بسمة حماد تكتب: الذكر والكهف - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 3:54 ص القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بسمة حماد تكتب: الذكر والكهف

إشراف - هشام أصلان
نشر في: الثلاثاء 31 مارس 2015 - 2:54 م | آخر تحديث: الثلاثاء 31 مارس 2015 - 2:54 م

خرج من كهفه فى وقت لا يجوز له فيه الخروج. خرج ليلاً والليل هو ملك شرعى للوحوش لا يقاسمها فيه البشر. خرج يهتز غضبا وقلقا، يضرب بقدمه الغليظه الأرض فيخيل له أنها تهتز تحت وطأة غضبه. كان ضوء القمر المكتمل ساطعا يملأ الأرض نورا لا يرقى لنور الشمس ولكنه كاف له ليرى اين يضع خطواته المقبلة الغاضبة.

لكن الخطوات الغاضبه عمياء لا ترى أمامها حتى ولو فى نور الشمس.

اندفع فى طريقه لا يعلم إلى أين، تلاحقه صرخاتها، تتسمك بقدمه أهاتها فيعدوا أكثر وأكثر كما لو كان يهرب منها. تتوقف الصرخات فيتوقف هو عن العدو ويرهف السمع، يبدوا لوهله أنه سيتراجع ويعود لكهفه ولكنه مع أول صرخه ينتفض كمن تلقى ضربه سوط من نارعلى ظهره فيعدوا أكثر قوة وغضبا عن قبل. ومع كل ضربه قدم له تصرخ الأرض ألما وهى تحتضن قدماه القاسيه فيرفع رأسه إلى السماء ناظرا بغضبٍ أشد من السابق كما لو كان يضرب على أبوابها هى الأخرى بنظرات غضبه ولكن السماء تفاجئه فتفتح له أبوابها متقبله التحدى مطلقه عليه زخاتها تلاطمه على خدّيه وتوخز عينيه المُتحدّيه فتسكت دقاته، يُغمض عينيه ويُطأطئ رأسه ويُعيد النظر لطريقه الذى لا يتبينه الآن من شدة المطر، الذى تحول فى ثانية من مجرد زخات إلى وبلٍ كثيفٍ. يستمر فى العدو وسياط الألم تجلده بقوة أكبر فيعدوا بشدة حتى ليكاد يحترق من سرعه عدوه فتُزيده السماء من مائها لتطفئ حرائقه ولكنه لا يأبه بنفسه ولا ما حوله وإنما يعود عقله لكهفه الذى نسى إغلاقه بالصخرة.. ثم يتذكر أن المطر سيمنع الوحوش الليلية من الخروج من مخابئها.. فيطمئن ويرجع إلى حاله مع الألم.

يرى البحر أمامه فينسى غضبه للحظة ويرمى نفسه بين أحضانه الهائجة الأكثر غضبا منه.. يغوص فى العمق الأكثر هدوءا، ليفكر ويبتهل ويدعو، فلطالما استجيبت دعواته التى دعاها وهو فى أحضان الموج، إلا أهم دعواته وهى أن يرزق بذكر وليس أنثى أخرى، وأن يعيش هذا الذكر، ولا يموت أو يؤكل كسابقيه.

تسأل: لِمَ هو الوحيد الذى لا يعيش له ذكر؟! لقد قام بكل ما عليه من واجبات وقدم قرابين لكل الإلهه إلهته وحتى إلهه أخوته وعشيرته.. فلما لا يرزق بذكر قوى يعيش مثلهم!

هو الأشد قوة بين أخوته والأغلظ يدا والأطول رمحا.. فلما لا يرزق بذكر!

يندفع برأسه خارج الماء ليلتقط أنفاسه فتلطمه الأمواج على وجهه وتذجره زخات المطر، فيعود للأعماق مرة أخرى.

لديه أربع إناث ومات له ستة ذكور الذين لو عاشوا لكانوا له السند الآن فى رحلات صيده اليومية، والتى بعد فترة غير بعيدة لن يستطيع القيام بها وحده فهو ليس بقوة العام الذى مضى أو الذى قبله..

كل عام يرحل ترحل معه بعض من قوته ولا تعود.

من سيُطعم كل تلك الإناث؟ خمس إناثٍ فى البيت، خمسة أفواهٍ مفتوحة كل يوم لا تتوقف عن المضغ والبلع، ولا عن الصراخ مطالبة بحقها فى الحياة.

أين حقى أنا؟ اريد من يعاوننى على همومهم.. على إسكات أفواههم الجائعة دائما.. أريد ذكر.. أريد ذكور

يرفع رأسه مرة أخرى ليلتقط أنفاسه فيعمى عينيه البرق ويصم أذنه الرعد.. فيعود للأعماق مرة أخرى

هو كان ذكرا قويا.. كان اقوى اخوته الذكور جميعا.. ولكنه تمرد على الحياه وسط عائلته ومشاركتهم صيده الوفير.. استكثر عليهم قوته وقرر ان ينفرد بها لنفسه ليصنع عائلته وجماعة صيده الخاصة. الآن هم يصطادون معا وقت الوفرة ويتقاسمون ما يصتادونه وقت الجفاف.. أما هو ومن مثله مِمَن انعزلوا عن جماعتِهم وكونوا جماعات متفرقة فلا يتمتعون بمثل ذلك الأمان المتوفر وسط الجماعة الكبيرة.. ومع ذلك كان همّ الجميع همُّ بسيط فهم جميعا أنجبوا الذكور، الذين بدأوا يساعدوهم فى الصيد، أما هو فكل من أنجبهم من ذكور ماتوا أو أوكلوا.. لِمَ لا تختار الوحوش فرأسها من الإناث؟! تركت له إناثه تنمو وتكبر وأكلت الذكور الأكثر نفعا وأهمية.. يُخرج رأسه مرة أخرى ليلتقط أنفاسه فيخيل له أن صرخات أنثاه توقفت، وأن المولود نزل إلى أرض الكهف الرطبة وأنه بدأ الصراخ مطالبا بحقه فى الحياة هو الآخر، فكر ماذا لو كان المولود ذكرا قويا مثلى وكبر وتعلم الصيد ثم تركنا وكون جماعته الخاصة مثلما فعلت مع جماعتى، ماذا سأفعل وقتها وسأكون صرت أكثر ضعفا من الآن، قرر الغوص فى الأعماق مرة أخرى.. فهناك يكون جلى الأفكار.

إناثه يبدوّن قويات مثله.. فالكبرى تشبه الثور فى غلظتها وضربه قدم منها كفيله بتفريق جمع من إناث القبيلة. والثانية تشبه فرس النهر هادئة، ولكنها قوية لا تظهر قوتها إلا وقت الحاجه فتباغت عدوها الذى ظنها لوهلة ضعيفة طيبة، ابتسم حينما تذكر أنها تشبه فرس النهر حقا فهى تأكل كثيرا جدا.. اتسعت ابتسامته فكاد يضحك، وهو يقول فى نفسه تحتاج صياد متفرغ لسد فمها وحده. والثالثة تشبه الفيل فهى قادرة على حمل الصخور الثقيلة للكهف طوال اليوم دون كلل أو تأفف فهى مع قوتها صبورة، وهى الآن أصبحت تزحزح صخره الكهف الكبيرة كل يوم وحدها فتُدخل نور الشمس للكهف لتوقظنا، وفى الليل تعيدها مكانها فننام آمنين شر الوحوش، والرابعة مع صغر سنها إلا أنها ذات قبضةٍ قويةٍ، عندما تمسك بقدمى، وأنا خارج للصيد لا يخلصنى من قبضتِها إلا أمها عندما تحملها.

خرج برأسه من الماء مرة أخرى فوجد أن غضب السماء قد توقف، ووجد أن البحر غدّى أكثر هدوءا كحاله هو.

سبح فى اتجاه الشاطئ وخرج من الماء، سار تحت ضوء القمر المغسول مرتاح لما توصل إليه من قرار.

خطا نحو الكهف لا يهمه الوحل الذى يعيق طريقه ففى جوفه أصبحت هناك فكرة سرعان ما ظهرت على عينيه، ووضحت فى ثبات نظراته وخطواته.

سيكون هو أول من فعلها.

سيهزأ منه أخوته...

سيقولون إنه لا يستطيع أن يطعم إناثه ولا يستطيع أن ينجب لهم ذكراً يطعمهم من بعده..

ولكن هل هو من يطعم أخوته الإناث الآن وأمه؟

ماذا لو أنجب ذكرا، وتركهم هو الآخر؟
وماذا لو لم يجد ذكور القبيله كلهم رغبه فى احدى بناته وهذا اصبح يحدث كثيرا الان....هل يتركهن فريسه للموت جوعا؟

أم يتركهن يُقَدّمن قرابين للإلهه لأنه لا يوجد من يطعمهم؟

دخل كهفه بوجه غير الذى خرج به حمل طفله الملفوف فى فرو أرنب برى، ولأول مرة لم يبحث ولم يسأل هل هو ذكر أم أنثى.

لأنه كان قد اتخذ قرارا لن يختلف سواء كان المولود ذكرا أم أنثى.

هو سيعلم إناثه الصيد.



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك