فاطمة.. كلمة السر و«قنديل» العمر - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 7:49 ص القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فاطمة.. كلمة السر و«قنديل» العمر

الأبنودي مع أمه فاطمة
الأبنودي مع أمه فاطمة
كتبت – منى أبو النصر:
نشر في: الجمعة 24 أبريل 2015 - 11:17 ص | آخر تحديث: السبت 25 أبريل 2015 - 8:37 ص

ــ أنا ابن أمى فاطمة حافظة التراث.. معلمتى الأولى للفنون والحكايات الشعبية
ــ كانت صاحبة النبوءات الكبرى فى حياة الشاعر الكبير على رأسها زيجته الثانية من الإعلامية نهال كمال

«لسه بتحكى لهم بحرى حكاية فاطنة وحراجى القط؟».. سألت العمة «آمنة» ابن أخيها عبدالرحمن، سؤال ظاهره التحرى وباطنه كثير من الحنين والاشفاق من انسلاخ الابن الشهير عن عباءة الأم «فاطنة».. ربة الحكايات ومنهلها البكر لدى عبدالرحمن.
حكاية «فاطمة» فى سيرة الشاعر الكبير الذى رحل عن عالمنا عبدالرحمن الأبنودى لا يدانيها «ونس»، حكاية سكنت بنات أفكاره، وثكنات عقله الحاضر والباطن، ورغم رحيلها عنه لم تكن سوى حضورا محرضا على الكتابة والشعر..

حارسة الأغانى

هى فاطمة قنديل التى قال عنها الأبنودى يوما «أنا ابن أمى فاطمة قنديل وجدتى «ست أبوها».. كانتا فقيرتين إلى أبعد الحدود، غنيتين بما تحملان من أغانٍ وما تحرسان من تقاليد وطقوس هى خليط من الفرعونية والقبطية والإسلامية. أعتبر نفسى محظوظا أنى عشت مع هاتين المرأتين حياتهما ولم أتفرج على القرية من شرفة عالية ولا من خلف زجاج نافذة»..
فى المغرب
تفرط جتتها ف حلق الباب
كل النسوان فى ابنود فى المغرب
تقعد ع الاعتاب
وكلام المغرب لون المغرب
هدد اليوم واستنظار الرجالة
سيرة الميت
واستفكار الأحباب
تشاهد طيف «فاطمة» هنا فى مقطع أحد أروع قصائد الأبنودى «أحمد سماعين» التى يحاكى فيها الحياة والموت فى موطنه «أبنود».. طيفا من كل «نسوان» أبنود ساعة المغربية، ساعة الانتظار والتأمل الملعقتين على حلق الباب، باب كالذى ولد على أعتابه عبدالرحمن الأبنودى وأطلق أول صرخات طفولته فى «حجر» فاطمة.. فاطمة التى يحلو عند مقامها «استفكار الأحباب»..
كان صاحبى يا أمه
فى أحد لقاءات الأبنودى توقف كثيرا عند كلمة «الأمهات» معتبرا نفسه مسكونا بإيمان عميق بحراستهن، اللاتى تنساب صورتهن من طيف «فاطمة» حارسته الأمينة، وملهمته الأولى، التى سكنت أعظم بكائياته الشعرية وجدارياته الإنسانية، فتجده يلجأ لحضرتها عند الفقد والضياع، فهنا يلوذ بها من فراق صاحب «حنظلة»..
أماية... وانتى بترحى بالرحى
على مفارق ضحى
وحدك وبتعددى
على كل حاجة حلوة مفقودة
ما تنسينيش يا أمه فى عدُودة
عدودة من أقدم خيوط سودا فى توب
الحزن
لا تولولى فيها ولا تهللى
.. وحطى فيها اسم واحد مات
كان صاحبى يا أمه
واسمه
ناجى العلى
كانت فاطمة أو «قنديلة»، التى كان يؤنث لقب عائلتها «قنديل»، كانت مرجعية خصبة لفنون التراث والحكايات الشعبية التى اغترف منها الأبنودى سبائك ذهبية فى تاريخه الحافل، فقد كانت «قنديلة» من تلك السيدات اللاتى يسود حضورهن نغم موازٍ، وتفاصيل تراثية مدهشة، لا تدع مجالا للنسيان، فها هى تهديه قطعة من خصب أرض الصعيد..
شبهت رقبتها بنخلة فى الصعيد
إذا هبهبت لرياح بيزينها الجريد
شبهت رقبتها بنخلة فى العجب
إذا هبهبت لرياح بيزينها الرطب
يتذكر صباه وهو طالب فى مدرسة «فاطنة» المسكونة بالإيمان بالغيبيات، ذلك اليوم الـ«موعود» المرهون بمرض طيور الحمام بعد إصابته بـ«عين الحسود» وفقا لمعتقدات فاطنة، فللحمام لدى المرأة الصعيدية شأن عظيم، كمصدر للمال والرزق، بعد تربيته وبيع أفراخه، ما يجعله دائما عُرضة للحسد، الأمر الذى تتسلح ضده فاطمة بحرب ضروس كانت تشارك فيها الابن عبدالرحمن الذى تُلبسه فيه جلبابا أبيض وترتدى هى مثله، وتصعد «بنية» الحمام، وفى يدها بخورا يفوح برائحة ثقيلة الأثر، ما يثير فزع الحمام ويدور يلطم بأجنحته فوق رءوسهما، مثيرا معه فزع الطفل عبدالرحمن، فى حين لا تبرح فاطمة حالة الجسارة تلك بل وتزيد الرعب رعبا بصيحة «بووووه» مرددة رقياها لدفع الحسد
باطلق شيح
للحمام اللى كان مليح
باطلق عدس
للحمام اللى اتنَفَس
اللافت حسب الأبنودى أن صيحات وبخور فاطمة كان يبعث الحياة فى أجساد الحمام الخامل، ليعود إلى التفريخ من جديد، فاتحا معه باب رزق وفير لـ«فاطمة».
مراثى شعبية
«رُقية» فاطمة قنديل للحمام، خرزة فى عُقد الأغانى والمراثى الشعبية التى كانت تحصيها «قنديلة» بسهولة مطلقة، فقد كانت – حسب الأبنودى ــ تردد الأغانى الشعبية فى مختلف المناسبات بدءا من «هدهدة» الطفل استعدادا للنوم، وحتى وداع الميت، حتى أن أغنية «قال لى الوداع» التى كتبها لشادية كانت مستوحاة من أمه فاطمة، التى كانت تردد «قال لى الوداع.. قال لى الوداع.. حط ايده فى ايدى وقال لى.. الوداع قال لى».
حتى فى أحلك لحظات المرض لاسيما تلك التى ألمت بالراحل الكبير عبدالرحمن الأبنودى نفسه وهو طفل لسنوات طويلة، سلسلة أمراض كان سلاح مواجهتها آنذاك الصيدلية الشعبية من أعشاب وأحجار، وله أحاديث كثيرة عن تولى أمه مهمة تطبيبه بالكامل، وكما كانت تؤمن بسحر «الحمام» وترقيه كانت تؤمن بعين شريرة أصابت ولدها بـ«نزلة معوية» حادة، كان أهل البلد عندها يطلقون عليه «المصران المقطوع»، ما دفع فاطمة لإقامة مراسم تشبه «الزار» الذى ضم نساء البلد ليرددن وراءها.
يا شافى
يا عافى
شيل الأذى
من بطن واد فاطنة
من عشية منذ الليلة
يا عالم بالقصد والنية
خزق عين اللى قطعت مصرانه
وغيرت لحيته وألوانه
حسب الأبنودى فإنه يدين لأمه بـ«عبدالرحمن كله»، ليس فقط لكونها الأم فياضة الحنو والرحمة، ولكن لكونها كنزا لطقوس وغناء وبكائيات قريتها وأهل الصعيد بأسرهم، الذين ينتمى لهم شعر الأبنودى ويسكنه.
كما كانت صاحبة النبوءات الكبرى فى حياة الشاعر الكبير، على رأسها زيجته الثانية من الإعلامية نهال كمال، والدة بناته آية ونور، فكانت تقول له «والله يا ولدى ستكون زوجتك» وكان يندهش عبدالرحمن من قول فاطمة هذا خاصة أن نهال كمال كانت تراسله مذيلة خطاباتها بإمضاء «ابنتك نهال كمال» فيأتيه رد الأم محصنا بقناعة ربانية «الجواز ده قسمة ربنا ونصيبه».
وجوه فاطمة
رحلت فاطمة قنديل عن عمر 72 عاما، وحزن عبدالرحمن كثيرا على فراقها، وكأنما كان الحزن الأكبر فى حياته، لثقل الفقد، كان يحتفى بصورة كبيرة تجمعه معها فى صدر مندرته بالإسماعيلية، وظل اسمها يسكن شعره معتمرا قبعات عدة، كما فى حالة « فاطمة ـ أو فاطنة ـ أحمد عبدالغفار، زوجة «حراجى القط» فى ديوانه الشهير، فى «جوابات حراجى القط» أحد أشهر قصائد شاعر العامية المصرى، التى ظهرت للنور لأول مرة عام 1969م أخذت صدى واسعا بين العامة؛ لاسيما عندما أذيعت بعض الرسائل عبر إذاعة الشرق الأوسط وكان بطليها هما «حراجى القط» الفلاح الريفى البسيط الذى انتقل من قريته فى جبلاية الفار، إلى أسوان للعمل ضمن الآلاف للعمل بالسد العالى، وزوجته «فاطمة أحمد عبدالغفار» السيدة الريفية البسيطة، التى تحمل عقلا ووعيا مستنيرا، ودافعا قويا للحياة، ولمتلقى بارع لمرار زوجها فى الغربة.
عارفه يا مرتى الراجل فى الغربه يشبه إيه؟
عود درة وحدانى.. فى غيط كمون
وحقق الأبنودى تناغما بين بطليه فى واحد من أشهر «ديالوجات» الشعر العامى المعاصر..
زوجى حراجى
فوصلنا خطابك
شمينا فيه ريحة الأحباب..
ربنا ما يورى حد غياب
مش أول مره البسطاوى يخطى عتبة الدار ؟؟
عمرنا يا حراجى.. ما جلنا جواب .
النبى ساعة مرزوق البسطاوى.. ما نده..
كده زى ما كون.. دقت فى حشايا النار .
وكإن العمر بيصدق.. بعد ما كان كداب..
اتأخرت مسافه كبيرة كبيرة على
عارف فاطنه يا حراجى لاليها عايل.. ولا خى .
ليه تتأخر كده يا حراجى.. ؟
ست البلابل
فاطمة قنديل حارسة تقاليد الصعيد ومواريثه.. ظل عبدالرحمن يناديها فى كل صوب، مشبعا بتجربتها وزعامتها وعفويتها.. يملأ الكون بأنشوداتها.. وكان يستدعيها فى كل ضيق
وأمى.. والليل مليل
طعم الزاد القليل
بترفرف.. قبل ترحل
جناح بريشات حزانى
وسددت ديونها
وشرت كفن الدفانه
تقف للموت يوماتى:
«ما جاش ابن الجبانه»
أشد ف توبها يمى
تنهر كإنى عيل
القلب اللى تحجر
قوَال.. بطَل يموِل
لا الحزن عاد يبكِى
ولا الأحلام تنوِل
أمى ـ ست البلابل ـ
بتقول: «العمر طوِل
يا زمن كفايه حوِل
يا زمن برده يقرنص
وما حسبناش حسابه»
لو زارت أمى همى
بتطرد الكتابة



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك