مبالغات

بسمة عبد العزيز
بسمة عبد العزيز

آخر تحديث: السبت 1 فبراير 2014 - 10:15 ص بتوقيت القاهرة

فى صفحات الحوادث أخبار تثير الدهشة؛ رجل يقتل جاره بسبب رفع صورة أو علامة ما، لا الصورة تخص القاتل ولا العلامة تؤذيه مباشرة، لكن القتل يصبح رد الفعل المختار. خلاف بين سائق وراكب على إذاعة أغنية من الأغنيات يتحول فى لحظة إلى مشاجرة، يتقاذفان خلالها وابلا من السباب والألفاظ القاذعة، ثم يلقى السائق بزبونه من العربة على أثرها. لا تمدح الأغنية أولهما ولا تحمل ذما للثانى، لكن التخلص من أحدهما يصبح الحل الفورى والمثالى. مدرس يضرب تلميذا ويكسر عظامه بسبب عبارة ذات طابع سياسى، وتلميذ يُعتَقَل بسبب بعض الأدوات الكتابية المزدانة ببعض الشعارات. لا هذا ولا ذاك ارتكب جرما، لا هذا ولا ذاك استحق ما تَلَقَّاه، إنما هى مبالغاتنا التى صارت نمطا معتادا للحياة فى الفترة الأخيرة.

بعض الناس يبالغون فى تصرفاتهم وردود أفعالهم نكاية وتشفيا، والبعض الآخر يبالغ مُحَاولا جذب انتباه مَن حوله. هناك مَن يدفعه الخواءُ الداخلى إلى تجسيم انفعالاته كلها بأكبرِ مِن حجمها الطبيعى، وهناك من يدفعه فائضُ المشاعر السلبية المشوشة إلى انتهاج كراهية مهولة وغير مبررة؛ كراهية مُبَالَغ فيها. على كل حال، مِن الناس مَن يكون مبعثَ مبالغاته محضُ ظمأ واشتياق؛ قد تعكس المبالغة فى إظهار الابتهاج والسرور تعطشا كبيرا للارتواء منهما، وقد تدل المبالغة فى الغضب على شوق لامتلاك القوة، ورغبة فى نفض العجز وقلة الحيلة. مشاهد الفرح التى نقلتها وسائل الإعلام فى الاحتفالات الشعبية بالخامس والعشرين من يناير كانت تحمل الكثير من المبالغة فى تفاصيلها، وتعبيرات رجال الدولة ومسئوليها وتهديداتهم جاءت بالمثل أيضا.

•••

المبالغة ببساطة هى تضخيم الشيء بعيدا عن حقيقته؛ قد تثير الضحك لطرافة ما تفعله بالناس، لكنها قد تبعث أيضا على الشفقة إذ تبعدهم عن الإدراك المتزن للأمور. بالغت وسائل الإعلام فى نظريات المؤامرة التى تحيكها ليل نهار، حتى وصلت بها إلى ذروة الملهاة؛ فقدمت لمشاهديها مؤخرا الشخصية الخيالية «أبلة فاهيتا» باعتبارها أحد أقطاب الجاسوسية. سارت المبالغة فى طريقها المعتاد، غير المنطقى بطبيعة الحال، فجعلت بعض الناس يستلقون على ظهورهم ضحكا، بينما جعلت آخرين يتجهمون ويتحفزون لرد العدوان الخارجىّ الأثيم. هذه المبالغة ــ وهو الأسوأ ــ جعلت امرأة بسيطة تفقد اتزانها أمام فاجعة حَلَّت بها، وتجنح إلى اتهام «أبلة فاهيتا» بقتل زوجها. ظهرت المرأة تصرخ وتبكى بكاء لا يملك إنسان إلا أن يحزن له ويتعاطف معه، لكن المشكلة أن مقدار الحزن كاد أن يعادله مقدار العبث فى الموقف هذا. وسط العويل والهتاف والدموع ومع سير النعش وتكبيرات حامليه، تحول أسى المرأة وانفعالها إذ فجأة إلى منبع للسخرية على مواقع التواصل الاجتماعى، فالمرأة فى الفيديو المعروض لها توجه لومها وغضبها ويقينها أيضا إلى الشخصية الخيالية، تتهم عروسا غير حقيقية، مجرد شخصية كارتونية ساخرة، بأنها أعطت أمرا على شبكة الإنترنت بتفجير الطائرة التى حملت على متنها الزوج، قالت المرأة خلال تشييع الجنازة التى نقلتها القنوات الفضائية: «أبلة فاهيتا نزلت لهم قبل الانفجار بساعة الإشارة أمس وقالت لهم يا ما نفسى أطير فى الهوا وابقى مع العصافير، وبعدها بساعة حدث الانفجار».

•••

ما من شك أن هذا التصور الذى حاكته المرأة المكلومة فى ذهنها هو نتاج لعملية الشحن المعنوى المجنون، التى تسير على قدم وساق فى برامج التليفزيون وحواراته ونشرات أخباره وفيما تقدمه قنوات الإذاعة أيضا، نتاج للمبالغات غير المنطقية التى تجد لها مرتعا خصبا فى ظل لوثة جماعية يباركها النظام. ما من شك أيضا أن المرأة حملت وجعا كبيرا ولوعة لا تضاهيها لوعة، لكنها لم تدر أين تذهب بهما، وممن تقتص. لا يُسمَحُ لها بالقطع بإلقاء اللوم على الجهة المسئولة، ولا يتبقى لها إذن سوى اللجوء لما يمكنها تفريغ مشاعرها تجاهه دون أن تخشى العواقب، لا يتبقى لها سوى أن تطرح عقلها جانبا وتغرق فى الوهم والخيال. تطالب المرأة بملاحقة أبلة فاهيتا ومحاربة شرورها، ربما كما حارب دون كيشوت طواحين الهواء.

•••

قد نعى أننا نبالغ وقد لا نعى ما نفعله مطلقا، لكن المؤكد أن المبالغات التى تُقَدَّم إلينا كل يوم على أطباق من الفضة، تصدر عن كامل وعى وإدراك؛ نتلقفها نحن بصدر رحب، وبإقبال وحماسة وقدرة عظيمة على الامتصاص والهضم والإخراج. المبالغة فى عناوين الصحف تحرض الناس على شرائها، والمبالغة فى طرح مواضيع بعينها فى القنوات التليفزيونية تجذب المشاهدين، لكنها أيضا جزء من عملية التضليل التى نخضع لها. شيئا فشيئا تذوب الحدود والفواصل التى تحدد الواقع وتفصله عما سواه، نتحسس عقولنا فيما يضحك من أفعالنا ومبالغاتنا الآخرون.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved