب هذا فانهال من وقته يأكل بعد أن كانت نفسه تعاف كل المأكولات، ومضى عليه خمسة أيام وابن سينا يتابع تحسن حالته، ولم يعد يصدر تلك الأصوات، فأمسك بيده يريد قياس نبضه فاستدعى امرأة دائمة الحضور فى الأفراح وطلب منها رفع صوتها بأسماء الفتيات اللائى تشتهر بهن المنطقة، فلما أتت على ذكر اسم «زهوة»! لاحظ الشيخ الرئيس ارتفاع نبضه فعلم فيما بعد أنه وقع أثير مرض العشق، وقال علاجه فى الزواج من عشيقته، ولكن كان هناك تنافر فى المذهب الدينى بين أهلها وأهله، وعلى الرغم من ذلك أصر على أن تزف إليه كعروس.. وبهذا يستقيم أمر الفتى وينصلح حاله، وقال: «العلاج لا يستحضر العقيدة بين المريض وطبيبه».
وبحرفية بالغة يرسم زيدان شخصيات الرواية خاصة شخصية المزدوج إلا أنه يفرط فى تناول دور النساء فى حياة ابن سينا ويلجأ إلى كثير من الإسهاب، فهناك أكثر من جارية وثلاث نساء، تدخلت شخصياتهم فى حياة الشيخ الرئيس ليبرر بذلك مثلا كتابة كتاب «الإثم والبر» من خلال واقعة مع سندس التى كانت امرأه مطلقة وقد عشقتة قبل أن يولد... وتملكتنى الحيرة فى تقديم ابن سينا بهذا القلق... فهذا ليس الانطباع حين تقرأ مثلا كتاب الشفاء الذى نشرته وزارة المعارف العمومية بمناسبة الذكرى الألفية للشيخ الرئيس والذى حققه ثلاثة من الأساتذة الكبار وهم الأب قنواتى ومحمود الخضيرى وفؤاد الإهوانى، فلا شك أن هذا الرجل الواثق فى معطياته ويقينياته واثق فى قناعاته من خلال منطقه المنهجى الثابت.
لذلك نرى ابن سينا المتقلب فى منحيات السياسية والملذات والهوى العاطفى وقلبه الموزع بين ثلاث نساء وهن روان، سندس، ماهتاب.. والجسد المتقلب بين سياسات تتصارع على السلطة، وهو دائما ما تتملكة الحيرة فى معيشته وتنقله من مكان لمكان.
لا شك أن هناك إسهابا فى وصف النساء العاشقات اللاتى أذقن ابن سينا جرعة الحب والهوى، وهناك روان التى حزن لفراقها على إثر غارة ليلية استهدفت منزله فعاثوا فيه فسادا واقتادوا عشيقته جارية لعرضها للبيع بسوق النخاسة، ومن ثم انقطعت أخبارها، ومهتاب التى عرفها فى تلك القلعة وكانت ذات إلمام بعلوم الفلسفة والطب فأخذت تتعلم منه المزيد وتعينه فى التمريض، لكن خلال الساعات المتأخرة من الليل كان يهفو إليها وتهفو إليه، بدلا من التعليم والتعلم.
هناك نوعان من الرواية التاريخية: النوع الأول تعيدك فيه الرواية إلى التاريخ بكل تفاصيله وطقوسه وكأنها تردك إلى الحياة فيه، أما النوع الثانى فإنه يستعيد المناخ التاريخى فقط ثم يترك لنفسه قدرا من الحرية النسبية داخل إطاره هذا قول الأردنى محمد أحمد القضاة. وهذا هو ما لجأ اليه صاحب «ظل الأفعى» الذى يؤمن أن «اللغه هى البطل!» وهى كذلك بالفعل فى روايته، لكن اللغة لا تعمل بمعزل عن وجود بنية روائية متماسكة وهى هنا تعانى من مشكلات الإسهاب والتطويل، وتترك نفسها بالكامل لفاعلية البناء اللغوى وهى واحدة من أبرز أدوات زيدان الفنية، فلغته معجونة بالتصوف وغارقة فى البحث الفلسفى وهى ابنة لهذا المناخ التاريخى بامتياز وليست منفصلة عنه
لذلك بدت «فردقان» بمثابة حكاية سينمائية بلغة عذبة السهل الممتنع عن حياة الشيخ الرئيس أحد ألمع من أنجبته الحضارة الإسلامية.



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك