الشروق تحقق في «الزهايمر» بمصر.. وترصد حكايات مرضى افترستهم الذاكرة - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 9:37 ص القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حوالى 400 ألف حالة بمصر..

الشروق تحقق في «الزهايمر» بمصر.. وترصد حكايات مرضى افترستهم الذاكرة

تحقيق ــ محمود زكى
نشر في: الأربعاء 23 أبريل 2014 - 1:11 م | آخر تحديث: الأربعاء 23 أبريل 2014 - 1:11 م

الحاج سالم.. عطار يحفظ ألف توليفة.. داهمه المرض فنسى أسماء أولاده.. وخرج ولم يعد

أستاذ على.. مدرس اللغة العربية.. اشتهر بذاكرة قوية وحفظ الشعر.. ثم نسى الكلمات والأماكن

خبير نفسى: مريض ألزهايمر ليس مؤذيًا.. وتصرفاته الحادة سببها الخوف والوحدة

على مدخل الحارة الضيقة العامرة بالمارة، تلمح صورة للحاج، «سالم. م» بجلبابه الأبيض وابتسامته العريضة ممسكا بمسبحته الخشبية الطويلة وعلى كتفه سجادة الصلاة، وفى نهاية تلك الصورة العملاقة كتب بخط أحمر غليظ «هنا بيت الحاج سالم، خرج فى 12 سبتمبر 2012، ولم يعد».

تحمل تلك الكلمات ملخصا لقصة طويلة تمتد لعامين، ومازالت مستمرة لأسرة تتشابه مع العديد من الأسر المصرية التى تبحث عن أناس خرجوا يوما ولم يعودوا، ولكن التائه هذه المرة ليس طفلا صغيرا، إنما كهل كبير.

حالة الحاج سالم متكررة مع عشرات الآلاف من حالات ألزهايمر فى مصر، ربما تقترب من 400 ألف مواطن، يعيشون بين أركان الإهمال أو ملقون فى غرف مظلمة فى مراكز الشيخوخة والمصحات ينتظرون أن يأتى الموت لينتشلهم من معاناتهم.

«الشروق» اخترقت حواجز المرض وحاولت مشاركة المرضى وذويهم فى حكايات معاناتهم الطويلة مع الزهايمر والبحث عن حل له.

يبلغ الحاج سالم عامه التسعين فى منتصف الشهر المقبل وهو اليوم الذى يتجمع فيه أهل الحارة والأقارب ومحبو الحاج سالم يتذكرون أيامه وصفاته الطيبه وسط وصلة قرآنية يختمها المقرئ بسلسة من الدعوات تتمنى عودته إلى أهله وبيته سالما.

تبدأ قصة الحاج سالم فى يوم اختفت فيه الشمس كما يصف ابنه البكرى، سيد سالم، بعد أن استقيظ من النوم فى وقت صلاة الفجر ليطمئن عليه ليجد فراشه خاويا ولا أثر له فى المنزل كله إلا باب البيت يطلق أنينا مزعجا بسبب حركة الرياح.

يقول سيد: «خرجنا جميعا نبحث عنه فى الحارة والحى كله، لا أثر له ولا معلومة عنه سوى خادم المسجد الذى قال لنا إنه رأى رجلا يمشى متأنيا، يتشابه فى حركته مع الحاج سالم يسير إلى خارج الحارة».

يؤكد سيد فى ثقة «أبى ليس مفقودا، وإنما هو مخطوف، خطفه مرض الزهايمر منذ ثلاث سنوات عندما تسلل بين خلايا مخه، ينهش فى ذكرياته ورجاحة عقله فى تلصص دون أن يشعر به أحد».

لم يخطر ببال أحد أن رجلا من أقدم رجال العطارة فى مصر يحفظ أكثر من ألف نوع «توليفة» وتركيبة من العطارة، ينسى اسمه والطريق إلى بيته.

تحكى ابنته سنية عن تغير شخصية أبيها، فتقول: بين يوم وليلة أصبح أبى شاحبا على غير عادته، لا يتذكر أسماء بضاعته، ولا يعرف زبائنه، وغير قادر على العمل.. امتلأت قلوبنا بالشك، ولكن ما أكد لنا أنه أصيب بمرض، كانت شكوى أحد الزبائن بتركيبة العطارة الخطأ التى تسببت له فى مشكلة طبية عنيفة وكانت هى أول خطأ يقع فيه أبى منذ أن عمل فى العطارة من 60 عاما.

تضيف سنية: «لم نستطع أن نفعل له شيئا، ولم نفهم نوعية مرضه، حاولنا علاجه بالقرآن لكن لم يفلح الأمر، أحدهم أشار إلينا أن جن قد لبسه، استشرنا الأطباء فقالوا ليس به مرض عضوى، إنما نفسيا يدعى ألزهايمر، واقترحوا علينا أن نعرضه على طبيب نفسى، ولكننا رفضنا تماما، فلن نسمح أن يُقال إن والدنا قد جن، و«دخل سرايا المجاذيب» ولكن لم نتوقع أن تتدهور حالته إلى هذا الحد وبهذه السرعة، نسى أسماءنا ثم أسماء كل من حوله.

وتواصل سنية: أصبح لا يجيد النطق ولا يعرف القراءة جيدا، فقد شهيته، وأصبح مزاجه متقلبا، أقرب إلى الحزن والانطوائية، واستمرت حالته على ذلك لثلاث سنوات حتى خرج من بيته منذ عامين، ولا أحد يعرف إلى أين ذهب، ولا ما الذى دار فى باله، فقد ابتلعه المجهول، ولم يعد حتى الآن.

تعيش أسرة الحاج سالم على أمل عودته يوما، ورغم بحثهم عنه فى شتى أنحاء الجمهورية بين أقسام الشرطة والمستشفيات، وعند كل مكان يعرفه، إلا أنهم يرفضون اعتبار والدهم ميتا، إنما هو حى وسيعود يوما».

على.. مدرس اللغة العربية الذى لا يعرف المبتدأ

يجلس خالد الابن الأكبر للحاج «على. ع.» على طرف الفراش الأبيض الذى طالما جلس عليه هو وأبوه يلعبان معا، يتناقشان ويختلفان، يسترجعان شريطا من الذكريات الطيبة والمؤلمة، السعيدة والحزينة، لكن خالد أصبح يحمل ذكرياته وحيدا بعد أن أصيب والده بمرض ألزهايمر لـ 10 أعوام كاملة.

يسترجع خالد تلك الأيام العصيبة التى بدأت بتتدرج سريعا فور خروج والده، مدرس اللغة العربية، على المعاش، حيث كان يحبه الجميع، ويشيد زملاؤه بصلابة عقله حتى إنه كان يحفظ من أبيات الشعر ألفا، ثم انتهى به الأمر أن يجلس وحيدا، كئيبا، حزينا.

يوضح خالد: «علامات المرض ظهرت عليه فجأة وبدون أن يشعر أحد، فانشغال الجميع عنه وجلوسه وحيدا كان السبب، فأولاده سافروا وزوجته بحكم صغر سنها عنه انشغلت بعملها».

كان أغرب مشهد لخالد وبداية استشعاره بخطورة حالة والده، عندما دخل يوما عليه وجده جالسا فى الصالة مجتمعا مع أحد باعة الجبن والعسل الجائلين يأكلون معا، «لم يكن جلوسهم معا هو الغريب، إنما المستغرب كان أكله للمش والعسل الذى طالما كره طعمهم ورائحتهم».

فى تطور سريع تبخرت ملامح ذاكرة الحاج على من عقله، مع كل يوم يمر تذهب الذكريات بلا عودة، فينسى أقرب أصدقائه ثم ينسى مهنته التى عمل بها قرابة الأربعين عاما، يبحث عن محل إقامته فى عقله فلا يجد له اسما.

يسرد خالد متألما: «كانت أصعب أيامى على الإطلاق مع مرض والدى عندما دخلت عليه يوما، فوجدته لا يعرفنى، ولا يتذكر اسمى، ولا يدرك شكلى، بل وعندما حاولت احتضانه للتخفيف عنه أبعدنى عنه بعنف وظل وحيدا مرتجفا خائفا».

يعترف خالد: «كان جهلنا هو سبب تدهور حالته بسرعة، فلم نستشر طبيبا أو حتى صديقا، جلسنا بجانبه مكتوفى الأيدى نراقب مرضه، وفى أشهر قليلة كانت حالته قد تدهورت تماما وكأن دورة الحياة قد توقفت وعادت إلى الخلف، فعاد عقل أبى إلى مستوى طفل صغير، ومع مرور يوم جديد يعود عقل يزداد الأمر سوءا، فلم يعد ينطق الكلمات بوضوح، وكأنه مازال يتعلم لغة البشر من جديد، توقف عن الأكل بمفرده فأصبح لا يجيد استخدام الملعقة، بل وصل الأمر إلى عدم قدرته فى التحكم فى نفسه أثناء ذهابه إلى دورة المياه، بل وصلت الأمور إلى أنه سقط مغشيا عليه بعد أن ابتلع صابونة الحوض».

ويضيف خالد: لم يتوقف نسيان أبى عند الأسماء والذكريات فقط، إنما وصل إلى حد أنه فقد ذاكرة الأشياء والأماكن، فلم يعد يعرف كلمة مطبخ أو سرير أو حتى كوب، فأصبح مثل الأطفال يشاور على الأشياء محاولا نطق أسمائها دون جدوى.. ويستطرد خالد فى أسى أصعب عشرة أعوام يمكن أن يمر بها الإنسان فى حياته كانت فى أن يرى والده قدوته الرجل الذى رباه وعلمه وزرع داخله معانى الحياة والإنسانية والأخلاق، يفقد أهم ما يملك على الإطلاق، عقله.

السيدة التى قالت «نعم» لدستور 2014، وستنتخب جمال عبدالناصر فى الرئاسة.

فى غرفة مظلمة تقع فى موضع قصى من دار الشيخوخة المتخصصة، تجلس السيدة (م.ع) على فراشها تضم ساقيها وتسند على الحائط المجاور لها، لا ترى ملامح وجهها إلا من ضوء خافت يدخل متسللا من خلف الستائر العملاقة للنافذة الوحيدة بالغرفة، ينعكس هذا الضوء على وجهها ليبرز تجاعيد الوجه العميقة المحفورة فى جبينها، تحمل كل ثنية فى هذا الوجه عقدا من الزمن مرت فيه أحداث تاريخية، وتغيرت فيه أمم وظهرت فيه دول، لا تتذكر منها السيدة أم إسماعيل، كما يحب أن يلقبها مرضى الدار، شيئا.

تمتلك أم إسماعيل ابتسامة خافتة لا تعكس حجم الوحدة التى تبدو عليها بعد أن استكملت عامها الثامن فى الدار، وحيدة بلا رفيق ولا قريب داخل تلك الغرفة الموحشة التى تنعدم فيها مظاهر الحياة والسعادة بعد أن تخلى عنها أبناؤها.. فهى لا تذكر أسماءهم، ولكنها تذكر عددهم.. ثلاثة أولاد وبنت.

تقول أم إسماعيل لم يزرنى أحد منذ خمسة أعوام، تتذكر عدد السنوات جيدا فتصف كل يوم يمر عليها بسكين يقطع أجزاء من قلبها، تتمنى أن تخرج مجددا إلى الحياة وتذهب إلى النادى كما اعتادت يوميا ومعها أطفالها يلعبون ويمرحون، وترى فى أعينهم الفرحة لتعود السعادة وتطرق بابها.

لا تتذكر السيدة أم إسماعيل عمرها، لكنها تقول إنها عاشت قبل أن ترى القدس محتلة واليهود يسيطرون عليها وأن تكون هناك دولة اسمها إسرائيل وتؤكد أنها متابعة لجميع ما يحدث فى مصر وأنها شاركت فى استفتاء الدستور الأخير بعد أن طلبت من مرافقها أن يصطحبها إلى لجنتها الانتخابية لتصوت بنعم.

وتقول أم إسماعيل إنها لن تتقاعس عن النزول للانتخابات الرئاسية مثلما فعلت فى استفتاء الدستور، ورغم أنها لا تعلم أحدا من أسماء الراغبين فى الترشح للرئاسة فإنها ستنتخب «جمال عبدالناصر» لأنه حفظ كرامة هذا الوطن، وجعلنا نفتخر بأننا مصريون «والكل بيعملنا ألف حساب».

تتمنى أم إسماعيل أن ترى أولادها مرة أخيرة قبل أن تقابل ربها فتحتضنهم وتجلس معهم وتستمع بمشهد السعادة، وهى تملأ أعينهم من جديد.

«ألزهايمر» مثل الغول أو الوحش يولد مفترسا ولكنه ضعيف، وكلما كبر زاد عنفا وشراسة» جملة حملتها إحدى الدراسات الحديثة حول المرض.

يوضح الخبير النفسى، الدكتور محمد عبدالمنعم، أن مرض ألزهايمر يتمتع بأهمية خاصة بين الأمراض النفسية لعدة أسباب أهمها عدم وجود علاج له حتى الآن، وزيادة عدد حالاته كل عام، حتى إن دراسة عالمية أخيرة فى اليابان توقعت أن يصبح 50% من الشعب اليابانى مصابين بمرض ألزهايمر مع حلول عام 2050، وهو ما يضع اليابان على مصاف الدول الأكثر اهتماما بمواجهة هذا المرض واكتشاف علاج له.

ويضيف عبدالمنعم: نوعية المرض وأعراضه يجعل منه مرضا مهما أيضا بالإضافة إلى أن أغلب من هم فوق الستين عاما يخافون من إصابتهم بالمرض نظرا لأنه مرتبط بتقدم السن.

ويتابع عبد المنعم: «هناك عدة اعتقادات خاطئة حول مرض ألزهايمر، أولها اعتقاد كثيرين أنه مرحلة من مراحل الشيخوخة، وهو أمر خاطئ، والحقيقة أن احتمال الإصابة به يتزايد مع تقدم العمر، فنحو 5% من الناس فى سن 65 ــ 74 عاما يصابون بمرض ألزهايمر، بينما نسبة المصابين بالمرض بين الأشخاص فى سن 85 عاما وما فوق تصل الى نحو 50%.

ويشير عبدالمنعم «من ضمن الأسئلة التى تأتى على بال المرضى وذويهم هل ألزهايمر معد أو يعنى الجنون؟.. ويبقى السؤال الأبرز هل يمكن لمريض ألزهايمر أن يكون مؤذيا أو عنيفا أو حتى قاتلا؟، ويرى الخبير النفسى أن هذا الكلام غير صحيح، لأن مرض ألزهايمر داء يصيب خلايا المخ فيؤثر على الذاكرة وبعض جوانب شخصية المريض، لكنه لا يجعله عنيفا وفى بعض الأحيان يعتبر بعض تصرفات مريض الزهايمر العنيفة دليلا على الخطر، لكن هذه تصرفات ناجمة فقط عن إحساسه بالخوف والوحدة.

ويقول أستاذ الطب النفسى، أحمد ربيع: «تكمن مشكلة ألزهايمر فى صعوبة اكتشاف المرض فى مرحلة مبكرة خاصة أنه دائما ما يحدث خلط بين الأعراض الأولية للمرض وأعراض الشيخوخة، الأمر الذى يؤخر من فرص الكشف المبكر وتقديم العلاج والدعم النفسى للمريض.

ويضيف ربيع تتمثل الأعراض الأولية للمرض فى عدم قدرة المريض على تذكر الأشياء الحديثة ثم تكرار نفس الجمل والكلمات ثم تزداد الحالة سوءا فى صورة فقدان تدريجى للذاكرة وعدم القدرة على الكلام بشكل سليم، إضافة إلى حدوث تغير سريع للحالة المزاجية، كما يقل شعور المريض بحواسه، ويصاب بضعف تدريجى بوظائف الجسم، ويظهر على مريض ألزهايمر أيضا تغير فى طابع شخصيته، فيصبح مزاجه متقلبا وتنعدم ثقته فى الآخرين، ويتحول إلى شخص انطوائى يميل للاكتئاب والخوف.

ويشير ربيع إلى أن الأهل يقع عليهم عائق كبير فى مواجهة المرض والمساعدة فى تقليل توغله فى المخ، فالإصابة بالزهايمر ترجع لعدة عوامل أبرزها العامل الوراثى وكبر السن والإحساس بالوحدة خاصة بعد الخروج على المعاش بالإضافة إلى الإصابة بأمراض أخرى مثل ضغط الدم المرتفع وأمراض السكر.

ولمواجهة تلك المشاكل على الأسرة أن تمثل داعما رئيسيا للمريض، وتبحث عن جميع الطرق لإخراجه من الحالة الوحدة التى تصيبه مع الاعتناء الكامل له وإحساسه دائما بأنه ليس وحيدا بالإضافة إلى اشتغاله دائما بالحركة والخروج والعمل.

معلومات مهمة:

وصل عدد مرضى ألزهايمر 36 مليونا حول العالم عام 2010 طبقا لمنظمة الصحة العالمية.

اليابان أكبر الدول إصابة بألزهايمر بعدد 3 ملايين مريض.

توقعات بارتفاع نسبة الإصابة بألزهايمر فى عام 2050 لـ75 % من سكان الدول النامية والعالم الثالث.

يصل عدد مرضى ألزهايمر فى مصر لنحو 400 ألف حالة مع توقعات بارتفاع النسبة إلى 8% عام 2015 طبقا لتقارير غير رسمية.

عدد دور ومراكز الشيخوخة فى مصر يصل إلى 130 دارا، 36 منها فقط تتمتع بدعم الدولة.

أعلنت الأمم المتحدة 21 سبتمبر من كل عام يوما عالميا لألزهايمر.



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك