من منا لا يراوده حلم الصحة وطول العمر؟ الواقع أن الأمر فى بلادنا لا يتجاوز حدود دعوة تتردد دائما لإظهار الود أو للتعبير عن العرفان أو لعبور جسور المحبة «ربنا يديك الصحة وطولة العمر». أما فى «المناطق الزرقاء» فذلك واقع لا يحتاج لإثبات.
انتشرت فى السنوات القريبة الماضية تلك الفكرة البديعة التى صدر عنها عدد من الكتب المهمة: كيف يعيش الإنسان عمرا طويلا مليئا بالصحة والسعادة؟ الفكرة بدأت بمحاكاة تلك الحياة فى تلك المناطق الزرقاء على الكرة الأرضية. حيث تتجاوز الأعمار المائة ويشيخ الإنسان فى كرامة. حيث تنحسر الأمراض المعدية وتكاد تختفى أمراض التقدم فى العمر كالسكر وارتفاع ضغط الدم والسمنة ويغيب شبح الإيدز ويقترن ذلك براحة البال فلا ضغوط عصبية ولا اكتئاب ولا معارك حياتية يومية.
صدر هذا الأسبوع عدد خاص من المجلة الأوسع انتشارا فى العالم National Geographic يحكى أسرار تلك المعادلة المستحيلة فى المناطق الزرقاء.
خمسة أماكن فى العالم توصف بالزرقاء
يتمتع سكانها بأعلى قدر من الصحة حتى إن من الأمور العادية أن يتخطى الكثيرون حاجز المائة من العمر وهم فى صحة وحيوية تسمح لهم بالحركة فى حرية. تسجل الإحصائيات لديهم أدنى مستويات الإصابة بأمراض التقدم فى السن فلا يوجد سرطان ولا سكر أو ارتفاع فى ضغط الدم ولا تصلب لشرايين القلب والمخ، إنما أعمار طويلة وأوزان صحية وراحة بال.
عاد صحفى مجلة National Geographic ومصوروها بتقارير وافية عن تلك الحياة الزرقاء التى يعيشها سكان خمسة أماكن فى العالم.
(١) أكاريا فى اليونان: Ikaria Gruce
تلك الجزيرة البديعة فى بحر إيجه والتى تسجل الإحصائيات انعدام حالات خرق الشيخوخة أو انحسار الذاكرة بينما تغيب عنها أيضا حالات الوفاة فى منتصف العمر.
(٢) أوكيناوا اليابان: Okinawa
أكبر جزر تلك المجموعة من الجزر فى الأرخبيل شبه الاستوائى الذى يعد إحدى معجزات الطبيعة فى اليابان. فيها تعيش المرأة الأكبر سنا فى العالم الآن.
(٣) إقليم أوليا سنرا سردينيا: Ogliastra Sardinia
الجزيرة التى تتمتع بمرتفعات طبيعية تجعلها متميزة فى الأراضى الإيطالية. ويعيش فيها أعلى رقم من رجال تخطو حاجز المائة عام فى العالم.
(٤) لومالندا كاليفورنيا الولايات المتحدة: Loma linda California
وفيها تعيش طائفة (الأوڤنتست) ويتمتع سكانها بأعلى متوسط أعمار فى أمريكا.
(٥) نكويا بنسولا كوستاركيا: Nicoya Peninsula
حيث تمنح الطبيعة دعمها للإنسان: أقل نسبة أمراض معدية فى العالم أقل نسبة وفيات فى منتصف العمر وثانى أعلى معدل لتعدى الأعمار حاجز المائة عام.
ما السر الكامن فى تلك المناطق الزرقاء والذى يمنح ساكنيها السعادة والصحة وطول العمر؟
هل هى الجينات المتوارثة؟
هل هو أسلوب الحياة الذى يتبناه سكان تلك المناطق؟
هل هو الطعام الذى يأكلونه؟
هل هى الطبيعة البديعة والتى كانت عاملا مشتركا فى كل تلك المناطق الخمس؟
أم هى كل تلك العوامل مجتمعة؟ أو أن هناك شيئا آخر لا يعرفه العالم؟
ماذا حكى سكان المناطق الزرقاء؟
عاد صحفى المجلة ومصوروها بحكايات وأفكار من المناطق الخمسة.. جمعوا ما توافق منها فى تسع نقاط أطلقوا عليها: القوة تسعة The Power nine
ما الذى تعنيه القوة تسعة؟
أجمع سكان المناطق الزرقاء على أن أسلوب حياتهم الذى يرتكز على تسع عادات صحية ربما كان هو السبب الأساسى فى أنهم يتمتعون بحياة سعيدة وأعمار طويلة تميزهم عن غيرهم:
< تحرك فى طبيعة دائما: أطول الناس عمرا يتحركون دائما سيرا على الأقدام ذهابا إلى العمل والعودة منه، وزيارة الأصدقاء، والنزهة، أو واجب دينى فى أحد دور العبادة. لا مكان غالبا لوسائل المواصلات إلا عند الانتقال لمدينة أخرى متى كان ذلك ضروريا.
< هدف للحياة: جاءت معظم الإجابات لتؤكد ضرورة أن يكون للإنسان هدف للحياة يسعى لتحقيقه لا علاقة له بالعمل الذى يمارسه. فالعمل وسيلة لكسب نفقات الحياة. أما الحياة ذاتها فيجب أن يكون لها هدف آخر شخصى.
وجود هذا الهدف يضيف سبعة أعوام لعمر الإنسان فى المتوسط وفقا لتحليل العلميين من فريق المجلة.
< الخلاص من القلق والضغوط النفسية: كان إجماع سكان المناطق الزرقاء على ضرورة مقاومة القلق والتخلص من الضغوط النفسية أمرا واضحا فى تبنى كل منهم طريقته الخاصة. اليابانيون يلجئون لأوقات يومية يخصصونها لتذكر من سبقوهم خاصة أقاربهم المقربين. أما الأوڤنتست فى كاليفورنيا فيلجئون للصلوات اليومية بينما فى اليونان يلجئون لإغفاءة العصر بينما لا يفوت أهل سردينيا ساعتين يوميا للمرح ولقاء الأصدقاء.
< قاعدة الثمانين فى المائة: لا يملأ اليابانيون أبدا معدتهم حتى الشبع يقفون دائما عند حدود الثمانين فى المائة لا يزيدون عليها أبدا. لذا فأوزانهم دائما صحية لا يعانون من السمنة وتداعياتها. كذلك يحتفظون بها ثابتة لا تتغير مع التقدم فى السن.
< الحبوب هى حجر الزاوية: الحبوب ومنها الفول، الفاصوليا، اللوبيا، العدس، أم الصويا فهى حجر الزاوية فيما يأكل أصحاب العمر الطويل والأكثر سعادة بين شعوب العالم.
أيضا اللحوم فى كميات صغيرة لا تقارن بما يأكله الأمريكيون فى بلادهم على سبيل المثال.
< النبيذ: يتناول الجميع النبيذ بلا إفراط حتى طائفة الأوڤنتست فهم يجمعون على أنه يضيف للطعام بعدا اجتماعيا خاصة فى وجود الأصدقاء.
< الترابط الاجتماعى: العلاقات الاجتماعية القوية هى أحد الاختيارات التى ترى بوضوح فى مجتمع المناطق الزرقاء. على سبيل المثال فى أوكيناوا باليابان ينتقى خمسة من الأصدقاء بعضهم البعض بعد دراسة لطباع وأخلاق الجميع ليعلنوا ولاءهم لبعضهم البعض للأبد فى حلقة لا تنفصل على مر السنين.
< الخدمة العامة: التطوع لمساعدة الآخرين أيا كان المجال أمر وارد فى كل مجتمعات المناطق الزرقاء. يرى العلميون من فريق المجلة أن هذا وحده أفضل وسيلة للتخلص من القلق والشعور بالرضا والهدوء النفسى والانتماء للمجتمع الذى يعيش فيه الإنسان فلا يخشاه بل يحتمى به. وأن ذلك الإحساس وحده يعطى للإنسان فرصة أن يمتد عمره من ٤ ــ ١٤ سنة أكثر من متوسط أعمار العاديين من البشر.
< العائلة تأتى فى المقام الأول دائما: هذا ما يؤمن به ساكنو المناطق الزرقاء. يفضلون الاستثمار فى أبنائهم وتأتى العائلة دائما فى مقدمة الاهتمامات. لذا فإن الأبناء دائما أقرب إلى طاعة أسرهم. يعتنون بهم بصورة لا تراها فى مجتمعات أخرى خاصة مع تقدمهم فى السن. يؤدى الأبناء للآباء والأمهات والجدود واجبات تعد مقدسة لديهم الأمر الذى يزيد من تماسك مجتمعاتهم وتفردها ويعطى لديهم جميعا ــ الآباء والأبناء ــ قدرا من السلام النفسى الذى يعد بوابة حقيقية للسعادة وطول العمر.
إذن فتلك القواعد التى تصنع قانون الحياة فى المناطق الزرقاء تبقى إذن تفاصيل الحياة اليومية التى تمايز بين تلك المجتمعات التى ينظر إليها باقى البشر بإعجاب لا يخلو من حسد.
يبقى أيضا السؤال الأهم: هل يمكن لإنسان يعيش فى القاهرة بزحامها وضجيجها وتلوث هوائها والحدة التى أصبحت تلازم سلوك أهلها أن يصنع حول نفسه منطقة زرقاء يحلم فيها بالصحة والسعادة وطول العمر؟
سؤال نجيب عنه فى الأسبوع المقبل...
إن شاء الله تعالى...