لماذا مدائن العقاد؟! (6)

رجائي عطية
رجائي عطية

آخر تحديث: الأربعاء 1 يناير 2020 - 10:20 م بتوقيت القاهرة

يستطيع الباحث فى مدينة العقاد، أن يرى اتجاهًا واضحًا، من البواكير، للعناية بفلسفة الجمال والحرية، وأن يلمس اهتمامًا بقراءة وآراء كبار الفلاسفة، يرى بواكير ذلك فى «خلاصة اليومية»، ويراه يعرض لبعض آراء الفيلسوف شـوبنهور فى كتاب «الإنسان الثانى ـ المرأة» (1912)، وفى مقالات مجموعة «الفصول»، التى تعرض فيها لفلسفة المعرى، وكتب عن «أطلال المذهب المادى»، وعن دارون و«مذهب النشوء والارتقاء» وعن نيتشه وفلسفته، وعن المهاتما غاندى، وعن جوستاف لوبون وكتابه «سر تطور الأم» ويرى اهتمامه ببيان آرائه فى «فلسفة الحياة والأدب»، وفى «فلسفة الجمال والحب»، والحدث عن «عبقرية الجمال» وعن المعارض الفنية، وعن «قيم الحرية»، وتعرضه بالتفصيل والتقويم لماكس نوردو وفلسفته وكتاباته ومؤلفاته، وكتابه فى «الأخلاق وتطور الإنسانية»، وكتابه «الاضمحلال» أو الانحطاط، وكتابه «الأكاذيب المقررة فى المدنية الحاضرة».

وبمناسبة احتفال فرنسا ببلوغ أنا تول فرانس الثمانين كتب عنه الأستاذ العقاد للبلاغ فى 22 أبريل 1924.

حمل أناتول فرانس لواء الشك فى عصر الشكوك، وجعل حقيقته هى الحقيقة العليا بأسلوب رائع ونفس مطمئنة، تدل على أن الشك لا ينتزع من طبيعتها انتزاعًا، وإنما هو آتٍ من معدنه الذى يجود به عفوًا. وليس هذا الشك، طبقًا لتوصيفه، كالشك الذى تتحدث به كتب الإنجليز والروس والألمان، فقد يبدو مسوقًا فيها كرهًا وأن المفصح عنه نادم على تعجله فى إبدائه.

هذا الرجل الذى بلغ الثمانين (وقد تُوفى بنفس العام فى 12 أكتوبر 1924)، وبَلاَ الحياة بحلوها ومرها، يسأل نفسه بماذا خرج منها، فيجيب «لا شىء»، فلا حقيقة على الإطلاق!

فكل شىء صالح للبرهان إلاَّ ما تشعر فى نفسك بأنه حقيقة مثلما يقول أناتول فرانس فى مقاله عن «فلسفات الجمال» أو «قصور الورق» كما يسميها. فالحقائق كلها اعتبارية نسبية، والعقل البشرى لا يحتمل الحقيقة المطلقة.

وهذه الفلسفة هى فلسفة «النسبية» التى أعلنها أناتول فرانس وأدى رسالتها قبل أن يظهر أينشتين صاحب هذه الفلسفة فى عالم الرياضة والعلوم.

وقد بلغ من شك أناتول فرانس أنه يشفق على الحماقات من التفنيد، لأنه يعلم أنها متبوعة لا محالة بحماقات أخرى تحل محلها، وقد لا تروقنا مثلها. ويقول فى ذلك «إننى أعتقد أن الإنسانية لها ذخيرة واحدة من السخافة والبلادة فى كل حين، فلا تنقص ولا تزيد، وكأنما هى رأس المال لا ينفد وإن اختلفت البضاعة التى تصرفه فيها».

الأمر الحقيق بأن يعرف ــ فى نظره ــ هو: «أليست الحماقات والترهات التى جللها القدم هى خير ما يربحه الإنسان من رأس مال بلادته؟! إن الحماقات القديمة بعد دراسة المسألة من جميع وجوهها ــ لهى أهون حملا من أخواتها الجديدة، لأنها صقلت بصقال الزمن وكاد القدم يمحو عنها إثمها ويكفر عن خطيئتها».

أناتول فرانس
على أنه لا شك فى شك أناتول فرانس فيما يرى الأستاذ العقاد، فأناتول فرانس
لا يؤمن بشىءٍ على التحقيق، ولا يبرئ أو يخلى مثلا من أمثلة الحياة العليا من الوهم والخداع. حتى الفن المرتدى مسوح الكاهن القانت فى معبده، ما هو إلاَّ خيال، وما لذته إلاَّ اختراع من مخترعات النفوس.

والفرق بين أناتول فرانس وغيره ممن يتشككون، أنه لا يزدرى الأمانى المخترعة، ولا يهجرها ليأخذ بدين الواقع المحدود الذى يدين به صغار النفوس وضعاف العقول. بل هو يرى من أفضل فضائل الواقع أن يعيننا أحيانًا على الخيال، وهو أنفس ما فى الحياة وأصدق ما يكشف لنا عن غاياتها.

ومن الناس من يشك فى كل شىء، لضيق نفسه عن استيعاب ما فى الكون من الجمال والعظمة، وربما دعاه ذلك إلى مجافاته وعدم المبالاة به. أما أناتول فرانس فلا يشك فى الحقائق الجارية إلاَّ لتعظيمه هذا الكون وإكباره له عن أن يحصره العقل فى فكرة محدودة أو حيز محدود.

لا معرفة فيما يريد فرانس أن يقـول، إلاَّ فيما تحسـه، ولا حقيقـة لك إلاَّ الشعور. فاشعرْ بكل ما فى الحياة من لذة وألم، ومن متعة للفكر والجسد، واستوف حظك من شعورك تنل كل ما تخوله لك هذه الدنيا من معرفة.

وهذه الحقيقة المباركة المنجية ــ فيما يقول ــ منطوية فى جميع الديانات، وهى أن للناس قائدًا هو القلب أجدر بالثقة من العقل، والأولى بنا أن نصغى إلى ما يمليه القلب. القلب يقودك إلى الأمل فى المستقبل، فلا تكذبه، ودعه يستمتع بهذا الشعور ــ ويمتعك به ــ بما يبعثه من أمل.

والشعور هو مادة الحياة، والعقل زيادة طارئة.
الغباء والخطأ ملازمان لازمان للحياة لزوم الخبز والماء.
هذه هى فلسفة أناتول فرانس فيما يستقطره الأستاذ العقاد.

على أنه مهما تكن للشكوك من حجة، فلا ريب أنها لا تملك القدرة على تصريف مقادير الوجود. ولا يصح أن يكون شعارها «إن كل شىء ككل شىء».. وإلاَّ لما وجد شىء على الإطلاق.

ويرى الأستاذ العقاد أن أناتول فرانس لا يتفلسف وإن بحث فى أعضل مسائل الفلسفة، فهو الفيلسوف الفنان والمفكر الصانع والكائن الأنيق، وربما استهزأ بلغة الفلاسفة المعقدة واصطلاحاتهم المبهمة.. حتى كان يوصى المدرسين بقوله: «كن فيلسوفًا ولكن تلطف فى إخفاء فلسفتك حتى تكون شبيهة بالعقول التى تسمعها فى البعد عن التصنع. واجتنب لغو الاصطلاحات ثم اشرح بلغة سهلة يفهمها الجميع....».

ليس بضائع الوقت المبذول فى قراءة أى كتاب لأناتول فرانس، فإن كنت مشغولا عن الاستقصاء، فاكتف ــ بما يوصى الأستاذ العقاد ــ «بتاييس» و«حديقة أبيقور»، وإلاَّ فاكتف بحديقة أبيقور، فإن فيها على إيجازها بلاغًا من فلسفة الرجل فى الأدب والحياة، وخلاصة لما فاضت به المجلدات التى سح بها قلمه الفياض. ثم يبقى أن الرجل إمام من أئمة الأدب باتفاق الجميع وأستاذ من أساتذة البيان بلا نزاع.

عمانويل كانت
ربما خالجك الظن وأنت تقرأ افتتاحية مقال الأسـتاذ العقاد عن عمانويل كانت، الفيلسوف الألمانى الكبير، ونظامه الصارم ومواعيده بالغة الدقة فى نظام حياته، أنك تقرأ عن العقاد نفسه، أو أنه اقتدى به فى دقة نظام حياته وصرامة مواعيده وما أخذ نفسه به.. فمن قرأ للأستاذ العقاد أو عنه، يعرف دقته الشديدة فى نظام حياته، والتزامه الصارم بالمواعيد، وفيما أخذ به نفسه من نظام يومى لا يتغير. هكذا كان عمانويل كانت (1724 / 1804)، يعيش فى نظام دقيق صارم لا يتغير، وكأنه آلة، يستيقظ فى الخامسة، وبعد دقائق يتناول مشروبه، ثم يعمل فى القراءة والكتابة والمراجعة لساعتين، ثم يلقى محاضرته، ثم يعود إلى مكتبه حتى الواحدة. ثم يستعد للغداء فيقضى على المائدة ساعتين أو ثلاثًا مع رفاقه وأصحابه. ثم يخرج فى الساعة الرابعة لرياضته المشهورة لا يقدم دقيقة ولا يؤخر دقيقة، مهما كانت ظروف الطقس، حتى اعتاد الناس أن يضبطوا ساعاتهم على مواعيد رياضته. ومنها يعود إلى منزله ليقرأ الصحف وما شاكلها من القراءات الخفيفة، ثم يحضر درسه لليوم التالى، ثم يذهب إلى فراشه فى الساعة العاشرة بالتمام، أيًّا كان الميقات الذى يأتيه فيه النوم. وظل الرجل على ذلك طوال عمره، حتى وصفوه بأنه «آلة» فى معيشته، وإن كان عميق الأغوار بعيدًا عن الآلية فى نفسه.

لم يكن كشأن هينى أو غيره ممن انشغلوا بالحب، فهو لم يحب، بل لم يتزوج، وحين خطر ذلك بباله مرتين، طفق يفكر ويوازن فى تدابير النفقة حتى تزوجت الأولى قبل أن يكاشفها، وعادت الثانية إلى وطنها «وستفاليا» قبل أن يهم بخطبتها، وكان هذا آخر عهده بالتفكير فى الزواج.
Email:rattia2@hotmail.com
www.ragai2009.com

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved