«الحطابة عيلة واحدة.. كلنا نعرف بعض وكويسين مع بعض»، هكذا تستقبل أم محمود الصاعدين عبر الشارع المؤدى إلى حى الحطابة ــ أمام باب العزب المغلق على أحد مداخل قلعة صلاح الدين الخلفية ــ والذى كلما تقدم السائر فيها يرتفع به الطريق ويتفرع إلى حارات وأزقة لا تتسع سوى لراكب دراجة بخارية أو مترجل على قدميه.
من داخل كشكها للأطعمة السريعة تبدو أم محمود متوجسة من الغرباء القادمين رغم عبارات الترحيب، وتُلخص أزمة الثقة بين أهل الحى وهؤلاء الغرباء فى ردها: «هو فيه بلاغ ولا حاجة؟». وحين نسأل عن أحوال المنازل المعرضة للانهيار فى الحى وعن معلومات حول مشاريع لإقامة «حرم» للقلعة بإزالة المساكن المحيطة بها، ومنها مساكن حى الحطابة، الذى يقع على مساحة حوالى 35 فدانا، يؤكد عدد من أبناء الحى أن السنوات القليلة التى سبقت الثورة شهدت ضغوطا مكثفة على السكان فى محاولة لإخلاء المنطقة، تزامنا مع تردد أنباء عن وجود نية لتخصيص أرض المنطقة المحيطة بالقلعة لشركة فرنسية لبناء فندق ومنتزهات فى محيط القلعة.
«من ساعة ما وعيت ع الدنيا وهما بيقولوا هيهدّوا البيوت اللى هنا كلها..بس مبيحصلش»، هكذا يعلق محمود (22 سنة) الذى يعمل فى إحدى ورش الصدف بالمنطقة، مشيرا إلى أن عددا كبيرا من البيوت انهار من تلقاء ذاته خاصة أثناء زلزال 1992، وعدد آخر نفذت فيه أوامر إخلاء وإزالة ــ والحكومة لا تمنح تصاريح بإعادة بنائها. لكن الكثير من السكان قاموا بإعادة بناء منازلهم متحدين القرار المعلن بحظر البناء، ومتحدين أيضا المعلومات المبهمة عن هؤلاء الغرباء المجهولين الذين يسعون لإخلاء المنطقة والاستفادة من موقعها الفريد فى مشروعات لا يعلم السكان ماهيتها على وجه التحديد ــ وإن كانوا يكادوا يوقنون أنه لا مكان لهم فيها ولا مصلحة لهم فى تنفيذها.
فى منزل أم سيد الملاصق لسور القلعة يبدو الحديث مكررا عن محاولات إخلاء المنطقة، كما تقول هند ربة المنزل الشابة وأم لطفلين لا يكفا عن اللعب بين انقاض بيت مهدم مجاور لمنزلهم. «إيجار الشقة الأوضتين والصالة والحمام والمطبخ هنا 200 جنيه.. وعشر دقايق وأكون فى القلعة والسيدة.. لو مشونا من هنا هنروح فين؟». لا تبدو هند رافضة لخيار مغادرة الحى بشكل مطلق ولكنها حقا ترغب فى أن تطرح خيارات معقولة إذا كان الحديث عن إخلاء الحى لايزال قائما. فى حين ترفض أم سيد تماما الحديث عن مغادرة الحى: «محدش هيمشى.. هنا حياتنا وأكل عيشنا..فى ناس من اللى بيوتهم اتهدت الحكومة وديتهم مدينة السلام ومساكن النهضة، لكن دى فى آخر الدنيا..فى ناس منهم بعد ما راحوا، شوية ورجعوا هنا تانى». وترى أم سيد الحل فى ترميم المساكن أو إعادة بنائها وليس فى إزالتها. وتقول: «كتير من الناس اللى معاهم فلوس أعادوا بناء بيوتهم رغم حظر البناء فى المنطقة»، مشيرة إلى البيوت الحديثة التى لا يتجاوز عمرها عاما أو اثنين.
يتفق عدد كبير من السكان على امكانية تطوير المنطقة دون إجبار السكان على المغادرة، وإن كان البعض لا يبدو واثقا من أن هذا سيحدث بالفعل ويفضل أن يدعهم الجميع وشأنهم ليحيوا حياتهم كما يعرفونها. «ممكن يطوروها زى الدرب الأحمر وسبيل أم عباس وشارع المعز وحدائق زينهم.. وممكن يفتحوا باب عزب زى ما كان مفتوح زمان». يفكر محمود، صانع الصدف، أن تلك الحلول ستعود بالنفع على الجميع، فالصراع ليس حتميا بين أصحاب الأرض وأصحاب المشاريع وأصحاب القرار. هناك مساحة مشتركة يمكن أن تعود بالنفع على الجميع. «لو باب العزب مفتوح والمكان نضيف..الرجل هتكون كتير ع الورش والأجانب هيجوا هنا يشتروا».
الدخول بالمجان من باب العزب
أيمن الشاب الأربعينى، الذى يدير نادى الحطابة يتذكر جيدا تلك الأيام حين كان باب العزب مفتوحا وكان دخول القلعة مجانى. ويعتبر أن المشكلة هى ضياع تخطيط الحطابة بين محافظة القاهرة ووزارة الآثار ووزارة الثقافة، موضحا: «بدل ما يمنعوا تراخيص البناء، كان يمكن أن يتم وضع قواعد لبناء المساكن على الطراز الإسلامى بحد أقصى 3 أدوار، كان ذلك سيعود بالنفع على السكان وعلى نشاط السياحة فى المنطقة، وأيضا على زبائن المقاهى وورش الصدف والنجارة.. لا أريد أن اظلم أحدا..ولكن النوايا لم تكن خالصة (من أصحاب المشاريع)».
ورغم أن نادى الحطابة التابع لوزارة الرياضة مبنى حديث نسبيا ــ إذ بُنى عام 1976ــ إلا أنه كان فى حاجة إلى ترميم، فالشروخ أصابته بسبب عيوب فى البناء. «وزارة الشباب خصصت 150 ألف جنيه من شهرين لترميم مبنى النادى، لكن لايزال ينقصه الكثير»، فبالرغم من وجود ملعب للكرة وبعض صالات لرياضات أخرى، إلا أنه لا توجد به أنشطة أخرى ثقافية أو اجتماعية أو فنية، فالمجتمع المدنى لا يلعب أى دور هنا».
تقول الطفلة سما، الشقيقة الصغرى لمحمود، وهى تشير إلى مجموعة من المنازل المهدمة أمام ورشة الصدف: «يوسف الشريف كان هنا.. كان بيصوّر مسلسل رقم مجهول». فبالرغم من أن الكثيرين ربما لم يسمعوا عن حى الحطابة إلا أنهم شاهدوه عبر الشاشات، وكان مقصدا لعدد من مصورى الأعمال الفنية هذا العام (مسلسل رقم مجهول ليوسف الشريف وفيلما الألمانى وعبده موتة لمحمد رمضان)، وهو ما جعل عددا من السكان يظنون أن «الغرباء» يأتون دائما لتصوير فيلم آخر.
محمود المنهمك فى حرفته، ولا يهتم كثيرا بزيارات الممثلين، وربما لا يزعجه حال النادى كثيرا (وقد يقنع منه ببهجة الدورة الرمضانية للعب الكرة التى يستضيفها النادى لفرق منطقة الخليفة»)، إلا أنه ينزعج بشدة من حقيقة أن الحطابة ليس بها وحدة صحية ولا حتى عيادات خاصة: «أقرب دكتور فى السيدة عائشة.. إحنا منطقة عشوائية».
وهو ما تعلق عليه الدكتورة ــ ألفة طنطاوى ــ المنسق الإعلامى لمبادرة دستور من أجل التنمية ــ المنبثقة عنها مبادرة «ميثاق للتنمية والعمران»، إذ ترفض مصطلح «منطقة عشوائية»: «العشوائية ليست فى المكان ولا فى ساكنى المكان، العشوائية فى أسلوب الإدارة.. العشوائية هى أن أزيل منطقة يسكنها آلاف البشر لأبنى مكانها بضعة عمارات». يبدأ مشروع ميثاق التنمية والعمران بالتأكيد على أن «الشعوب ليست معوقة للتنمية بل هى أساس ومورد الإنتاج العمرانى، فالإنسان هو أعلى قيمة فى التنمية، كما أن الملكية هى دائما للشعب.. الدولة تدير فقط». وتعتبر د.ألفة طنطاوى أن الاستثمار الحقيقى يكون بتطوير القاهرة القديمة واستغلال الموارد الموجودة بها بالفعل، ما سيعود بالنفع على السكان أيضا. «فى كل الأحوال مخططات الدولة يجب أن تكون معلنة وشفافة، فمن حق المواطنين أن تتاح لهم المعلومات الكاملة، وأيضا البدائل المعروضة، وأن يتم استفتاؤهم ومناقشتهم وألا تتخذ أى قرارات (حول مصير منطقتهم) دون أن يكون هناك توافق مجتمعى بشأنها. «حتى لو لم يكن السكان يمتلكون وثائق تثبت تملكهم لتلك المساكن، يجب أن يكون لهم حق البقاء والحيازة، طالما ليست هناك ضرورة للإخلاء القسرى، فضلا عن أن الحق فى الجمال هو حق لجميع المواطنين الفقراء منهم كما الأغنياء.. تلك المناطق التى نقول عنها (عشوائية) لها الحقوق نفسها وعليها نفس واجبات الأحياء التى نقول عنها (راقية)..يجب التخلص من العشوائية فى التفكير والتى تتحول إلى (بلطجة) أحيانا يقوم بها الأغنياء ويدفع ثمنها الفقراء.. فتساوى الحقوق بين المواطنين هو ما يحقق مجتمع آمن».