قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل: العالم على حافة مواجهة بين واشنطن وموسكو لعدم التزام إسرائيل بوقف القتال (10) - بوابة الشروق
الجمعة 10 مايو 2024 2:04 م القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل: العالم على حافة مواجهة بين واشنطن وموسكو لعدم التزام إسرائيل بوقف القتال (10)

الكاتب الكبير - محمد حسنين هيكل
الكاتب الكبير - محمد حسنين هيكل
عرض ــ خالد أبوبكر
نشر في: الجمعة 31 أكتوبر 2014 - 10:18 ص | آخر تحديث: الجمعة 31 أكتوبر 2014 - 3:52 م

تصل بنا هذه الحلقة من القراءة التى تقدمها «الشروق» لكتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» للكاتب الصحفى الكبير، محمد حسنين هيكل، إلى ذروة ما سماه «الأستاذ» «التوثيق العميق» فى سياق عرضه لمجرى الحوادث فى الأيام التى سبقت تثبيت قرار وقف إطلاق النار الصادر يوم 22 أكتوبر 1973 على جبهات القتال، والتى انتقلت فيها الحركة الرئيسية فى الحرب من المسرح العسكرى إلى المسرح السياسى، الذى قاتل السادات لتكون مسارات الحركة المصرية عليه بيده وحده، سواء عبر القنوات السرية أو العلنية.

«التوثيق العميق»، كما يعرفه الكاتب الكبير، يعنى أن «الوثائق تصبح بذاتها نسيج نصوص الكتاب، وصلب روايته»، وهو ما وصل ذروته فى هذه الحلقة التى تكشف ــ بالوثائق ــ ذلك الارتباك الذى شاب إدارة السادات لـ«السياسة» فى مرحلة من أخطر مراحل حرب أكتوبر، بعد أن بذل «السلاح ورجاله» أقصى ما يمكن بذله من العرق والدم فى ميادين القتال.

نيكسون وبريجينيف عاشا صراعًا عنيفًا خلال حرب أكتوبر

يتحدث الكاتب الكبير ــ فى الكتاب الصادر عن دار «الشروق» ــ عن أحداث يوم 23 أكتوبر، فيقول «لم يكن كل شىء هادئا فى ميادين القتال بعد أن سرى مفعول وقف إطلاق النار عند منتصف الليل، كانت القيادة المصرية قد التزمت بالقرار وتوقعت التزاما إسرائيليا مماثلا، ولكن ذلك لم يتحقق كما كان متصورا، والذى حدث أنه عند الساعة المقررة خف النشاط العسكرى بطريقة ملحوظة، وكان الظن أن تلك هى المقدمة لوقفه تماما، لكن النشاط عاد يزداد تدريجيا، ومع فجر 23 أكتوبر كانت الطوابير الإسرائيلية المدرعة تتحرك.

واتصل الفريق أحمد إسماعيل بالسادات مبكرا يخطره بأن القوات الإسرائيلية تواصل عملياتها، وكان أول ما خطر للرئيس هو أن يطلب من مستشاره للأمن القومى حافظ إسماعيل الاتصال بهنرى كيسنجر (وزير خارجية الولايات المتحدة) عن طريق القناة السرية، وكتب إسماعيل «يود السيد إسماعيل إخطار الدكتور كيسنجر بأن القوات الإسرائيلية انتهكت وقف القتال، وتحاول استغلال الإذعان المصرى لقرار مجلس الأمن 338 بتاريخ 22/10/1973، باحتلال مواقع جديدة (...) ويود الجانب المصرى معرفة الإجراءات التى ستتخذها الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى، لضمان الإذعان الإسرائيلى والاحترام الكامل لوقف القتال».

ويضيف «الأستاذ» أنه فى الوقت الذى تلقى فيه كيسنجر رسالة إسماعيل كانت هناك رسالة أخرى على وشك أن تسلم إليه من السفير الأمريكى فى تل أبيب كينيث كيتنج، وبدت هذه الرسالة لكيسنجر مؤشرا لشكل الحوادث القادمة، فقد احتوت تفاصيل مقابلة بين رئيسة وزراء إسرائيل جولدا مائير وكيتنج، وكان أهم ما فيها: أن مائير أبلغته بأنها تجد صعوبة كبيرة فى إقناع الكنيست وأحزاب المعارضة بوقف إطلاق النار!، وسجل كيتنج فى تقريره أنه لاحظ صمت مائير عما يجرى على الجبهة المصرية، وسألها فى ذلك، وردت عليه بصراحة كاملة قائلة: «إن قوادها العسكريين رجوها فى يومين إضافيين أو ثلاثة يواصلون فيها القتال لتحقيق هدف حصار الجيش الثالث».

ويؤكد الأستاذ على أن كل الوثائق تشير إلى أن إسرائيل أعلنت قبولها لوقف إطلاق النار وهى عازمة على خرقه بصرف النظر على أية اعتبارات. وأن القيادة الإسرائيلية العسكرية أعطيت تفويضا بالحركة، وفق ما تراه مناسبا لها.

واجتمع موشى ديان والجنرال بارليف واستقر رأيهما على عدم الانتظار، وكان الهدف فى الواقع مزدوجا: محاولة السيطرة على السويس والاندفاع إلى ميناء الأدبية (وقال بارليف إنه يحتاج إلى يومين لتنفيذ هذه العملية). مع محاولة حصار الجيش الثالث وقطع طرق إمداده وتموينه، واتخاذه أداة للضغط على الجانب المصرى فى أى مفاوضات مقبلة.

عصبية السادات

ويواصل الكاتب الكبير بأن القتال كان يتسع على الجبهة، وكان جليا أمام السادات أن القتال الذى يجرى هناك لا يقتصر على مخالفات محدودة لوقف إطلاق النار، كما أنه لم يكن مطمئنا إلى الرد الذى بعث به كيسنجر إلى حافظ إسماعيل بواسطة القناة السرية، ردا على رسالته إليه قبل ساعة واحدة، فقد بدا له هذا الرد مائعا إلى درجة يمكن أن تحرجه أمام القيادة العسكرية وأمام القوات (الرد منشور بالكتاب).

ورأى السادات أن يستدعى السفير السوفيتى، لوضعه فى صورة ما يحدث على الجبهة، كما قرر الموافقة على اقتراح من إسماعيل فهمى، وزير الخارجية بالنيابة، بتقديم مصر شكوى إلى مجلس الأمن متهمة إسرائيل بانتهاك قرار وقف إطلاق النار.

ويؤكد «الأستاذ» على أن السادات كان «يزداد عصبية لحظة بعد أخرى، ورأى أن يبعث إلى كيسنجر برسالة أخرى أكثر شدة، عن طريق القناة السرية جاء فيها «لقد لفتنا انتباهكم بشدة إلى أخطار وقف القتال، ومن أجل ذلك طالبنا بضمانات بتنفيذ كلا الجانبين لالتزاماتهما بمجرد أن يقبلا وقف القتال (...) وإسرائيل تستغل هذا الموقف، وتطور مواقعها على الجانب الغربى لقناة السويس، لإيجاد موقف عسكرى جديد. وعلى ذلك فإن مطلب الحكومة المصرية هو أن الحكومة الأمريكية يجب أن تقوم رسميا وعاجلا بالتدخل لوضع نهاية لهذا التطور طبقا لتعهدات الحكومة الأمريكية الحازمة، وإعادة الموقف إلى ما كان عليه وقت وقف القتال».

الوضع فى موسكو كان ساخنا تجاه ما يحدث فى الشرق الأوسط، ويقول «الأستاذ» إن الزعيم السوفيتى ليونيد بريجينيف كان غاضبا، وقام القائم بالأعمال السوفيتى فى واشنطن فورونتسوف بإبلاغ غضبه إلى كيسنجر، ناقلا إليه رسالة من بريجينيف، جاء فيها «إن القوات الإسرائيلية لاتزال تتحرك على الضفة الغربية لقناة السويس وتقوم بعمليات واسعة النطاق، وهذه المعلومات ليست من المصريين، وإنما هى من وسائلنا الخاصة بالاستطلاع، وأن هذا الأمر غير مقبول، ويشكل من جانب الإسرائيليين عملية خداع صارخة يصعب السكوت عليها، ولابد أن يدينها مجلس الأمن وأن يطالب بوقفها، وأن يحدث هذا فى ظرف مدة لا تتجاوز الساعتين».

وأحس كيسنجر بأن بريجينيف غاضب فعلا، وأن موقف الاتحاد السوفيتى قد يتغير. واتصل بالسفير الإسرائيلى سيمحا دينتز ورجاه أن ينقل لجولدا مائير مخاوفه من احتمالات تعقد الموقف، واقترح عليها أن تتراجع القوات الإسرائيلية «بضع مئات من الياردات»، قائلا لها «إن ذلك قد يكفى لتهدئة غضب السوفيت». ولم تقبل مائير الاقتراح.

الرئيس الراحل محمد أنور السادات

وكان السادات تحت ضغوط القيادة العسكرية والقوات والرأى العام قد ازداد شعورا بخطورة الموقف، وقرر أن تكون رسالته الجديدة عن طريق القناة السرية باسمه صراحة وموجهة إلى الرئيس الأمريكى ريتشارد نيكسون شخصيا (منشورة فى الكتاب)، ومما جاء فيها «إن الحكومة المصرية ستعتبر الحكومة الأمريكية مسئولة مسئولية كاملة عما يحدث حاليا (عدم التزام إسرائيل بوقف القتال)، بالرغم من ضماناتكم، ومن قرار مجلس الأمن الذى تبنته الولايات المتحدة بالاشتراك مع الاتحاد السوفيتى».

ويؤكد الكاتب الكبير على أن «غضب السادات كان واضحا، وأراد كيسنجر فيما يبدو احتواءه مبكرا برد مناسب، وأراد أيضا أن يكون هذا الرد حازما. فقد لاحظ كيسنجر أن رسالة السادات احتوت نقطتين لم يجد أنه يستطيع السكوت عليهما: حديث عن ضمانات أمريكية قدمت لمصر (وقد علق على ذلك بقوله إن السادات يخطرنا بأنه قبل منا ضمانات لم نقدمها إليه!). وطلبه أيضا استخدام قوات أمريكية وسوفيتية فى وقف انتهاكات إسرائيل عن طريق التواجد فى خطوط القتال والقيام بأعمال المراقبة».

فى نفس الوقت كان الزعيم السوفيتى بريجنيف يكتب إلى الرئيس الأمريكى نيكسون أيضا وكانت رسالته نافدة الصبر وحادة، وبدا ذلك من أول سطر فيها، فقد وجهها إلى نيكسون بصيغة مختلفة عن الصيغة التى كان يكتب بها عادة، كان فى العادة يوجه رسائله إلى «صديقى الرئيس»، والآن كان يكتب إليه موجها الحديث قائلا «الرئيس المحترم المستر نيكسون»، وتحدث بريجينيف فى رسالته عن «الخيانة الإسرائيلية فى انتهاك وقف إطلاق النار، وتحدى الإرادة الدولية وهيبة القوتين الكبيرتين»، ووصل فى رسالته إلى حد المطالبة بـ«ضرورة اتخاذ أشد الإجراءات حزما وبدون تأخير مع إسرائيل، لفرض احترام وقف إطلاق النار».

وكتب «كيسنجر» مشروع رد باسم «نيكسون» يرسل لـ«بريجينيف»، ووافق عليه الرئيس الأمريكى، وجاء فيه: «إننى أريد أن أؤكد لك أننا نتحمل كامل المسئولية عن تحقيق وقف كامل لإطلاق النار، لكننا نريد إبلاغكم بأن معلوماتنا هى أن مسئولية انتهاك وقف إطلاق النار تقع على الجانب المصرى، ومع ذلك فإن هذا الوقت ليس أنسب الأوقات لمناقشة من هذا النوع، لقد طلبنا إلى إسرائيل أن تتخذ من جانبها كل الخطوات الفعالة لوقف العمليات. ونحن ندعوكم إلى أن تقوموا بنفس الشىء مع الجانب المصرى».

ورأى كيسنجر بعد ذلك أن يعاود الإلحاح على السفير الإسرائيلى سيمحا دينتز؛ فاتصل به يبدى مخاوفه من احتمال أن يتقدم الاتحاد السوفيتى بمشروع قرار إلى مجلس الأمن يوجه اللوم إلى إسرائيل، ويحملها مسئولية انتهاك وقف إطلاق النار. ورد عليه دينتز قائلا «إن الحكومة الإسرائيلية تتوقع فى هذه الحالة أن تقوم الولايات المتحدة باستعمال حق الفيتو لإسقاط أى مشروع قرار يوجه اللوم إليها، أو يفرض عليها اتخاذ خطوة لا تريدها».

وانتهز «كيسنجر» فرصة قيام دينتز بإبلاغه رسالة جولدا مائير وأبدى له بعض مخاوفه:

• إنكم تريدون ضرب الجيش الثالث بتدميره أو بتجويعه. وهذا سوف يؤدى إلى مواجهة مع الاتحاد السوفيتى.

• إنكم تضغطون على «السادات» بحيث تضعفون موقفه فى أى مفاوضات معكم.

• إن «السادات» يقترب بسرعة من أمريكا، وينبغى لكم أن تشجعوه على ذلك بدلا من أن تعرقلوا خطواته. فبرغم كل ما يجرى على الجبهة فقد ختم رسالته الأخيرة للرئيس «نيكسون» بقوله: «مع أحر تحياتى». وقد اندهشت شخصيا من هذه العبارة فى هذا الوقت!.

وفى نهاية ذلك اليوم الحاسم اتخذ مجلس الأمن قراره رقم 339 بعد أن عدل نص مشروعه الأصلى من «مطالبة إسرائيل» بالعودة إلى خطوط 22 أكتوبر. فجعلها «مناشدة إسرائيل!».

يوم 24 أكتوبر

ينتقل الأستاذ بعد ذلك لما دار يوم 24 أكتوبر، فيقول «رغم صدور القرار 339 عن مجلس الأمن، فإن القوات الإسرائيلية راحت تواصل هجماتها طوال ليلة وصباح 24 أكتوبر. وكان تركيزها على الجيش الثالث، ومرة ثانية رأى السادات أن يستعمل القناة السرية فى رسالة موجهة باسمه إلى نيكسون وكان نصها كما يلى «ردا على رسالتكم المؤرخة 23 أكتوبر 1973، أود إحاطتكم علما بأن الإسرائيليين استأنفوا هجماتهم على مواقع الجيش الثالث على كلا الجانبين الشرقى والغربى للقناة، والذى أطلبه منكم هو ما وعدتم به: أى التزام إسرائيل بقرار وقف القتال، ويجرى حاليا إبلاغكم بهذا الإعلان، وإبلاغ مجلس الأمن، ومع ذلك فإن الإسرائيليين يواصلون إطلاق النار على مواقع الجيش الثالث.

واسمحوا لى أن أكرر القول بأنى أطلب منكم التدخل، حتى على الأرض، لإرغام إسرائيل على الإذعان لوقف القتال، الأمر الذى كثيرا ما وعدتم به. وإذا كان هدفنا هو الوصول إلى تسوية نهائية كما تصورتم، فإن الانتهاكات الإسرائيلية الراهنة لوقف القتال، توجد تطورات خطيرة، سوف تعرقل تحقيق هدفنا».

كان «كيسنجر» مازال يحاول أن يكسب وقتا. وهكذا فقد أعد ردا موجها إلى السادات من نيكسون جاء فيه «لقد تلقينا لتونا إخطارا من رئيسة وزراء إسرائيل بأنه قد صدرت تعليمات مشددة للقوات الإسرائيلية المسلحة بالبقاء فى مواقع دفاعية، وألا تطلق النيران، إلا إذا أطلقت عليها النيران».

ويواصل «الأستاذ» بأن الواقع على الأرض يقول إن الهجمات الإسرائيلية كانت لاتزال مستمرة، وتركيزها بالدرجة الأولى على الجيش الثالث، وعادت القناة السرية إلى العمل تحمل رسالة من حافظ إسماعيل إلى كيسنجر (منشورة بالكتاب)، وعزز السادات هذه الرسالة بأخرى إلى نيكسون، كان نصها كما يلى: «لقد تلقيت رسالتيكم المؤرختين 24 أكتوبر 1973، أود أن أعيد تأكيد حقيقة أن القوات الإسرائيلية على الجانب الغربى للقناة مسئولة عن انتهاك وقف القتال، وتقوم بعمليات هجومية، محاولة عزل الجيش المصرى الثالث شرق القناة. وأود إخطاركم بأننا نوافق على إرسال فورى لمراقبين أمريكان أو قوات أمريكية لتنفيذ قرارات مجلس الأمن الصادرة يومى 22 و23 أكتوبر 1973، وأخطرت الاتحاد السوفييتى بأمر الرسائل المتبادلة بيننا، وأنا أطلب رسميا أيضا من الاتحاد السوفيتى اتخاذ إجراء مماثل».

ويواصل الكاتب الكبير قائلا: «أحس كيسنجر أن صبر الجانب المصرى يمتحن بأكثر مما يحتمل، وأن ذلك قد يكون دافعا له فى اتجاه الاتحاد السوفيتى، وأراد أن يقوم بعملية تثبيت ونقل للأنظار وللاهتمام، وهكذا اختار أن يلوح مرة أخرى بقطعة سكر تصور أنها قد تكون قادرة على الإلهاء؛ فكتب إلى حافظ إسماعيل عن طريق القناة السرية رسالة (منشورة بالكتاب) قال له فيها إنه مستعد لزيارة القاهرة يوم 15 نوفمبر، أى أن كيسنجر يلوح الآن بزيارته لمصر، وهو يعلم أن السادات متشوق لها، ثم إنه عن طريق التلويح بالزيارة يحكم سيطرته على ردود الفعل المصرية.. وصبرها الذى يبدو وكأنه ينفد!

هنري كسنجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق

أزمة دولية

ويواصل «الأستاذ» بأنه «فجأة، ارتفعت حرارة الموقف بطريقة فرضت على العالم كله أن يركز أنظاره على الأزمة مأخوذا ومضطرب الأنفاس. فقد صدر فى موسكو بيان يحمل توقيع بريجينيف شخصيا، كان فى واقع أمره إنذارا؛ فجاء فيه «أن استمرار العدوان الإسرائيلى سيسفر عن عواقب وخيمة إذا لم يتوقف هذا العدوان على الفور، ونظرا إلى أن إسرائيل لم تلتزم بقرارات مجلس الأمن، ونظرا لما يبدو من أن الولايات المتحدة تنقصها الرغبة فى التعاون بغرض تطبيقه، فإن الاتحاد السوفيتى سوف يقرر لنفسه منفردا اتخاذ الخطوات الضرورية والعاجلة لتأكيد احترام وقف إطلاق النار، فلا يمكن لإسرائيل أن تفلت من مسئولية انتهاكاتها له».

واتصل كيسنجر بالسفير الإسرائيلى فى واشنطن سيمحا دينتز يلفت نظره إلى أن الإنذار السوفيتى يمثل تطورا خطيرا، خصوصا أنه وصلت إليهم معلومات بأن ثلاث فرق سوفيتية محمولة جوا وضعت تحت حالة الطوارئ، كذلك فإن تحركات الأسطول السوفيتى فى البحر الأبيض لابد لها أن تثير القلق، وأخيرا فإن صدور البيان السوفيتى باسم بريجنيف يحمل دلائل شؤم، فذلك معناه أن القيادة السوفيتية وضعت هيبتها فى الميزان.

 وأضاف كيسنجر قائلا لدينتز «إن الولايات المتحدة فعلت كل شىء من أجل إسرائيل حتى الآن، ولكن لابد لإسرائيل أن تدرك أن هناك حدودا فى العلاقات الدولية يجب مراعاتها، وأن أحد هذه الحدود هو عدم التسبب فى إحراج أو المساس بهيبة زعيم إحدى القوتين الأعظم».

ووجد «كيسنجر» أنه مطالب بحركة سريعة للالتفاف بالمناورة حول الإنذار السوفيتى حتى لا تتحرج الأمور ويجد الجميع أنفسهم عند حافة الهاوية!

وسارع بالاتصال بالسفير السوفيتى فى واشنطن دوبرينين، وبادره قائلا «يظهر أن الجنون التقليدى فى الشرق الأوسط يمارس دوره مرة أخرى، فكل طرف من الطرفين المصريين والإسرائيليين يزعم أن الطرف الآخر يكسر وقف إطلاق النار. لكن الولايات المتحدة اليوم واثقة من أن الجيش المصرى هو الذى كسر وقف إطلاق النار آخر مرة، ونحن نحاول أن نتأكد، ونرجوكم أيضا أن تتأكدوا». ووعد «دوبرينين» بأن يتصل بموسكو للحصول على تأكيد.

ولم يمض على هذا الاتصال أكثر من دقائق حتى عاد كيسنجر إلى الاتصال بدوبرينين (وهدفه إرباكه على حد تعبيره)، وكان فى هذا الاتصال يفضى إليه بأن «إسرائيل عرضت على الولايات المتحدة أن يتوجه الملحق العسكرى فى تل أبيب إلى الجبهة للتأكد من أن الجيش الإسرائيلى يلتزم بوقف إطلاق النار». ووصل كيسنجر فى هذا الحديث مع دوبرينين إلى ما هو أكثر من ذلك. فقد أفضى إليه بأن السادات على اتصال بالرئيس نيكسون عن طريق قناة سرية. ومع أن رسالته توضح أنه غاضب. فإن غضبه لم يصل إلى الدرجة التى وصل إليها غضب بريجينيف!! (وكانت الوقيعة بالطبع بين مقاصده).

ويقول «الأستاذ»: يبدو أن بريجينيف لم يكن على استعداد للدخول إلى فخاخ كيسنجر. فقد بعث برسالة إلى واشنطن موجهة إلى نيكسون، وكانت أكثر شدة من كل ما سبقها: لم تكن مقدمة توجيهها «إلى صديقنا الرئيس نيكسون» ولا «إلى الرئيس نيكسون المحترم»، وإنما كان توجيهها بعبارة «السيد الرئيس، إننا نسائل أنفسنا عن الهدف من وراء كل ما يجرى أمامنا من تصرفات. وأنا أريد أن أقول لكم بصراحة إننا واثقون من أن الولايات المتحدة لديها كل الإمكانيات للضغط على إسرائيل حتى تضع نهاية لهذا المسلك الاستفزازى الذى تنتهجه. وكنا نأمل أن يلتزم كلانا بمصداقية كلمته وبالاتفاق الذى توصلنا إليه. وأنا أريد أن أتلقى منك على الفور معلومات بشأن الخطوات التى سوف تتخذونها لإرغام إسرائيل على الالتزام الفورى والكامل بقرارات مجلس الأمن بومى 22 و23 أكتوبر». وعندما اطلع «كيسنجر» على هذه الرسالة، اتصل بالرئيس «نيكسون» يقترح عليه أن يكتب رسالة بنفسه إلى جولدا مائير يطلب منها وقف العمليات العسكرية فورا.

جولدا مائير رئيس وزراء إسرائيل الأسبق

• حافة الهاوية

يؤكد الكاتب الكبير على أنه فى يوم 25 أكتوبر كان العالم فى مواجهة أزمة حقيقية يمكن أن تؤدى إلى مواجهة بين القوتين النوويتين الأعظم فى العالم، ومع ذلك فإن اليوم بدأ بداية غريبة فى كل من القاهرة وواشنطن، ففى القاهرة تحركت القناة السرية تحمل رسالة من حافظ إسماعيل إلى كيسنجر (منشورة بالكتاب)، واللافت للنظر أن موضوعها تركز على زيارة كيسنجر القادمة للقاهرة.

وفى الساعة 9.35 مساء بتوقيت واشنطن (4.35 صباحا بتوقيت موسكو) اتصل السفير السوفيتى فى واشنطن أناتولى دوبرينين بكيسنجر ليبلغه برسالة عاجلة من بريجينيف وقد كلف «نظرا لدقة الموقف وتسارع التطورت بأن يقرأها له على التليفون»، وكانت رسالة بريجينيف تقول: «إن الاتحاد السوفيتى يرى أن الوقت قد حان لكى تعمل القوتان الكبيرتان معا، وأن يقوم الاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة على وجه الاستعجال بإرسال وحدات من قواتهما المسلحة إلى منطقة الصراع، وتكون مهمة هذه القوات أن تتأكد من تطبيق قرار مجلس الأمن بتاريخ 22 و23 أكتوبر، وبغرض فرض احترام وقف إطلاق النار وإيقاف كل العمليات العسكرية.

إنه من الضرورى الاستجابة لهذا الطلب بدون تأخير. وإننى لأقول صراحة إنه إذا لم يكن فى مقدوركم التصرف معنا بطريقة مشتركة لمواجهة هذا الموقف، فإننا سوف نرى ما يمكن عمله منفردين. وفى كل الأحوال، فنحن لا نقبل أن تتصرف إسرائيل بطريقة تعسفية معتمدة على تأييد الولايات المتحدة».

وكان أخطر ما فى هذا الإنذار السوفيتى الأخير ــ بحسب «الأستاذ» ــ أنه جاء مصحوبا بتحركات عسكرية سوفيتية تسترعى الانتباه، منها أن أسطول النقل السوفيتى يعاد تجميعه لمهمة أخرى، وأن قوات ألمانيا الشرقية وضعت فى حالة استعداد. وأن وحدات بحرية سوفيتية تصل إلى 12 وحدة، بينها قطعتان برمائتيان تتجه بأقصى سرعة إلى ميناء الإسكندرية.

ووجه كيسنجر دعوة إلى مجموعة العمل الخاصة فى البيت الأبيض، وأراد أن يكون الاجتماع فى البيت الأبيض لكى يظهر للسوفيت أنه فى هذا الموقف يتصرف باسم الرئيس مباشرة. واقترح كيسنجر إعلان حالة التأهب من الدرجة الثالثة، أى حالة الاستعداد للعمليات ووضع القوات الاستراتيجية الجوية تحت حالة الإنذار. وإخطار الفرقة 82 الأمريكية المحمولة جوا والمتمركزة فى ألمانيا أن تستعد للحركة. وتوجيه حاملة الطائرات «فرانكلين روزفلت» أن تقلع من ميناء نابولى فى إيطاليا وتنضم إلى حاملة الطائرات «أندبندنس» جنوب كريت.

وقال كيسنجر فى نهاية الاجتماع إنه «إذا ارتعشت أقدامنا الآن فسوف نجد أنفسنا فى مشكلة حقيقية.. إن كل الإجراءات التى اتخذت فى هذا الاجتماع سوف تصل إلى القيادة السوفيتية وتدعوها إلى التفكير قبل أن يصلها الرد الأمريكى الرسمى على رسالة بريجينيف».

وكان آخر ما قاله «كيسنجر» فى هذا الاجتماع إنه «ربما تكفل السادات بإنقاذ الجميع من هذا الموقف إذا هو استجاب بطريقة «عاقلة» للرسالة الأخيرة التى بعثنا بها إليه محذرين من عواقب «مواجهة نووية» بين القوتين الأعظم على أرض الشرق الأوسط».

وحول ما جرى صباح 26 أكتوبر يقول «الأستاذ»: فى الساعة الثامنة صباحا استيقظ كيسنجر ليكتشف أن السادات تصرف على النحو الذى تمناه فى الليلة السابقة. فقد بعث برسالة (منشورة بالكتاب)، خلص منها كيسنجر بأن هذه الرسالة تعنى أن السادات سحب طلب مصر بقوة أمريكية سوفييتية مشتركة. وكان هذا الطلب هو سبب استحكام الأزمة. وأن ذلك معناه أيضا أنه حتى إذا كان الاتحاد السوفيتى يستعد لإرسال قوات إلى مصر فإن هذه القوات لن تصل على الإطلاق لأنها لا تستطيع أن تذهب إلى أراضى دولة لم تعد تدعوها إلى الحضور، وأن هذا يعنى أيضا أن «مسار الأزمة يتجه إلى صالحنا.. فقد خرجنا على قمة الموقف»، ويعنى أن السادات وضع مصيره فى يد الولايات المتحدة. وتوجه كيسنجر بسرعة إلى مقابلة مع نيكسون» يبلغه بأن الولايات المتحدة «انتصرت فى المواجهة».

ويعلق الكاتب الكبير قبل نهاية الجزء الثانى من الكتاب وعنوانه «على طريق الحرب» قائلا «كانت عجلة الحوادث قد دارت دورة كاملة. فمصر التى كتبت إلى كيسنجر من قبل، وفى ظروف مختلفة، تقول إنها لا تريد أن تفرض المهانة على إسرائيل، أصبحت تتلقى من إسرائيل الآن أنها «لا تعرض عليها الاستسلام ولا المهانة»!

ويختم بقوله «كان الطريق خطرا ومليئا بالمنحنيات وصاعدا إلى قمم عالية ونازلا إلى أخاديد عميقة، مضيئا أحيانا ومعتما أحيانا ومظلما فى أحيان أخرى. عشرون يوما تقريبا ــ من 6 أكتوبر إلى 27 أكتوبر 1973ــ عشرون يوما زلزلت الشرق الأوسط بعنف وهزت موازين العالم، وكادت تودى به إلى حافة مجهولة لا أحد يعرف حساباته بعدها وإلى أين».

الحلقات السابقة:

قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل : روايتى عن حرب أكتوبر تدور أساسا حول السادات - (1)

قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل:مأزق السادات بعد رحيل عبدالناصر - (2)

قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل: معركة السادات مع «مراكز القوى» والرهان على واشنطن للوصول للحل السلمى - (3)

قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل: مصر عاشت نوعا من الانفصام بين السياسة والسلاح عام 1972 - (4)

قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل: معجزة البشر على جبهتى سيناء والجولان في أكتوبر 1973 - (5)

قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» هيكل: «السياسة» تكشف خطوط «السلاح» بعد 20 ساعة قتال - (6)

قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة».. لهيكل: تطوير الهجوم المتأخر يتسبب فى حدوث ثغرة الدفرسوار - (7)

قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل: غليان فى القيادة المصرية بشأن تصفية الثغرة - (8)

قراءة في كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل: السادات يقبل قرار وقف إطلاق النار دون إبلاغ سوريا - (9)



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك