قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل: معركة السادات مع «مراكز القوى» والرهان على واشنطن للوصول للحل السلمى (3) - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 4:03 م القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل: معركة السادات مع «مراكز القوى» والرهان على واشنطن للوصول للحل السلمى (3)

السادات وكيسنجر
السادات وكيسنجر
عرض ــ خالد أبو بكر
نشر في: الخميس 23 أكتوبر 2014 - 11:02 ص | آخر تحديث: الإثنين 27 أكتوبر 2014 - 12:52 م

• السادات اقتنع بأنه إذا حل القضية دون أن يحارب سيدخل التاريخ باعتباره «رئيس السلام»

الرئيس الراحل رأى أن واشنطن تملك مفاتيح الحل ففتح معها قنوات اتصال سرية والمخابرات رصدتها

الطلقة الأولى فى المرحلة الحاسمة بين السادات ومجموعة القوة والسلطة هى أشرطة التسجيل التى جاء بها زائر ما بعد منتصف الليل وسلمها  

   للرئيس

الطلقة الثانية هى قرار الرئيس بإبعاد على صبرى من جميع مناصبه

هيكل اقترح على الرئيس مفاتحة الليثى ناصف ورئيس الأركان بشأن قلقه من مراكز القوى

مراكز القوى تصر على الحرب والسادات يجهز مبادرة تتضمن انسحابا جزئيا من سيناء

تركز هذه الحلقة من القراءة التى تقدمها «الشروق» لكتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» للكاتب الصحفى الكبير محمد حسنين هيكل على محورين رئيسيين وشديدى التقاطع فى آن، المحور الأول مرتبط بمساعى الرئيس السادات للبحث عن حل سلمى للصراع مع إسرائيل عقب توليه رئاسة الجمهورية، والثانى مرتبط بصراعه مع الشخصيات التى كانت تمسك الكثير من خيوط السلطة فى مصر فى أعقاب رحيل جمال عبدالناصر، والتى عرفت فيما بعد باسم «مراكز القوى».

وفق هذه المعطيات جاء عنوان الفصل الثالث من الجزء الأول تحت عنوان «البحث عن معجزة»، وفى بداياته يقول الأستاذ هيكل «مع الشهر الثانى من بداية رئاسته وتسلمه لسلطاته الدستورية كان الرئيس أنور السادات قد بلور أفكاره، واتضحت أمامه خطوط حركة وجدها أقرب إلى تحقيق أهدافه، أول هذه الخطوط أنه كان يريد أن يتجنب ضرورة الحرب، ويريد أن يستنفد كل إمكانيات الحل السلمى، وهو يشعر أن الناس تريد ذلك منه. وإذا استطاع «أن يحل القضية بدون أن يملأ قناة السويس بالدم بدلا من الماء» فإنه سوف يدخل التاريخ باعتباره «رئيس السلام».

غلاف كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» للكاتب الصحفى الكبير محمد حسنين هيكل

ثانى هذه الخطوط أنه مطالب بأن يجد طريقا يؤدى إلى اتصال مباشر مع الولايات المتحدة الأمريكية، فهى التى تملك مفاتيح الحل، لأنها هى القادرة وحدها على إسرائيل، واستقر على «أن الوصول إلى الأمريكان يكون من باب السعودية».

ويرصد الكاتب الكبير محاولتين للسادات للتواصل مع الأمريكان، أولاهما عبر القناة السعودية، متمثلة فى لقاء جمعه مع كمال أدهم، رئيس المخابرات السعودية، وصلة الوصل بين المملكة وبين المخابرات المركزية الأمريكية. وانتهى اللقاء دون أن يحقق السادات المرجو منه؛ لأن أدهم قال له ما ملخصه «إن الامريكان منزعجون من الوجود السوفييتى فى مصر، وأن أى اقتراب لهم من أزمة الشرق الأوسط سوف يظل محكوما بهذا الانزعاج».

وقال السادات بعد نهاية المقابلة «قلت لكمال أدهم إننى أتعهد للملك فيصل بخروج السوفييت من مصر إذا خرج الإسرائيليون من سيناء، أما قبل ذلك فأنا لست على استعداد لأن أعرى نفسى!». وهو ما تسبب له ــ بحسب «الأستاذ» ــ فى مشكلة حقيقية «كان من حوله بعض الذين كانوا يشكون فيه من الأصل. وضايقهم أن يقابل كمال أدهم دون تشاور معهم، مع أن أجهزة السلطة كانت قد رصدت المقابلة. واستفزهم ذلك الوعد الذى قطعه أنور السادات على نفسه رغم تأكيده أنه جاء فى معرض حديث عام مرسل».

أما المحاولة الثانية للتواصل مع الولايات المتحدة فكانت عبر قناة مصرية سرية هى عبدالمنعم أمين الذى اختير عضوا لمجلس قيادة الثورة فى أيامها الأولى، ثم عين بعد ذلك سفيرا فى «لاهاى». وكان القائمقام «عبدالمنعم أمين» فى الشهور المبكرة بعد الثورة يمسك بخيط من خيوط الاتصال مع السفارة الأمريكية فى القاهرة، وكان الموضوع الذى يدور حوله البحث هو مفاوضات الجلاء مع الانجليز.

ويرى الكاتب الكبير أنه «فيما يبدو فإن أمين بعد جلسة طويلة مع السادات عرض عليه فكرة أن يقوم نيابة عنه بالاتصال مع الأمريكان، ويبدو أن الرئيس السادات لم يمانع، ولعله أراد أن يجرب. فاتصل بالمستر «دونالد بيرجيس» القائم على شئون رعاية المصالح الأمريكية تحت مظلة السفارة الإسبانية فى مصر ثم اتصل أيضا بالمستر «يوجين ترون» وهو يومها ممثل وكالة المخابرات المركزية الأمريكية تحت غطاء سياسى يضعه فى كشف أعضاء البعثة الدبلوماسية للولايات المتحدة الأمريكية فى القاهرة «مكتب رعاية المصالح».

ويؤكد على أنه «لم يكن السادات وقتها يعرف ما فيه الكفاية عن القدرات التى بلغتها المخابرات المصرية، والحقيقة أن هذا الجهاز الكبير كان قد حقق لنفسه مستوى عال فى مجال الأمن القومى، وقد وصلت كفاءته إلى حد أنه تمكن من وضع أجهزة تنصت وتسجيل فى بيت ومكتب القائم على شئون المصالح الأمريكية «دونالد بيرجيس»، وقد شملت الرقابة كل غرفة فيه، بما فى ذلك مكتب ممثل وكالة المخابرات المركزية الأمريكية «يوجين ترون» ومسكنه أيضا. وبالطبع فإن السيد «عبدالمنعم أمين» لم يكن يعرف.

وجرى تفريغ شريط المقابلة فى نفس اليوم وإرساله إلى من يعنيهم الأمر، وأرفق الأستاذ هيكل نص المقابلة كاملة فى الكتاب، ويعلق فى النهاية بقوله «ولم يحدث شىء، ولم يكن معقولا بهذه الوسائل أن تتحقق أهداف أو غايات».

الحرب بين القول والفعل

«الحرب بين القول والفعل»، هذا هو عنوان الفصل الرابع من الجزء الأول من الكتاب الذى بين أيدينا، وفيه يظهر بوضوح ذلك الصراع المحموم على السلطة بين السادات، ومجموعة ممن يمسكون الكثير من خيوط هذه السلطة، وكانوا يشكون فى قدرة السادات على قيادة مصر.

وهنا يقول «الأستاذ»، «كان الأسبوع الأول من فبراير يقترب، ومعه الموعد المحدد المعلق فى الهواء كسيف خرج من غمده وارتفع، وهو يوم 6 فبراير 1971، موعد انتهاء الأجل المحدد لوقف إطلاق النار. وكان هناك فى مصر طرفان لكل منهما قول فى الأمر، الأول يريد مد وقف إطلاق النار؛ لأن الظروف والتسليح الموجود لدى مصر لا يسمح لها باستئناف العمل العسكرى، وقول يذهب إلى أنه لا مفر من كسر وقف إطلاق النار فى الموعد المرتقب، مهما كان أو يكون. وكان لأصحاب هذا القول أسبابهم، فقد عقدوا اجتماعا حضره السادة على صبرى (نائب رئيس الجمهورية) ومحمود رياض (وزير الخارجية)، والفريق أول محمد فوزى (وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة) وعبدالمحسن أبوالنور (الأمين العام للاتحاد الاشتراكى) وشعراوى جمعة (وزير الداخلية)، ومحمد فائق (وزير الإرشاد) وسامى شرف (وزير شئون رئاسة الجمهورية)، ومرفق بالكتاب نص وثيقة اجتماعهم وما دار فيه. ولم يدع الرئيس السادات إلى هذا الاجتماع، ولم يعرف عن تفاصيله شيئا فى وقته.

فى الوقت الذى كانت هذه الشخصيات النافذة تصر على كسر وقف إطلاق النار، كان السادات يفكر بطريقة مغايرة تماما، وفى هذا يقول الكاتب الكبير «يوم 25 يناير 1971 قام الرئيس السادات بدعوة محمد حسنين هيكل إلى لقائه، فقد كان يريد أن يناقش معه خطوط خطابه أمام مجلس الأمة يوم 4 فبراير، وأهم ما فيه أنه كان مطالبا فى سياقه بأن يعلن موقفه الرسمى من وقف إطلاق النار: يكسره أو يلتزم به لمدة أخرى، أو ماذا؟

وخلال الحديث، ظهر أن تفكير السادات وصل إلى مبادرة يريد إعلانها.


السادات يتصفح أوارق ما عرف بـ«مؤامرة مراكز القوى»

ــ إنه يريد أن يطالب إسرائيل علنا بإتمام انسحاب جزئى لقواتها من الضفة الشرقية للقناة خلال ثلاثين يوما كمرحلة أولى ضمن جدول زمنى محدد لتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 242.

وإذا تحقق ذلك، فهو على استعداد للعمل فورا على البدء فى أعمال تطهير قناة السويس وفتحها للملاحة «وكان تقديره أنه بذلك يأخذ فى جانبه النقيض: السوفييت وشركات البترول الأمريكية إلى جانب الحصول على دخل القناة لكى يخفف من أعباء المعركة على الناس». علما بأن هذه الفكرة كان قد سبق أن طرحها موشى ديان، وزير الدفاع الإسرائيلى قبل عدة أسابيع، وعندما ذكّره هيكل بذلك قال إنى «أقبل هذه المبادرة لأنها مبادرة ديان»، وكانت دوافعه فى ذلك أنه يريد أن يتجنب عملية العبور التى كانت التقديرات وقتها تقول إن تكلفتها ستصل إلى 15% من رجالنا، وكانت إسرائيل قد بدأت فى بناء خط بارليف، وكان تدفق السلاح من الاتحاد السوفييتى محدودا.

ويواصل «الأستاذ»، «فى الساعة العاشرة والنصف من صباح يوم 4 فبراير واجه الرئيس السادات موقفا عصيبا شهده صالون رئيس الجمهورية فى مجلس الأمة. ذلك أن الذين كانت فى يدهم مفاتيح القوة والسلطة عرفوا بما ينوى قوله فى خطابه، وأقاموا له على حد تعبيره «محاكمة ميدانية».

وفى نصف الساعة السابقة على دخوله إلى قاعة مجلس الأمة لإلقاء خطابه، كانت صفحات هذا الخطاب مبعثرة على مائدة. والأيدى ممتدة إليها تتناولها بالشطب والتعديل. وجرى ذلك كله أمامه، وحاول أن يشرح دون فرصة. وعلى أى حال فإن الرئيس السادات يومها تمسك بموقفه قدر المستطاع، وقال ما أراد أن يقوله فى معظمه».

الصراع يتأجج

لم ينته الأمر بالنسبة لموضوع كسر وقف إطلاق النار بعد، وهنا يقول الكاتب الكبير «ما كاد شهر مارس 1971 يقترب من نهايته حتى بدأ الإلحاح مرة أخرى فى موضوع كسر وقف إطلاق النار، وانعقد اجتماع لمجلس الأمن القومى يوم 26 مارس، ودارت فيه مناقشات واسعة. مناقشات حول ما يفرضه الالتزام الوطنى، وحول ما تقتضيه الكرامة المصرية والعربية، وحول سلامة النظام نفسه إذا بدا تقاعسه عن مطلب تحرير الأرض، مضافا إلى ذلك خطر أن تبرد حرارة الأزمة بتأثير استمرار الهدوء على جبهة القتال.

وفيما بدا من مسار الاجتماع فإن الرئيس السادات وجد نفسه ضمن أقلية يمكن أن توصف بـ(الانهزامية) وقرر أن يجارى، والنتيجة أن الاجتماع انتهى إلى قرار بكسر وقف اطلاق النار فى الأسبوع الأخير من شهر أبريل، والبدء فى عمليات عسكرية على طول الجبهة».

ويرى هيكل أن حالة الحصار المحيطة بالسادات وقتها كانت «أكثر استحكاما من مجرد مواجهة قرار بالحرب فى وقت لم تتوافر له إمكانياته سياسيا وعسكريا. وحتى نفسيا. فقد كان الصراع على السلطة يكاد يتحول إلى فتنة تلوح أشباحها فى اجتماعات التنظيم السياسى، وفى مجلس الأمة، بل وفى مجلس الوزراء».

ومساء يوم 30 مارس دعا السادات محمد حسنين هيكل إلى مقابلته فى بيته بالجيزة وتحدث السادات فيها عن هواجسه بشأن موقف القوات المسلحة من الصراع بينه ومراكز القوى. وطرح هيكل رأيه ومؤاده، أنه من المستحسن تطويق الفتنة بالحكمة، وتهدئة المشاعر وطمأنة الخواطر، لأن البلد لا يتحمل فى ظروفه الراهنة صراعات سلطة عنيفة وأن واجبه أن يحاول ولا يكف عن المحاولة فإذا نجحت محاولاته فهذا أفضل وإذا لم تنجح فالشرعية فى جانبه.

الكاتب الصحفى الكبير محمد حسنين هيكل

وأنه ليس للرئيس ما يخشاه من جانب الجيش، فهذا الجيش أعد نفسه لمهمة معينة، ولن يقبل أن يزج به فى صراع داخلى خاصة أن الصورة كلها معروفة خصوصا على مستوى القيادات، ومن باب الاطمئنان عليه أن يتحدث فى الموضوع صراحة مع الفريق الليثى ناصف قائد الحرس الجمهورى، فهذا الحرس لديه كتيبتان من الدبابات، وهو يستطيع إذا ألم بجوانب الموقف أن يحمى رئيس الدولة، ويجعل أى تفكير فى التعرض له بالقوة عملية مكلفة. ومن باب الزيادة فى الاطمئنان من الضرورى له أن يتحدث فى الموضوع صراحة مع الفريق محمد أحمد صادق، رئيس أركان حرب القوات المسلحة، ذلك أن صادق عارف بالأحوال، ولن يقبل بإقحام الجيش فيما لا دخل له فيه، وفى كل الظروف فإن وزير الحربية لا يستطيع تحريك لواء واحد بدون أمر يصدره رئيس أركان الحرب.

وأنه فى مطلق الأحوال فإن البلد من حقه أن يفرغ وينتهى من هذا النوع من صراعات القوى الخفية، وأن يتجه قدر الإمكان إلى مجتمع مفتوح تتحقق فيه سيادة القانون فوق مراكز القوة.

ويواصل «الأستاذ» بأن السادات اقتنع بهذا المنطق، وبدأ من باب الاحتياط ــ بما هو حال وعاجل، ورأى أن يتصل هو مباشرة بقائد الحرس. وكانت صلته به حتى هذه اللحظة عن طريق وزير الدولة لشئون رئاسة الجمهورية. وأما فيما يتعلق بالفريق «صادق» فإن الرئيس طلب إلى هيكل أن يقوم بالاتصال به باعتبار صلات ود بين الاثنين سابقة، ذلك أنه يخشى لو استدعاه أن تظهر نواياه، فى حين أن لقاءه مع الفريق «الليثى ناصف» سوف يبدو طبيعيا فى إطار العلاقة بين رئيس الجمهورية وقائد الحرس الجمهورى.

وفى ظرف عدة أيام كان السادات قد قابل الفريق ناصف الذى أثبت رجولته.. على حد وصف الرئيس السادات. فقد قال له «إنه كجندى ملتزم سوف يقوم بواجبه مع الشرعية الدستورية، وإن كان يرجو من الرئيس أن يبذل كل جهده حتى لا تصل الأمور إلى درجة الصدام بينه وبين «الجماعة».

وكان موقف الفريق صادق قريبا من ذلك فقد كان يعرف حقيقة ما دار فى اجتماع مجلس الأمن القومى، وكان واثقا أن أى عمل عسكرى فى هذه اللحظة سوف يؤدى إلى كارثة اسوأ من سنة 1967 وقد أراحه كثيرا أن يعرف أن السادات وافق على قرارات الحرب «الفورية» فى مجلس الأمن القومى مضطرا لكنه «الرئيس» فى خاتمة المطاف لن يسمح لقرار يراه غير مسئول بأن يجد طريقه إلى التنفيذ.

وفى الوقت الذى أعلن فى واشنطن أن وزير الخارجية «ويليام روجرز» سوف يقوم بنفسه بزيارة الشرق الأوسط بهدف البحث عن إمكانيات تسوية مرحلية أو حل جزئى كما كان يقال أيامها، كان السادات يستقبل زائرا دق باب بيته بعد منتصف الليل يحمل إليه تسجيلات ما يجرى فى بيته وفى مكتبه وكانت الأمور تتطور إلى مواجهة حاسمة بين الرئيس الجديد والذى لم يعد جديدا بعد سبعة شهور فى القصر الجمهورى وبين مجموعة القوة والسلطة المحيطة به والممسكة بكل المفاتيج وكانت المعركة التى عرفت فيما بعد بـ«مؤامرة مراكز القوى» على وشك أن تدخل مرحلتها الحاسمة.

ويرى هيكل أن الطلقة الأولى فى المرحلة الحاسمة بين السادات ومجموعة القوة والسلطة الممسكة بكل المفاتيح هى أشرطة التسجيل التى جاء بها زائر ما بعد منتصف الليل وسلمها للرئيس. وكانت الطلقة الثانية هى قرار الرئيس بإبعاد على صبرى من جميع مناصبه، وكان من سوء الحظ أن هذا القرار تصادف فى توقيته مع الموعد المقرر لوصول وزير الخارجية الأمريكية «ويليام روجرز». وبدا الإجراء مع صداقة على صبرى المعروفة للاتحاد السوفييتى وكأنه تضحية بكبش فداء على عتبة الباب قبل أن يخطو «روجرز» فوقها!».

وجاء روجرز وعقد مع السادات اجتماعا يوم 6 مايو 1971، وأرسل مساعده سيسكو إلى إسرائيل لاستطلاع رأى قيادتها فى مسألة الانسحاب الجزئى من سيناء، والسماح بحرية الملاحة فى القناة، وكان التفاوض حول انسحاب اسرائيل مسافة 40 كيلو شرقا، وعاد سيسكو إلى القاهرة، وقابل الرئيس بعد سفر روجرز، ومن ملابسات المقابلة ظهر فشل محادثاته فى إسرائيل، وبالتالى أزمة الشرق الأوسط وقفت مرة أخرى أمام الطريق المسدود.

ويؤكد الكاتب الكبير على أنه «لم تتح للرئيس السادات فرصة للتفكير والتدبر فيما انتهت إليه محادثاته مع روجرز، ثم لقائه مع سيسكو بعدها بيومين، لأن عاصفة من عواصف الخماسين هبت مثقلة بالأتربة والرمال على مصر، وتمثلت فيما عرف أثنائها وبعدها بقضية مراكز القوى، وانتهت هذه الأزمة يوم 14 مايو، وانجلت عاصفة التراب والرمال، وإذا بالرئيس أنور السادات على قمة القوة والسلطة فى مصر يمسك وحده بمفاتيحها لأول مرة».

هنرى كيسنجر

يعتبر هنرى كيسنجر، أحد اللاعبين الرئيسيين فى السياسة الخارجية الأمريكية بين عامى 1969 و1977، بحكم موقعه كمستشار الرئيس الأمريكى ريتشارد نيكسون لشئون الأمن القومى، ثم وزير خارجية بلاده (1973 - 1977)، وبحكم هذه المواقع ظهر كأحد أبطال رواية الأستاذ هيكل بشأن «أكتوبر 73 السلاح والسياسة»، ولذلك توقف كثيرا أمام تطور دخول كيسنجر إلى مسرح الشرق الأوسط، والذى كانت بداياته من خلال صراع بين كيسنجر ووليم روجرز فى عهد نيكسون.

هنرى كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق

ملامح هذا الصراع بين الرجلين المسئولين عن مطبخ السياسة الخارجية الأمريكية يعرضه «الأستاذ» فى معرض حديثه عن زيارة روجرز للقاهرة فى مارس 1971، من خلال مقابلة طلبها مع هيكل فى مكتبه بـ«الأهرام»، وفى ذلك يقول «الأستاذ»:

«لم يكن هناك فيما هو ظاهر وقت لمقدمات، ولذلك فإن روجرز دخل فى صميم اللقاء مباشرة قائلا: «إننى أتصور إنك تستطيع أن تفهم وتقدر ما سوف أقوله، ولذلك فأنا سوف أقوله راجيا أن تبقيه سرا وان تضعه فى بالك خصوصا وأنت تتحدث مع الرئيس السادات. إن بعض الناس وأنا أعرف من هم يلحون عليه فى إنه قد يكون من الأفضل له أن ينتقل الاهتمام بأزمة الشرق الأوسط من وزارة الخارجية إلى البيت الأبيض لكى يتولى هنرى كيسنجر حلها بوسائله المعروفة (يقصد بها اخراج أرنب من القبعة كما يحدث فى عروض السحر التى تقدم فى الملاهى).

وأنا أريد أن أقول إنه من الأفضل لكم أن تظل أزمة الشرق الأوسط فى وزارة الخارجية ولا يقترب منها هنرى كيسنجر. لا تظن أن المسألة خناقة بينى وبين هنرى، هو يتخانق مع الخارجية ولكنى لا اعتبر نفسى فى خناقة معه، وانا احاول أن أتجنبه وأتحدث مع الرئيس مباشرة. إن دخول هنرى إلى هذه الأزمة ليس فى صالحكم، وأنا أعرف أنه يتحرق شوقا إلى الدخول فيها، رغم أنه يصرح علنا بأنه لا يريد الاقتراب منها بسبب كونه يهوديا، لكن ما يقوله هنرى فى الظاهر ليس هو الحقيقة، إن كيسنجر رجل ليست له ولاءات، إن كل كائن حى له ولاءات. لكن المشكلة فى هنرى أن قائمة ولاءاته على النحو التالى (وراح روجرز يعد على أصابعه) ولاؤه الأول لهنرى كيسنجر والثانى لهنرى كيسنجر والثالث لهنرى كيسنجر ولاؤه الرابع لأى سيد يستعمل خدماته، وولاؤه الخامس لأمته.

وأبدى هيكل ملاحظة قال فيها «قابل بولائه لأمته ذلك لأن ولاءه لأمته سوف يجعله يعرف أن مصالح الولايات المتحدة كلها مع العرب»، وقاطعه روجرز: ماذا تقول؟ أمته ليست الأمة الأمريكية. ولاؤه لليهود».

ومن المفارقات أن السادات كان فى هذه الأثناء «يشعر أن الباب الأمريكى إلى الحل ما زال مفتوحا، لكنه بدأ يعود إلى شكوكه فيما يتعلق بقدرة وزارة الخارجية الأمريكية ووزيرها وليام روجرز على تحريك اهتمام أمريكى حقيقى بأزمة الشرق الأوسط، وكانت لديه مصادر كثيرة تؤكد له كل يوم إن إدارة السياسة الخارجية الأمريكية قد انتقلت نهائيا فى عهد نيكسون على الأقل من وزارة الخارجية إلى البيت الأبيض ومستشار الأمن فيه هنرى كيسنجر. كان كيسنجر قد أخذ فى يده خطوط أزمة فيتنام ودخل فى مفاوضات سرية مع الزعيم الفيتنامى «لى دوك تو» جرت فى باريس، وكان كيسنجر أيضا قد بدأ يستكشف الطريق إلى أبواب الصين، وكان هو الذى راح بكفاءة منقطعة النظير يهندس لسياسة الوفاق (بين موسكو وواشنطن) وراح يستقر فى وعى السادات يوما بعد يوم أنه إذا كان هناك حل فهو فى البيت الأبيض وليس فى وزارة الخارجية، وإذا كان فى البيت الأبيض فهو فى يد هنرى كيسنجر، وليس فى يد وليم روجرز» بحسب رواية الكاتب الكبير.

وأشار هيكل إلى أن السفير المصرى أشرف غربال فى واشنطن مقتنع بأن الأمل كله فى هنرى كيسنجر ولا أحد غيره وكانت تقاريره ورسائله إلى الرئيس السادات تلح كثيرا حول هذه النقطة فى تلك الفترة، و«فى يوم 2 نوفمبر اتصل الرئيس أنور السادات بهيكل وكانت الحماسة ظاهرة من أول كلمة نطق بها قال «محمد: أخيرا كيسنجر أدرك من الضرورى عليه أن يتصل بنا ثم استطرد قائلا: «هو يريد أن يقابلك.. إن أحد أصدقاء نيكسون اتصل بالزيات يقصد الدكتور محمد حسن الزيات مندوب مصر الدائم فى الأمم المتحدة) وتحدث معه فى ذلك، والزيات رأى أن يكتب خطابا بالتفصيل لفوزى (يقصد الدكتور محمود فوزى رئيس الوزراء) لقد طلبت من فوزى أن يطلعك على خطاب الزيات وأن يبحث معك كل ترتيبات سفرك إلى أمريكا.

وأبدى هيكل ملاحظة قال فيها للسادات ان لديه فكرة عن أن كيسنجر يريد مقابلته وقد كتب إليه أشرف غربال بتفاصيل اقتراح اللقاء والموعد والمكان المحددين له، كذلك كتب إليه صديق نيسكون (دونالد كاندال رئيس شركة بيبسى كولا العالمية) ولكنه أرسل برقية اعتذار. ثم استطرد الرئيس السادات يقول: «إيه ده؟ اعتذار إيه؟ ده كيسنجر يا محمد.. كيسنجر!».

وفى يوم 7 نوفمبر كان محمد حسنين هيكل ضيف عشاء على الرئيس السادات فى بيته، وقد جلس إلى مائدة العشاء وليس معهما إلا السيدة جيهان السادات، وبعد العشاء جلس الثلاثة فى شرفة الدور الثانى المطلة على النيل، وكان السادات يريد أن يعرف رأى هيكل فى لقائه مع كيسنجر، وكان هيكل لا يزال على رأيه فى أن الموقف لا يزال غير مناسب لمثل هذا اللقاء، وراح يعدد أسبابه لذلك:

أن الموقف العسكرى على الجبهة لا يزال على حالة، لم يتغير منذ أن كان وليم روجرز هنا فى مايو الماضى، وأن الموقف السياسى الدولى لا يزال هو الآخر كما كان لم يطرأ عليه جديد بل بالعكس فإن موقف الاتحاد السوفييتى يتأرجح.

وفى ظل الموازين الراهنة فإن إسرائيل والولايات المتحدة ورائها وكيسنجر بالطبع سوف يطلبون تنازلات لا تستطيع مصر تقديمها وفى كل الأحوال فإن ما هو جاهز لعرض تحت المائدة فى محادثات سرية مع كيسنجر لن يزيد على ما كان معروضا فوق المائدة فى المحادثات العلنية مع وليم روجرز.

وهو على الأرجح يريد اتصالات سرية مع مصر وسوف يقوم بتسريبها للاتحاد السوفييتى ليزيد من شكوكه فى مصر، بما يساعد على تليين موقفه فى أزمة الشرق الأوسط وهذا أمر لا ينبغى لنا أن نساعد عليه. وأخيرا فان كيسنجر بحكم كونه يهوديا لا يستطيع أن يكون موضوعيا فى أمر تعلق بإسرائيل.

ويؤكد هيكل على أن السادات «لم يكن على استعداد للاقتناع ودارت مناقشة طويلة استمرت حتى منتصف الليل، وتدخلت فيها السيدة جيهان السادات فى محاولة منها لتقريب وجهات النظر. وكانت الحقائق أقوى من المشاعر لسوء الحظ، ووصلت الأمور مرة أخرى إلى حائط مسدود وكان السادات عاتبا وربما أكثر من ذلك متضايقا».

اقرأ ايضا:

قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل: روايتى عن حرب أكتوبر تدور أساسا حول السادات (1)

قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل: مأزق السادات بعد رحيل عبدالناصر(2)



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك