الصراع على الأرض (1-2) ماسبيرو منطقة عض الأصابع - بوابة الشروق
الخميس 17 يوليه 2025 8:48 م القاهرة

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

ما هي توقعاتك لمصير وسام أبو علي في المرحلة المقبلة؟

أضلاع المثلث الثلاثة: سكان.. حكومة ومستثمرون.. نشطاء

الصراع على الأرض (1-2) ماسبيرو منطقة عض الأصابع

الا يحق للفقراء ان يكونوا جزءاً من المدينة ؟ - تصوير : هبة خليفة
الا يحق للفقراء ان يكونوا جزءاً من المدينة ؟ - تصوير : هبة خليفة
كتبت ــ دينا درويش:
نشر في: الأحد 23 سبتمبر 2012 - 11:00 ص | آخر تحديث: الأحد 23 سبتمبر 2012 - 11:32 ص

الصراع على الأرض يبدو جليا فى مثلث ماسبيرو، خاصة بمنطقة «الشيخ على» و«أرمنتى»، تلك البقعة التى تمتد على مساحة 72 فدانا بين شارعى 26 يوليو والجلاء وكورنيش النيل. المشهد ملىء بالمفارقات. أطلال لبيوت تهدمت تجاور مساكن أخرى ما زالت تعج بالسكان، شروخ تزحف على جدران المنازل لعدم سماح الحى بمنح تراخيص للتنكيس بحجة «الخطورة الداهمة» على حياة السكان. أيادى الأهالى مكتوفة، لكنها تضمد جراح الحوائط. يشعر عم إبراهيم بنوع من الراحة النفسية عندما يسد الشروخ بقليل من الأسمنت المسلح. النقاش السبعينى مبسوط لأنه نجح فى إخفاء أحد الشروخ التى تهدد منزله وماضيه.. وهو مصرّ على أن يكون هذا البيت مقبرته.

 

رغم الصمت الذى يخيم على المكان، إلا أن كواليس المشهد ساخنة. ثمة إرادات كثيرة تتناحر من أجل البقاء، ولكل الأطراف تبريراتها التى تسعى أن تضفى عليها صبغة أخلاقية. هدأت الزوبعة نوعا ما منذ ثمانية أشهر بعد قرار المحافظة بتخصيص خمسة أفدنة من المساحة الكلية لمثلث ماسبيرو لتأوى قرابة 3166 أسرة، على أن يمكث المهجرون بشكل مؤقت فى مخيمات إيواء لحين إتمام مشروعات البناء. هذا بالإضافة إلى تخصيص الجزء الباقى من أجل إقامة مشروعات استثمارية وسياحية أخرى. هدنة مؤقتة؟ حل وسط بين الشركات المالكة وسكان المنطقة؟ ربما، لكن ما زالت هناك أمور تحدث فى الخفاء بغرض جنى الغنائم من قبل أطراف الصراع سواء رجال أعمال أو أهالى المنطقة أو المنظمات الحقوقية.

 

على مقهى السعادة بشارع زهرة الجمال، يقضى شباب ائتلاف ماسبيرو أمسياتهم. تتلاقى إرادة محمد شعبان مكى ـ المدرس الثلاثينى ـ والمحامى الأربعينى فاروق أبوالحسن، حيث يجتمعان لمناقشة تطورات الوضع بمثلث ماسبيرو. النزعة البولاقية للجارين أقوى من الاختلافات الحزبية بين كل منهما، فمكى كان عضوا سابقا فى الحزب الوطنى حتى عام 2006، بينما أبوالحسن عضو فى جماعة الإخوان المسلمين منذ عام 1980. «أنا فلول معارض»، هكذا يحب مكى أن يعرف نفسه. فقد تمرد منذ أكثر من 6 سنوات على مخططات أقطاب الحزب الوطنى من رجال الأعمال الذين أطلقوا مشروع 2050 بحجة تطوير القاهرة ومواجهة الزيادة السكانية، بعد أن أصبحت العشوائية هى أبرز سماتها.

 

 منذ ذلك الوقت، بدأت حركة شعبية تنشط فى مثلث ماسبيرو من شباب المنطقة المثقفين من جميع الأطياف السياسية. ربما ظهور البلدوزرات فى المكان وبداية أعمال الهدم لمنازل الجيران والإخلاء القسرى للأهالى قد أعطى شرعية ودفعة أكبر للحركة الشعبية. فالفكرة التى بدأت بمبادرة شخصية من مكى، الابن الضال للحزب الوطنى المنحل، بدأت تتبلور وتأخذ شكل دعوى للنضال الجماعى. «كنت مع بداية تكوين الائتلاف أشعر اننى أسبح ضد التيار. ففكرة البقاء بماسبيرو كانت حلما بعيد المنال، والمستقبل ضبابى». فكرة مثالية تتفق مع مفهوم الفيلسوف الفرنسى التقدمى هنرى ليفيفر الذى صاغه فى كتابه «الحق فى المدينة» خلال الستينيات، ويقصد به الحق فى «تغيير أنفسنا عن طريق تغيير المدينة». هذا الحلم الذى داعب أيضا خيال مكى كاد يزج بصاحبه فى المعتقل كى يختفى من مسرح الأحداث، خاصة عندما كان يتصدى لبلدوزرات الحى. فى هذه الأثناء كانت الشركات تعكف على بث فكرة أن المنطقة سيتم إزالتها وأن السكان لابد وأن يخرجوا بالاتفاق، بدلا من أن يخرجوا عنوة بعد ما تسقط منازلهم على رءوسهم. وقد كان لهذا الفريق بطبيعة الحال رجاله الذين كانوا يعملون على إشاعة فكرة الخروج من المنطقة.

 

حلاق ووسيط بيع

 

«مين عايز يموت ؟» هكذا يبدأ عم ف. الحلاق كلامه. بمجرد أن يحصل على رأس الزبون، يبدأ فى الحديث معه حول ضرورة الرحيل لأن البيوت متهالكة. وهو يعترف أن مهمته تكون أصعب مع السكان المقيمين فى حكر أكثر ممن يملكون الأرض « فالمالك عادة تكون رغبته فى بيع الأرض أكبر، خاصة وأن معظم الشقق تعمل بنظام الإيجار القديم، وبالتالى فإن الريع الشهرى للعقار قد لا يتعدى المائة جنيه، بينما إذا باع الأرض فقد يصبح من أصحاب الثروات. أما سكان الحكر فهم لا يملكون سوى جدران المنازل دون ملكيتهم للأرض وتعويضهم بالتالى قد لا يرضيهم». لذا يبذل عم ف. مجهودا مضاعفا مع هذه الشريحة. وهو يلعب اليوم دور الوسيط بين بعض الأهالى والشركة بهدف إقناعهم بفكرة الإخلاء، ويحاول أن يجلب للساكن أعلى سعر ممكن للأرض قد يصل لخمسة آلاف جنيه للمتر الواحد وهو رقم قياسى لأن سعر المتر كان 500 جنيه من عشر سنوات.

 

نوايا الرجل لا تتضح بشكل مباشر إلا عندما يشعر أن الزبون يريد بالفعل بيع منزله، بينما قد لا يكشف أوراقه لمن يؤمنون بضرورة استمرار وجودهم فى المثلث. تتحرك أنامل الرجل ببراعة على رأس سعيد أحمد، فنى التكييف الثلاثينى. يفاتحه «المزين» بالحديث عن حالة البيوت المتهالكة وضرورة توفير معاملات الأمان، ويقول سعيد: «بيتى متين للغاية، عندما أدق مسمارا فى الحائط لا ينثنى من صلابة الجدران». يتلون إذا كلام عم ف. ويؤكد أن حالة البيوت ليست متشابهة، فهناك منازل قد تم تشييدها من الطين.

 

يتجول الثنائى أبوالحسن الذى يتولى الملف القانونى ومكى الذى يعكف على الحشد الشعبى فى دهاليز مثلث ماسبيرو، حيث نجح الائتلاف فى تكوين رأى عام قوى داعم لفكرة البقاء. يقول مكى: «رغم أن 80 فى المائة من السكان لا يرغبون فى الرحيل، إلا أنهم كانوا على الوشك الخضوع للضغوط والدعاية المضادة التى تمارس عليهم بهدف إشاعة روح اليأس واعتبار فكرة الخروج من ماسبيرو أمرا واقعا. لكننا اليوم بفضل جهود التوعية والتواجد المستمر فى الشارع استطعنا إقناع 80 فى المائة منهم بفكرة التطوير بدلا من التهجير، بينما كانت النسبة لا تتعدى الـ20 فى المائة سنة 2008». فقد استطاع الائتلاف الذى دشن مؤخرا صفحة على مواقع التواصل الاجتماعى من تدويل القضية وكسب تعاطف 17 منظمة دولية. يقول مكى: «منظمة العفو الدولية اعتبرت الإخلاء القسرى للسكان من المناطق العشوائية انتهاكا لحقوق الإنسان. وفى تقرير أخير لها أقرت أن مشروع 2050 الذى كان يعتبر فى فترة ما من أسرار الدولة العليا، هو بيزنس خاص كان من المفترض أن يتم على حساب الفقراء دون أن يكون له علاقة بالمنفعة العامة». ثم يؤكد عم مكى على دور المحامى ـ الناشط ـ شريف أحمد ـ المسئول عن ملف مثلث ماسبيرو بالمركز المصرى لحقوق السكن، لافتا إلى أن المركز يتعاون مع الائتلاف لتدعيم الملف، فالأستاذ شريف، على حد قوله، يساعد سكان المنازل الذين تقدموا بطعون ضد قرارات الهدم، كما يتولى المركز توصيل صوت النشطاء فى الائتلاف للإعلام.

 

نظرية الست كريمة

 

أمام أحد المساكن القديمة، جلست كريمة عباس، السيدة الخمسينية، تتسامر مع إحدى جاراتها. تتجاذب النساء أطراف الحديث الذى لا يخلو من أخبار حارة الشيخ على. فالست كريمة تتلقى كل أسبوع زيارة من أحد الجيران الذين رحلوا للسكن فى النهضة بعد هدم منازلهم بماسبيرو. وتترحم على جارة أخرى ماتت لأنها لم تستطع أن تتكيف مع المجتمع الجديد، فالناس هناك يختلفون تماما عن البولاقية، على حد تعبيرها. «أليس لنا الحق فى العيش فى قلب العاصمة؟ أم أن الفقراء لا يجب أن يكونوا جزءا من المدينة الحديثة؟ هل يجب أن نتوارى فى الصحراء؟ سمعت ممن رحلوا أن رشفة المياه فى النهضة لها ثمن»، هكذا تلخص كريمة وجهة نظر قطاع لا بأس به من السكان الذين يفضلون مفهوم «التطوير بدلا من الترحيل».

 

فى المنزل المقابل لبيت الست كريمة، ترك محمود ـ صاحب العقار ـ المكان واستأجر شقة بالخصوص حتى تنتهى المعركة. وقد ترك المنطقة لأن إرادته ومصالحه قد تتعارض مع قطاع كبير من السكان، فإيجار شقق عمارته لا يدر عليه سوى الفتات. ويرى أن أخذ شقة على سبيل التعويض فى النهضة قد يكون أفضل بالنسبة له، خاصة أنه قد يبيعها لأحد موظفين الحى. يقول أبوالحسن: «الكل يريد أن يستقطع جزءا من التورتة. فقد كنا نفاجأ فى وقت التهجير أن عدد أسماء المهجرين فى القوائم يزيد على عدد من يقطنون العقار بالفعل، وهو ما يعنى أن هناك سماسرة بالمنطقة أو موظفين بالحى مدرجة أسماؤهم كى يحصلوا على الشقق، والتى يصل سعرها إلى 25 ألف جنيه».

 

تتدخل السياسية أيضا فى لعبة التوازنات، فأمام النار المتطاير وقف عم جمال، عامل اللحام الخمسينى، لكى يلصق قطعة من الحديد. هو أحد الوجوه البارزة فى المنطقة بسبب نشاطه الكبير فى الحشد والتعبئة وقت الانتخابات. كما أنه ناشط قوى بمجال العشوائيات، يتعاون مع الائتلاف لدعم فكرة التطوير. لا يفوت عم جمال مناسبة للتفاوض من أجل الحصول على وعود بتطوير المنطقة مقابل تجميع أصوات انتخابية. ويعرف العديد من «كذابين الزفة» الذين عملوا تحت عباءة الحزب الوطنى فى الدورات الانتخابية السابقة ثقل الرجل ومدى تأثيره، لذا لم يتردد أحد رجال الأعمال فى التفاوض مع الرجل كى يدعم مرشح الحزب فى هذه الدائرة. «لقد وعدنا رجل الأعمال الذى يمتلك نصيبا كبيرا فى أراضى المثلث أنه سيحقق لنا ما نريد إذا ما نجح مرشح حزبه. لكننى رفضت الدخول فى صفقة أخرى كانت تهدف لترميم 116 منزلا بالمثلث شريطة أن نقوم بقطع الطرق والقيام بأعمال شغب، لأننى لا أريد أن نخسر تعاطف الرأى العام ويتم وضعنا فى سلة البلطجية، فعلى العكس كانت الوقفتان الاحتجاجيتان الأخيرتان فى منتهى التحضر والرقى».

 

وسط كل هذه الصراعات تتنوع الوسائل من أجل فرض أمر واقع، ويبدو أن للشباب هنا كلمة أخيرة. على أطلال أحد البيوت التى هدمت قبل الثورة، أقام مجموعة من الشباب ناديا صغيرا فى الزاوية. أعلام نادى برشلونة ترفرف فوق طاولة بلياردو قام الشباب بشرائها بعد أن تعاونوا على رفع الأنقاض وتنظيف المكان، هل فى ذلك تعبير عن رفضهم لمبدأ الرحيل؟ ربما، فقد عاد أحمد مجدى، المراكبى الشاب، بعد أن ترك شقة النهضة ليستأجر حجرة صغيرة فى مثلث ماسبيرو، ويؤسس هذا النادى مكان منزله القديم.

 


 

   موقعة البلدوزر

 

 «هذا اليوم سيظل فى ذاكرتى طول حياتى.. كنت كالمجنونة.. أهرول دون وعى فى الشارع، أحاول أن أقاوم دون جدوى، وأتصدى بجسمى النحيل لعجلات البلدوزر العملاقة. كانت ابنتى تنام فى حجرتها، بينما كنت أضع أحد الأوانى على النار كى أعد طعام الغذاء، سمعنا فرقعة الجدران بسبب الصدمات المتتالية التى سددها البلدوزر لبيت الجارة العجوز، تماما كما لو كان ملاكما محترفا وعفيا ينازل رجلا مسنا»... تتذكر روحية موقعة البلدوزر، على حد تعبيرها تيمنا بموقعة الجمل الشهيرة، فقد أعقبتها بأيام معدودات.

 

حارة محمد قاسم، بمنطقة الشيخ على، هى أكثر حارات مثلث ماسبيرو التى شهدت تكرارا لأعمال الهدم... شبح البلدوزر ما زال يتراءى للباقين من السكان كعفريت العلبة، فمن ضمن ثلاثين منزلا التهمت البلدوزرات أكثر من 22، ولم يبق على سطح الأرض سوى ثمانية فقط. يقول سيد، أحد سكان الحارة الذى نجا بيته بأعجوبة: «لم نكن ندرى على من سوف يأتى البلدوزر فى الصباح المقبل، وكأننا ننتظر وباء الكوليرا خلف الأبواب. فقد كانت هناك خطة ممنهجة من قبل الحى، حتى أن أعمال الهدم كانت تتم فى نفس الوقت فى مناطق متفرقة وبطريقة عشوائية فى آن واحد حتى لا يتجمهر الناس. البلدوزرات كانت تنتشر كالجراد بمثلث ماسبيرو».

 

 

حالة انتظار مستمرة - تصوير : هبة خليفة

 

 البلدوزر يرجع للذاكرة مشهد الصراع بين القيمة والمادة فى مسلسل «الراية البيضاء»، أحد الأعمال الدرامية الناجحة لأسامة أنور عكاشة، وهو تجسيد للثلاثى (رجال الأمن ـ مسئول الحكومة ـ مهندس الحى) الذى طالما ما أرعب الناس لأنه كان يمارس على سكان ماسبيرو شكلا من أشكال القهر النفسى ويعد امتدادا لحالة الإرهاب الفكرى الذى كان يعيشها المجتمع بأسره، كما يرى حسين، الناشط الحقوقى بالمنطقة. من حارة ريحان إلى منطقة أرمنت، يبدو مسكن الست رقية كالجزيرة المنعزلة وسط أكوام الهدم. استجابت السماء لصلوات هذه السيدة الستينية ونجت بمعجزة من الوحش، فقد تزامن اليوم المزمع فيه إزالة منزلها مع بداية اندلاع ثورة يناير. وهى تقول: «كلما رأيت هذه الأنقاض أسجد حمدا لله، لأننى كدت أواجه نفس المصير. وأجد صعوبة فى رسم شكل حياتى فى المكان الجديد الذى كنا سنعيش فيه».

 

 

التهجير والمصلحة العامة: حرب الكل ضد الكل

 

 

الدويقة ترفع شعار : احذروا غضب مــن ضاع حقه

 

 

 



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك