آلبير آريه.. رحلة فى ذاكرة مدينة القاهرة التى كانت عامرة - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 5:35 م القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

آلبير آريه.. رحلة فى ذاكرة مدينة القاهرة التى كانت عامرة

البير آريه على كوبري قصر النيل في الخمسينيات
البير آريه على كوبري قصر النيل في الخمسينيات
كتبت ــ دينا عزت:
نشر في: الجمعة 27 نوفمبر 2015 - 9:45 ص | آخر تحديث: الجمعة 27 نوفمبر 2015 - 10:55 ص

• القاهرة تبقى أسطورية مهما تغيرت أحوالها

• وسط المدينة فى الأربعينيات كان يتحدث الفرنسية والإيطالية انعكاسًا لروح العصر

• ثورة يوليو أعادت القاهرة للمصريين ولشوارعها اللغة العربية

• الجاليات الأجنية كانت جزءًا من النسيج الاجتماعى الثرى للمدينة حتى منتصف الخمسينيات

• الانفتاح ورحيل أم كلثوم ورحيل عبدالحليم.. ثلاثى بدل وجه القاهرة

انه الرجل صاحب الذاكرة التى لا تغفل شاردة أو ورادة عن مدينة القاهرة، يرجع اليه كل من يحب النظر فى الصور الأبيض والأسود ليسألوه فى محبة دائمة «ألبير، هل هذا هو كازينو بديعة (مصابني) ام انه كازينو صفية؟»... أو «هل تظن يا آلبير ان هذه الصورة تظهر فيها بنات» عائلة الجواهرجى الآرمنى المعروف فى وسط القاهرة فى الاربعينيات من القرن العشرين ام انها لفتيات عائلة اخرى من ابناء الجالية الارمنية فى مصر ما قبل ثورة يوليو؟

انه آلبير آريه، المصرى اليهودى عاشق القاهر الذى يعيش الآن فى العقد التاسع من عمره تراه دائما هادئا مبتسما فى دعة تتوافق مع سنوات عمر عاشها فى «قاهرة المعز» منذ ولادته فى شارع الفلكى فى منزل اسرته اليهودية عام ١٩٣٠ وحتى اليوم حيث مازال يعيش فى الطابق الخامس من ذلك المنزل الكائن فى شارع البستان ومازالت اللوحة الخشبية المعلقة على بابه تحمل اسم والده جاك آريه.

ويقول آريه فى هدوء «هذا المنزل مازال كما هو، اشياء كثيرا لم نغيرها انا وسهير» شفيق – زوجته التى اقترن بها فى عام ١٩٦٦ بعد لقاءات على هامش نشاطات سياسية يسارية كانت قد ذهبت به فى الخمسينيات والستينيات إلى سجون دولة 23 يوليو.

مازالت طاولة الطعام التى احتفلت عليها الاسرة فى ١٩٤٥ بانتهاء كابوس الحرب العالمية الثانية والتى يبقى آريه فى ذكرياته على ايامها بوضوح «حيث كانت الشوارع فى المدينة امتلأت بالعساكر الأستراليين بعد العساكر الانجليز» وحيث كانت ثكنات الجنود الانجليز فى نفس المكان الذى يحتله اليوم مقر الجامعة العربية.

فى سنوات الحرب كان الليل يأتى ومعه صافرات الإنذار من الغارات الألمانية فيندفع آريه الطفل الذى كان يدرس فى مدرسة ليسيه باب اللوق مع والديه واخته الصغيرة إلى المخبأ الكائن اسفل كل العقار شأن أغلب مبانى القاهرة التى تم تشييدها اثناء أو بعد الحرب العالمية الاولى.

يخطو آريه إلى شرفة المنزل التى كان قد وجد يوما فيها اثناء الحرب العالمية الثانية شظايا أحد الانفجارات والتى شهد من عليها بدايات الاضطرابات السابقة لحريق القاهرة الذى نال عام 1952 من وجه القاهرة الخديوية وانتهك ضمن ما انتهك جزء كبير من محلات آريه للملبوسات فى ميدان مصطفى كامل فى يوم لم «يكن احد يعرف ما الذى يجرى فيه وظل الجميع يراقب عمليات الحرق الممنهج التى لم نعرف ابدا من كان يقف وراءها فعلا والتى نالت من المطاعم واجنسات (معارض) السيارات والمحال التجارية التى هى عصب وسط المدينة التجارى حيث توجد البنوك والمحال التى كانت بالأساس أجنبية.

«البداية كانت بحالة امتعاض من جانب بلوكات من الشرطة، وكانوا مسلحين بأسلحة قديمة ربما تعود لسنوات الحرب العالمية الاولى... ثم اختفت الشرطة بالكلية، اختفت كل اجهزة الدولة بما فى ذلك المطافئ والجيش... اختفت كما لم يحدث أبدا حتى فى يوم ٢٥ يناير ٢٠١١... ثم بدأ الحريق، البداية كانت بكازينو بديعة (مصابني)...ثم بعض محلات الجواهرجية... ثم اضرمت النار بصورة عشوائية فى كل الاماكن دون تفريق بين املاك الاجانب والمصريين بما فى ذلك المسيحيين والمسلمين» بحسب ما يروى آريه.

يقف آريه أمام الشرفة ويشير إلى ابنية لا جمال فيها وهى التى كانت قبلا منازل سكنية متوسطة الارتفاع، ينظر بحنين لا يخلو من أسى ولكن بإدراك لأن الحياة تجلب دوما التغيير ويقول «عندما اقف على هذه الشرفة اجد الكثير قد اختلف والكثير والكثير قد اختفى وتغير، ولكنها تبقى القاهرة.

آلبير آريه مع مجموعة من زملائه في مرحلة الطفولة

القاهرة التى يعرفها آريه عن ظهر قلب هى بالأساس وسط المدينة حيث كان حتى ما بعد منتصف القرن الماضى يسكن ابناء الجاليات الاجنبية واللاجئة من فرنسيين وآرمن وايطاليين ويهود وشوام وبعض من المثقفين وحسنى التعلم والعمل من المصريين.

وبحسب ما يتذكر آريه «لم يكن وسط المدينة مكانا للأثرياء فهؤلاء كان دوما مكانهم فى جاردن سيتى والزمالك بالقرب من وسط المدينة ولكن ليس فى قلبها، كانت منطقة وسط المدينة فى ذلك الحين اقرب ما تكون لمنطقة مصر الجديدة من حيث طبيعة ساكنيها، بينما كانت الطبقة المتوسطة الصغيرة، من ابناء كل الجاليات كما من المصريين انفسهم تعيش فى السكاكينى والضاهر والعباسية، وبقى دوما من كنا نقول عليهم ابناء البلد فى القاهرة القديمة – يستوى فى ذلك المسلمون والمسيحيون واليهود الذين كان الفقراء منهم يعيشون فى حارة اليهود ولم يكن لهم اختلاط كبير أو أى اختلاط يذكر بأبناء الاسر اليهودية التى تعيش فى وسط المدينة أو فى مصر الجديدة أو حتى فى السكاكينى وبالتأكيد ليس مع من عاش منهم فى المعادى أو حلوان حيث كانت المنازل الصغيرة ذات الحدائق الكبيرة اليانعة.

كانت القاهرة مختلفة جدا عما آلت اليه بالتأكيد – نعم ورغم ان كثيرين لا يستخدمون هذه الكلمات فى وصفها الا انها كانت بالفعل القاهرة الكوزموبوليتانية (عالمية). يقول آريه، «كثيرون كانوا يتحدثون باللغات الاجنبية، بالأساس الفرنسية والايطالية، حتى المصريين الذين كانوا فى وسط البلد كانوا يتحدثون معا بالفرنسية – كانت تلك روح العصر، كانت تلك طبائع الامور فى هذا الوقت – وبقى الحال على ما هو عليه بصورة ما لسكان هذه المدينة حتى بعد ان تغيرت، فعندما كنت التقى محمد سيد أحمد على سبيل المثال حتى اخر ايام حياته كنت اتحدث معه بالفرنسية بالضبط كما كنا نفعل عندما كنا فى شرخ ايام الشباب فى قلب وسط مدينة القاهرة، ابقينا على هذا الجزء فينا دوما، الامر لا يتعلق بالعربية أو الفرنسية، فأنا اتحدث بالعربية مع كل من عرفتهم فيما بعد بما فى ذلك هؤلاء الذين يتحدثون الفرنسية، لأنهم ليسوا ابناء تلك القاهرة التى عشناها فى الثلاثينيات ولعقود عدة تالية».

يقول آريه ان التغيير الذى حل بوجه القاهرة وروحها – سواء فى القلب عند وسط المدينة أو الانحاء من المعادى لمصر الجديدة ومن القاهرة القديمة التى رسمها نجيب محفوظ فى رواياته وحتى العباسية – كان تدريجيا، «كما العمر يأخذ اثره على وجوهنا واجسادنا رويدا رويدا ـ فى البداية يكون هادئا ذلك التغيير ثم يصبح عميقا غائرا – هذا ما حدث للقاهرة نالت منها يد الزمن كما منا جميعا ننحن الذين تجاوزنا الثمانين من اعمارنا... نبقى احياء ونتحرك ونأتى ونذهب ولكن ننظر لصورنا ننظر للمرآة ونتساءل عما حل بنا».

كان آريه شاهدا على بدايات التغييرات بعد ثورة يوليو ١٩٥٢ــ التى بدأت انقلابا ولكن «سرعان ما نالها التأييد الشعبى فعلا... ولا تصدقى من يقول ان الملك كان محبوبا لعموم المصريين فهذا غير حقيقي، كان هناك الكثير من الشعور بالغبن وحتى بعيدا عن البعد الاقتصادى كان هناك الكثير من الشعور بالقلق من حسن ادارة البلاد ومن حسن ادارة السياسة الخارجية فى اوقات صعبة خاصة بعد حرب ١٩٤٨».

التغييرات الأولى للقاهرة كانت مع تراجع واجهات التفرنج حتى وان لم يغادرها الاجانب، كما باقى انحاء مصر الا بعد حرب ١٩٥٦، لكن اريه كان قد اقتادته السلطات المصرية مع غيره من اعضاء «الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى» (حدتو) الشيوعية إلى السجن٫ وبينما كان يغادر السجن اول مرة فى عام ١٩٥٧ مرت سيارة الترحيلات بآريه عبر حى عابدين الذى كان دوما حيا شعبيا فوجد مجموعة من النساء وقد ارتدين ملابس على الطريقة الغربية فيما اشار إلى ان الثورة بدآت تغير المجتمع بالفعل

«لكن التغيير الاكبر فى رأيى كان عندما مشيت فى الشوارع لأجد الناس وقد اخذوا يتحدثون بالعربية... كان هذا اختلافا كبيرا، كان هذا احد اوجه ثورة يوليو التى اعادت القاهرة للمصريين من خلال عودة اللغة العربية، فأصبحنا جميعا نتحدث العربية.

ومع توالى نزوح الاجانب عن مصر مع القرارات الاقتصادية لجمال عبدالناصر بالتمصير التأميم ازدادت التغييرات على وجه القاهرة، بحسب رواية آريه... «لقد كانت الجاليات المتنوعة جزءا اساسيا من الصياغة المجتمعية لهذه المدينة ومع خروجهم اختفت اشياء كانت ترتبط بهم، بعض المحال اغلقت وبعضها بقى حتى وان احتفظ بنفس الاسم ولكن تغيير ما يعرضه لرواده الدين لم يعودوا ذات الرواد الذين ترددوا عليه من قبل... اختفى سكان وحل محلهم سكان آخرون بذوق مختلف واهتمامات مختلفة، فتغيرت اشياء صغيرة واشياء كبيرة... ربما بعض المطاعم رفعت من على قائمة الطعام اطباقا بدأتها ارتبطت بغياب من يقبل عليها من الرواد وربما صياغات الحديث السياسى على المقاهى تغيرت من الحديث عن الصراع السياسى بين القصر والاحزاب السياسية للحديث عن الصراع بين التحرر والامبريالية... وربما تراجع التسامح المجتمعى الذى كان يتيح حياة هادئة وآمنة وعادية تماما لليهود»، بحسب ما يروى آريه.

اختفاء اليهود بصورة شبه كاملة لم يبدآ مع ١٩٤٨ «ابدا» كما يظن البعض، بحسب ما يقول آريه، سواء بالنسبة للقاهرة أو غيرها من المدن... جاء بالأساس بعد ما يعرف بعملية لافون فى ١٩٥٤ التى اتهم وادين فيها ثلاثة من الشباب المصريين اليهود بالسعى للقيام بعمليات تخريب بإيعاز من السلطات الاسرائيلية وبالتحديد وزير الحرب الإسرائيلى بنحاس لافون.....ثم جاءت حرب ١٩٥٦ ثم تلتها حرب ١٩٦٧... فلم يعد من اليهود الكثيرين من يمكن له البقاء سوى اعداد قليلة جدا حتى لم يعد يبق منهم اليوم سوى اقل من ١٠ اشخاص، فهجرت أو كادت الكثير من المعابد التى كانوا يترددون عليها بما فى ذلك المعبد الكائن فى شارع عدلى والذى يعد من اثار القاهرة.

آلبير آريه في إحدى الندوات

الشىء الأكيد بالنسبة لآريه ان بعض الاشياء لم تذهب ابدا عن القاهرة، وخاصة منطقة وسط المدينة، قبل أو بعد ثورة يوليو وقبل أو بعد حرب ١٩٦٧ ومنها حفلة ام كلثوم التى كانت المدينة تكاد تتوقف لمتابعتها وكذلك صوت عبدالحليم حافظ الذى كان جزءا اساسيا من التركيبة الصوتيه للمقاهى التقليدية.

الشى الأكيد ايضا بحسب آريه ان التغيير الأكبر الذى طال القاهرة كان فى «منتصف حقبة حكم السادات مع دخول سياسات الانفتاح» ــ فى تزامن غير مقصود ولكن دال مع وفاة ام كلثوم فى فبراير ١٩٧٥ عبدالحليم فى مارس ١٩٧٧.

ومع نهاية السبعينيات قست يد الانفتاح وتبعاته الاجتماعية على القاهرة فحل محل الكثير من محال الورد وصالونات الشاى محال تجارية تكاد تعرض كل ما لديها فى واجهات كان ترتيبها امرا فى غاية الدقة قبل عقود قليلة من نهاية سنوات حكم السادات، ونقاشات انتقلت من حديث السياسة لحديث الصفقات وطرق فقدت رفقها بالمارة ثم فقدت تواصلها معهم عندما تهاوت وسائل النقل العام واكتظت فانصرف عنها كثيرون للتاكسيات ثم كم هائل من السيارات الخاصة... «فلم يعد الناس يسيرون إلى اماكن لقاء اصدقائهم كما كنا نفعل ولم يعد الطلاب يتحركون بسهولة من منازلهم للجامعة عبر وسائل مواصلات مناسبة»، فحل الزحام لينافس التغييرات المدنية والمجتمعية فى القسوة على العاصمة.

آريه نفسه لم يعد يسير كثيرا فى شوارع القاهرة، اتعبته الحياة واصبح يحتاج للتنقل بسيارة وهو ينظر كل يوم من نافذتها «لوجوه حلت محلها وجوها ولأماكن بقت دون من كان فيها أو ما كانت عليها، ولكن لمدينة تستمر وتبقى دوما.

 



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك